أبعاد الغزو البرتغالي لجدة
ترتب على فتح السلطان محمد الثاني (الفاتح) للقسطنطينية، وإزالته للإمبراطورية الرومانية الشرقية من الوجود عام 857هـ/1453م، ثم توغل الجيوش العثمانية في البلقان؛ انفجار براكين الغضب والحقد في نفوس نصارى أوربا تجاه الإسلام وأهله، وخاصة لدى البابوية في روما. وتحت ضغوط المشاعر العدوانية ضد المسلمين، والمشوبة بالذعر الشديد وبلهيب البغضاء اللذين أثارهما الزحف العثماني القوي على أوربا من جهة الشرق؛ شرع البابا نقولا الثاني (1558-1561م) يدعو الممالك الأوربية الصاعدة بإلحاح لتجريد حملة صليبية كبرى ضد الإسلام للقضاء عليه نهائياً، وذلك بعد الوصول إلى مهده من طريق آخر غير طريق البحر المتوسط الواقع آنذاك تحت سيطرة المسلمين.
البرتغاليون يتحركون:
لأن البرتغال كانت آنذاك قد أنهت الوجود الإسلامي في غرب الأندلس، وورثت القوة الإسلامية البحرية الضاربة على ساحل المحيط الأطلسي، واستفادت من التقنيات التي طورها المسلمون في الشئون الملاحية؛ فقد كانت هي المعنية بتنفيذ رغبة البابا العدوانية تلك، ومن ثم إشعال فتيل الحرب الصليبية ضد المشرق الإسلامي من جديد. وهكذا انطلقت الأساطيل البرتغالية، ذات التقنيات العالية، والمزودة بالمدافع العملاقة، عبر المحيط الأطلسي، ترفرف عليها راية الصليب، نحو إفريقيا، التي ستنطلق منها إلى قلب بلاد المسلمين، وعلى ظهرها آلاف البحارة المغامرين المشبعين بالحقد والكراهية والتعصب الديني ضد المسلمين، والمتحفزين لقتلهم والثأر منهم واستئصال شأفتهم أينما وجدوا. وكانت صكوك الغفران التي زودهم بها البابا، وأيضاً وقوعهم تحت هاجس انتصار المسيحية العالمي، يشعلان الحماس بشدةٍ في نفوسهم ويغريانهم أكثر فأكثر، للمخاطرة بأرواحهم، وركوب الأمواج العاتية للمحيط الأطلسي، والانطلاق من خلالها إلى هدفهم المقصود، وهو تطويق العالم الإسلامي من الجنوب وتوجيه ضربة قاتلة له من الخلف بصورة مباغتة، وبالتالي السيطرة على خيراته. وفي عام 1498م، وبعد عدة محاولات جريئة، تمكن البحارة البرتغاليون المغامرون من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وبالتالي الدوران حول إفريقيا، والوصول إلى سواحلها الشرقية والانطلاق منها إلى الهند، وقد أقام البرتغاليون لهم في سواحل الهند قواعد ثابتة، بحيث راحت سفنهم تنطلق منها للانقضاض على سواحل المسلمين الجنوبية والشرقية، وإحراق المدن الوادعة، وإغراق سفن الحجاج في البحر، ومهاجمة السفن الإسلا`مية التجارية في المحيط الهندي بلا هوادة، وفعل الأفاعيل بالمسلمين. ولم يكتف البرتغاليون بالاعتماد على أساطيلهم المتطورة ومدافعهم العملاقة، وعلى روح المغامرة والحماس الديني، والرغبة المجنونة للانتقام من المسلمين لدى قراصنتهم المتعصبين، وعلى بناء القلاع الحصينة في مراكز الدفاع المهمة على الساحل الإفريقي والهندي؛ وإنما عمدوا أيضاً إلى التحالف مع ثلاث قوى أساسية في المنطقة المحيطة بالعالم الإسلامي، كانت تضمر العداء الشديد للإسلام