"سؤال التاريخ" والتحديات الحضارية
من المؤكد أن من ينظر لواقع المسلمين سيصاب بشيء غير قليل من اليأس، وفقدان الأمل،
واهتزاز الثقة بالنفس! ذلك أن ثمة أمراضاً خطيرة قد توطنت في بيئتهم الاجتماعية
والسياسية والثقافية والاقتصادية، وتكالب عليهم الطامعون من كل حدب وصوب، حتى أصبح
واقع العالم الإسلامي يشبه «الرجل المريض» الذي لا يُرجى برؤه، ولا يُنتظر شفاؤه،
وإنما هي