وأهله، وكانت في الوقت نفسه في حالة حرب مع المسلمين، كلٌّ في منطقته، وهي: دولة فيجاياناجار الهندوسية في الهند، والدولة اليعقوبية في الحبشة، والدولة الصفوية في إيران. فاستفاد البرتغاليون الغزاة من الأولى في ترسيخ وجودهم في سواحل الهند، واستفادوا من الثانية في ترسيخ وجودهم في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، واستفادوا من الثالثة في ترسيخ وجودهم في الخليج العربي، والتحكم بمصير خط التجارة المهم المار بالبصرة - بغداد - حلب - الثغور الشامية. وإن هذا، بجانب ضعف المقاومة الإسلامية التي وجدوها في البحر الأحمر والبحر العربي، واتسام موقف المماليك بالتردد والضعف، قبل وبعد تدمير البرتغاليين لأسطولهم في معركة ديو البحرية في الهند عام 1509م، وغير ذلك من العوامل؛ قد أغرى البرتغاليين أن يتبنوا مخططاً صليبياً بلغ الغاية في العدوانية والوحشية والنزوع الإجرامي، ألا وهو عبور سفنهم المزودة بالمدفعية الثقيلة مضيق باب المندب، والتوغل في البحر الأحمر شمالاً، والسيطرة على ميناء جدة والانطلاق منه براً إلى مكة والمدينة واقتحام الحرمين الشريفين فيهما، ثم تدمير هاتين المدينتين المقدستين، ثم مواصلة الزحف شمالاً إلى تبوك، ومنها إلى القدس، لإحياء المملكة الصليبية، التي قضى عليها صلاح الدين بعد انتصاره على الصليبيين في حطين عام 1187م. وقد اقترنت أقوال البرتغاليين بالأفعال في هذا الخصوص بعد تعيين ألفونسو البوكيرك نائباً لملك البرتغال في الهند عام 1509م.
البوكيرك وخطته لتدمير مكة:
كان البوكيرك أشهر الأميرالات البرتغاليين في المحيط الهندي، وكان في الوقت نفسه أشدهم وحشية ودموية، ونزعة صليبية، ورغبة جامحة في سحق المسلمين، وهو المؤسس الحقيقي للاستعمار الأوربي في الشرق، وعرّاب التحالف الإستراتيجي بين البرتغاليين والصفويين، وهو أول من نقل المعركة بين المسلمين والصليبيين إلى داخل البحر الأحمر. وكان لفرط تعصبه الديني ونزوعه الإجرامي يحلم بأن يجعل مكة والقاهرة أثراً بعد عين، وقد عبّر عن ذلك في مناسبات عديدة، فقال مخاطباً جنوده قبيل احتلاله لمدينة ملقة (سنغافورة حالياً): «إن خدمة جليلة سنقدمها لله بطردنا العرب من هذه البلاد، وبإطفائنا شعلة محمد، بحيث لا يندلع لها بعد ذلك لهيب.. وإنني على يقين أننا لو انتزعنا تجارة ملقة من أيديهم لأصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين، ولامتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل، ما لم يذهب تجارها إلى البرتغال لشرائها من هناك». وكان البوكيرك قبل تعيينه نائباً لملك البرتغال في الهند قد قضى عدة سنوات يتجول في البحر الأحمر والبحر العربي والخليج العربي ويمارس القرصنة في مياهها ضد السفن الإسلامية، ويهاجم القرى والمدن الساحلية على جوانبها، بصورة وحشية ليس لها مثيل، ويمارس صنوف التعذيب بحق الصيادين العزل، وكان في الوقت نفسه يجمع المعلومات عن أحوال المسلمين وقدراتهم الدفاعية. ولذلك فإنه بعد تعيينه حاكماً على المستعمرات البرتغالية في الهند وشرق إفريقيا اشتد الخطر البرتغالي ضد المسلمين، وبدأ مرحلة جديدة من مراحل تطوره في البحار الجنوبية والشرقية، ثم إنه لم يلبث أن بعث برسالة إلى ملك البرتغال يرغبه في غزو الأراضي المقدسة في الحجاز وتدمير مكة، وذلك انطلاقاً من ميناء جدة، الذي لا يبعد عنها سوى عشرات الكيلومترات، لأن جدة كانت خط الدفاع الأخير عن الأراضي المقدسة من جهة البحر، وباحتلالها تصبح الطريق مفتوحة إلى مكة. وقد أكد البوكيرك لمليكه سهولة تحقيق هذه الخطة، لعدم وجود قوة عسكرية كافية في مكة لحمايتها، لأن أغلب من كان فيها هم الدراويش الصوفية، الذين لا يتقنون حرفة القتال ولا يحملون أي سلاح، ومستهيناً أيضاً بقوة القبائل العربية، التي يمكن أن تهب للدفاع عن الكعبة، لعدم امتلاك هذه القبائل للأسلحة النارية التي يمتلكها البرتغاليون، ولا شك أنه كان له جواسيس في مكة، وهم الذين زودوه بهذه المعلومات. وقد طرح البوكيرك هذه الخطة، بدلاً عن خطة غزو القدس، التي كانت تلهب حماس الكنيسة الكاثوليكية وملك البرتغال وبطانته، نظراً لصعوبة تحقيق هذه الخطة في ذلك الوقت، لأن القدس كانت بها قوة مملوكية كافية لحمايتها، على عكس مكة والمدينة، وكان البوكيرك مقتنعاً غاية الاقتناع بنجاح خطته لتدمير مكة، ولذلك جاء في رسالته لملك البرتغال، ما يلي:
«ليس في جدة ومكة أناس مسلحون بل دراويش، أما بلاد القديس يوحنا [يقصد القدس] فتعج بالناس والخيول. وهل يستطيع ثلاثة آلاف من البدو أن يفعلوا شيئاً في مواجهة خمسمئة خيّال برتغالي؟ وإذا كان الخمسمئة عدداً غير كافٍ فلنأخذ ألفاً. من السهل تدمير مكة، وأظنها قد دمرت».
وعندما علم المماليك بهذه الخطة قاموا بتحصين ميناء جدة، وزودوها بالمدافع، ولكنهم توقفوا عند هذا الحد، ولم ينتقلوا من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، بسبب ضعف دولتهم، وعجزها عن المواجهة، وأيضاً بسبب اختلافهم في ما بينهم، حتى إنهم عجزوا عن حماية طريق الحج من الأعراب.
محاولات البرتغاليين لغزو جدة:
لتحقيق هذه الخطة الجهنمية قام البوكيرك والقادة البرتغاليون الذين جاءوا بعده بالعديد من المحاولات لعبور مضيق باب المندب، وبالتالي التوغل في البحر الأحمر شمالاً، للوصول إلى ميناء جدة، ومن أشهر تلك المحاولات ما يلي:
المحاولة الأولى: كانت في عام 919هـ/1513م، ففي هذا العام خرج البوكيرك من الهند بعشرين سفينة وحاصر عدن أربعة أيام، ولكنه هُزم في معركة حامية دارت حول أسوارها، بينه وبين حاميتها الطاهرية، ثم اتجه بعد ذلك نحو البحر الأحمر، حيث توغل فيه شمالاً واستولى على جزيرة كمران، التي كانت محطة بحرية مهمة بين جدة وعدن حينذاك، وقتل سكانها ودمر كل ما فيها من مظاهر الحياة، وانطلقت منها السفن البرتغالية لشن بعض غارات القرصنة. بيد أن محاولته انتهت في هذا المكان، ولم يستطع مواصلة الإبحار إلى جدة لمعاكسة الرياح له، لذلك فقد عاد أدراجه إلى قاعدته في الهند، وحمى الله بيته الكريم من شر هذا الغازي اللعين.
المحاولة الثانية: كانت في عام 921هـ/1515م، ففي مطلع هذا العام غادر البوكيرك الهند على رأس حملة بحرية مكونة من 26سفينة، وألفٍ وخمسمئة برتغالي، إلى البحر الأحمر، ولكنه أثناء الطريق علم أن أهالي هرمز قاموا بثورة ضد البرتغاليين هناك واستولوا على المدينة، وصاروا يحاصرون الحامية البرتغالية في القلعة، لذلك اضطر البوكيرك لتغيير وجهته والانصراف إلى هرمز لقمع تلك الثورة، وفعلاً وصل إليها وقمع تلك الثورة بوحشية، وأعاد هرمز السيادة البرتغالية من جديد، ولكن بعد ذلك اشتد به المرض هناك، فعاد إلى جوا (كوة)، مركز البرتغاليين في الهند، وتوفي بها في 15 ديسمبر 1515م، بعد وصوله مباشرة، بعد أن نجح في أن يرسم لخلفائه خطة غزو البحر الأحمر إلى أقصى شماله، ولذلك زاد تركيز البرتغاليين بعد وفاته على احتلال جدة، لكونها أصبحت المركز الرئيس للدفاع عن البحر الأحمر، بعد فشل المماليك في الاستيلاء على عدن.
المحاولة الثالثة: كانت في عام 1517م، أي غداة دخول السلطان سليم الأول مصر وسقوط الدولة المملوكية، حيث بعث البرتغاليون حملة بحرية إلى الشرق بقيادة «لوبوسوريز»، نائب الملك على الهند، وخليفة البوكيرك، وقد انطلقت هذه الحملة من ميناء جنوة الإيطالي، وكانت تتكون من أربعين سفينة، ومن ألفي مقاتل برتغالي، وتمكنت الحملة من عبور مضيق باب المندب، ومن ثم التوغل في البحر الأحمر شمالاً، والوصول إلى ميناء جدة، بيد أن الحملة فشلت في تحقيق هدفها، بفضل التحصينات القوية التي كان المماليك قد أقاموها قبل ذلك، أولاً، ولأنه كان بجدة حامية عثمانية قوية بقيادة سلمان رئيس، ثانياً، لذلك لم يستطع جنود الحملة النزول إلى البر، واضطرت إلى الانسحاب والعودة إلى جزيرة كمران ومنها إلى عدن، حيث حصلت على حاجتها من الماء والطعام والوقود ثم غادرتها إلى هرمز.
المحاولة الرابعة: كانت في عام 1520م، أي بعد دخول العثمانيين مصر وامتداد نفوذهم إلى الحجاز واليمن بثلاث سنوات، حيث وصلت إلى مدخل البحر الأحمر في أوائل هذا العام حملة برتغالية كبيرة، بقيادة لوبرسكويرا نائب ملك البرتغال في الهند، وكان هدفها الأساسي هو تدمير جدة، ولكن أثناء سيرها في البحر الأحمر علمت بوجود حشود عسكرية كبيرة في جدة، لذلك لم تجرؤ على الاقتراب منها، فغيرت خط سيرها واتجهت إلى مصوع، لإنزال البعثة الدبلوماسية البرتغالية إلى ملك الحبشية، والتي كانت على متنها.
العثمانيون ينهضون:
كان العثمانيون برغم بعد دولتهم عن البحر الأحمر والبحر العربي، حيث كانت السفن البرتغالية تصول فيهما وتجول، أكثر وعياً من المماليك بالخطر البرتغالي على قلب العالم الإسلامي، وخصوصاً البقاع المقدسة، ولذلك فقد بدأ العثمانيون يتدخلون لمكافحة هذا الخطر منذ وقت مبكر نسبياً، فقدموا في البداية كل مساعدة ممكنة للمماليك للتصدي لهذا الخطر، وخصوصاً بعد تدمير البرتغاليين للأسطول المملوكي في معركة ديو البحرية المشؤومة، في ساحل الهند عام 914هـ/1509م. وبعد استيلاء السلطان سليم الأول (1512-1530م) على مصر مطلع سنة 923هـ/1517م، وخضوع الحجاز واليمن للسيادة العثمانية تلقائياً، صار العثمانيون في مواجهة البرتغاليين في البحار الجنوبية والشرقية وجهاً لوجه، لكن العثمانيين لم يتعجلوا المواجهة العسكرية مع البرتغاليين، نظراً لضعف إمكاناتهم البحرية في البحر الأحمر، وأيضاً لانشغالهم بفتوحاتهم في شرقي أوربا، وبالحرب مع الدولة الصفوية المارقة، ولذلك فقد اكتفى العثمانيون في بداية الأمر بتحصين ميناء جدة وشحنه بالمقاتلين الأشداء، واتخاذه قاعدة للدفاع عن البحر الأحمر، حيث عهد السلطان سليم الأول إلى القائد العثماني الكبير سلمان رئيس بأمر القيادة في هذا الميناء، لحماية الحرمين الشريفين بصورة خاصة والبحر الأحمر بصورة عامة. وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566م) وضعت خطط إستراتيجية على أعلى مستوى لمكافحة الخطر البرتغالي في المحيط الهندي والخليج العربي، خصوصاً بعد مد البرتغاليين للصفويين بالمعونات العسكرية، إثر تحرير العثمانيين لبغداد من سيطرة الصفويين سنة 1534م، فتم بناء أسطول البحر الأحمر العثماني في ميناء السويس، وتجهيزه بالمدافع والمعدات الحربية بسرعة قياسية، برغم العقبات الجغرافية، وبرغم الصعوبات الناتجة عن اضطرارهم لاستيراد الخشب ونقله من الإسكندرية إلى السويس عبر الصحراء من أجل بناء السفن هناك. وفي عام 945هـ/1538م تحرك هذا الأسطول نحو الهند معقل البرتغاليين، فافتتح هذا الأسطول في طريقه إلى الهند جميع السواحل العربية الجنوبية والشرقية، الواقعة على البحرين الأحمر والعربي، وعلى رأسها ميناء عدن الإستراتيجي، الذي صار قاعدة للتصدي للخطر البرتغالي في المحيط الهندي، وتوج العثمانيون ذلك بافتتاح أقاليم اليمن عام 1549م، نظراً لأهمية اليمن الإستراتيجية في التصدي للخطر البرتغالي من جهة، ولتأمين ميناء عدن من غارات قوات الإمامة الزيدية في الشمال وهجمات قبائل البدو في الجنوب من جهة أخرى، وكذلك بفتح مسقط سنة 1551م للتصدي للبرتغاليين في الخليج العربي وخصوصاً في هرمز. ومع ذلك فقد ظل القلق يساور العثمانيين على أمن الحرمين الشريفين، وعلى وجودهم في جنوب البحر الأحمر، نظراً للوجود البرتغالي القوي في شرق إفريقيا على السواحل الغربية للبحر الأحمر، المقابلة لميناء جدة، وأيضاً على سواحل المحيط الهندي، وخصوصاً بعد أن نجح البرتغاليون في إعادة بناء الدولة الحبشية النصرانية، كحليف قوي لهم هناك، وزودوها بالأسلحة النارية، التي لم تكن مألوفة من قبل في شرقي إفريقيا، وأيضاً لفشل الأسطول العثماني في إضعاف قوة البرتغاليين البحرية في المحيط الهندي. لذلك فقد استقر رأي الباب العالي على ضرورة فتح السودان وشرق إفريقيا، وتأسيس ولاية عثمانية هناك لإغلاق البحر الأحمر في وجه السفن البرتغالية تماماً. وقد أعد هذه الخطة أزدمر باشا والي اليمن السابق، الذي ينسب إليه الفتح العثماني الأول لها، والذي اشتهر بالشجاعة والمهارة الحربية والعدل، وصادق السلطان سليمان القانوني على الخطة سنة 1555م، وكلف أزدمر باشا نفسه بفتح هذه الجهة لخبرته بشئونها.
البحر الأحمر بحيرة إسلامية:
وقد تحرك أزدمر من مصر في نفس العام، على رأس ثلاثة آلاف مقاتل، فافتتح أهم الموانئ في شرق إفريقيا، وهي سواكن ومصوع وزيلع وجميع سواحل البحر الأحمر الإفريقية، بمساعدة الأسطول العثماني، ومن ثم بسط سلطة العثمانيين على الجزء الشمالي الشرقي من إفريقيا، من حدود مصر حتى خليج عدن، واختار أزدمر مدينة مصوع عاصمة لهذه الولاية الجديدة، التي عرفت باسم ولاية الحبشة، وحولها إلى قاعدة عسكرية للحرب ضد البرتغاليين وحليفتهم مملكة الحبشة، وكانت قلعة جدة جزءاً من هذه الولاية، حيث كان يقيم بها الوالي العثماني أحياناً. وقد استمر أزدمر باشا والياً على هذه الولاية، وفي جهاد البرتغاليين والأحباش، حتى وفاته سنة 967هـ/1560م، وحل محله ولده عثمان. وهكذا ثبّت العثمانيون سلطتهم على سواحل مضيق باب المندب من الجانبين، وحرموا مملكة الحبشة من أي موطئ قدم على البحر الأحمر، والساحل الصومالي الغربي، وجعلوها دولة داخلية مغلقة محاصرة باليابس من كل اتجاه، وقطعوا الاتصال بينها وبين البرتغاليين، وتم إغلاق البحر الأحمر، تماماً في وجه السفن البرتغالية، وسفن القوى الأوربية الأخرى، وعني العثمانيون بتحصين ميناء عدن أفضل عناية، لكونه البوابة الحقيقية للبحر الأحمر، والقاعدة المتقدمة لحماية الحرمين الشريفين، ولذلك يرد آخر ذكر لهجوم برتغالي على سواكن والسويس في عام 1556م. كما تم القضاء على سيطرة البرتغاليين على الطرق البحرية، وتعرضت محاولاتهم لاحتكار التجارة الشرقية إلى ضربة قاسية من قبل العثمانيين، واستوعب المسلمون خطرهم، بل وأرغموا على استقبال السفن الإسلامية، في المرافئ التي كانت خاضعة لسيطرتهم، وعاد النشاط التجاري إلى البحر الأحمر والخليج العربي كما كان عليه قبل قدوم البرتغاليين، وأصبحت القاهرة من جديد في منتصف القرن السادس عشر سوقاً تمد أسواق أوربا، باستثناء البرتغال وإسبانيا، بشتى أنواع توابل الشرق وأطيابه. وقد عمل العثمانيون على منع النصارى من الإبحار في البحر الأحمر، أبعد من ميناء المخا، الواقع في أقصى جنوب هذا البحر، والذي حل محل ميناء عدن، في النشاط التجاري خلال العهد العثماني، نظراً لما تعرض له ميناء عدن من تخريب من قبل الأساطيل البرتغالية الغازية، وأيضاً من قبل السفن المملوكية، ونظراً لكون الوصول إلى ميناء المخا يتطلب عبور مضيق باب المندب، والذي يعتبر نقطة تحكم بيد العثمانيين، في غلق الملاحة البحرية المدنية والعسكرية في البحر الأحمر على السواء عند اللزوم، وذلك بعكس ميناء عدن المفتوح على مياه المحيط الهندي. وقد استمرت المخا تلعب هذا الدور التجاري والملاحي حتى استيلاء الإنجليز على عدن عام 1839م. وقد رسخ العثمانيون تدريجياً تقليداً جديداً، ألا وهو تحديد نطاق توغل السفن الأوربية في البحر الأحمر أبعد من ميناء المخا، نظراً لكون الحرمين الشريفين يقعان على مقربة من ساحل هذا البحر، وكانت محاولات البرتغاليين المحمومة للوصول إلى جدة لتنفيذ مخططهم الشرير لتدمير مكة مبرراً كافياً لترسيخ هذا التقليد، وبذلك تم تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة إسلامية، ولم يكن يُسمح بالإبحار فيها إلا للسفن الإسلامية، وظل هذا التقليد معمولاً به حتى بعد خروج العثمانيين من اليمن سنة 1630م وحلول الأئمة الزيديين محلهم في عدن والمخا. وظل العثمانيون يحتفظون بدورهم الأول في التجارة العالمية بين أوربا والشرق الأقصى إلى أن استولت هولندا على المحيط الهندي سنة 1635م.
العبر والدروس المستفادة:
هذا الموضوع وإن كان قد صار جزءاً من التاريخ إلا إن الوعي بالتاريخ من الأهمية بمكان، فهو أساس في صواب التصور للحاضر والمستقبل، ومنه تؤخذ العبر والدروس المفيدة، في تقويم الاعوجاج وتصحيح المسار. ومن العبر والدروس التي نستفيدها من هذا الموضوع، كما أرى، ما يلي:
حماية الله لبيته الكريم من شر البرتغاليين الحاقدين، كما حماه من قبل من شر الأحباش المعتدين، ومن شر القرامطة الملحدين، ومن شر الفرنجة المتعصبين، ومن شر كل معتدٍ أثيم، ويتضح ذلك من خلال المعوقات الكثيرة، التي كان يصادفها البرتغاليون أثناء محاولاتهم المستمرة الوصول إلى ميناء جدة، مرة بمعاكسة الرياح لخط سيرهم، ومرة بانتفاضة المسلمين في هرمز ضدهم، ومرة ببث الرعب في قلوبهم، ومن ثم انسحابهم خائبين قبل الوصول إليها. ومع ذلك، ومع قناعة المسلمين بهذه الحقيقة، أعني حماية الله لبيته الكريم، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي، وإنما بذلوا كل ما في وسعهم لمواجهة هؤلاء الغزاة الصليبيين، دفاعاً عن بيت الله الحرام ومقدساتهم الإسلامية، ولم يقولوا كما قال المشركون من قريش قديماً: إن للبيت رباً يحميه ويمنعه.
أن أهل الشرك ملة واحدة، فلولا الهندوس ما رسخ البرتغاليون وجودهم في سواحل الهند، ولولا النصارى الأحباش ما رسخوا وجودهم في سواحل شرق إفريقيا، ولولا الشيعة الصفويون ما رسخوا وجودهم في سواحل الخليج العربي وشرقي جزيرة العرب. فهذه القوى الأربع، برغم تعارض مصالحها، واختلاف عقائدها، وما بينها عداوات وحزازات، إلا إنها اتفقت جميعاً ضد عدوها المشترك، وهو الإسلام، برغم أن قواعد اللعبة كلها ظلت بأيدي البرتغاليين، لأن الغرض الأساسي من تحالف الهندوس والأحباش والصفويين معهم كان هو الحقد على الإسلام وأهله وكل ما يرمز لهما قبل أي غرض آخر، فعميت أبصارهم وبصائرهم عن كون البرتغاليين إنما كانوا يستغلونهم لتحقيق أهدافهم، وهكذا أهل الشرك في كل زمان ومكان في علاقتهم بالمسلمين، وتتجلى هذه الحقيقة في وقنا الحاضر بأوضح مما كانت عليه في كل العصور الماضية.
أهمية إعداد القوة قدر الطاقة والإمكان لمحاربة أعداء الدين، امتثالاً للتكليف الإلهي في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60]، لأن القوة لا تواجه إلا بالقوة، والغزاة لا تردعهم إلا القوة، ولا ترهبهم إلا القوة، ولذلك فإن المماليك عندما اطمأنوا إلى فروسيتهم ورفعوا عقيرتهم مهددين ومتوعدين، ولم يأخذوا بأسباب القوة، وخصوصاً القوة البحرية، أخفقوا في مواجهة التحدي البرتغالي، ولم يبال أحد بتهديداتهم تلك، لأنها كانت تهديدات جوفاء، ففقد المماليك شرعيتهم في نظر عموم المسلمين، عندما ظهر عجزهم عن حماية الحرمين الشريفين، وهذا بعكس العثمانيين، الذين أخذوا بأسباب القوة البحرية والنارية، وغيرهما، فقد استطاعوا مواجهة التحدي البرتغالي، بل والتصدي له ورده، وصار الأوربيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر ترتعد فرائصهم عندما يُذكر العثمانيون أمامهم، كل ذلك قد أكسب العثمانيين الشرعية لتولي مقاليد أمور المسلمين، ونالوا ثقة المسلمين، كحماة للحرمين الشريفين، خصوصاً أنهم بالغوا في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية الحرمين، فأغلقوا البحر الأحمر تماماً في وجه السفن غير الإسلامية، وذلك كما تقدم، فكان هذا من حسنات بني عثمان التي لا تُنسى.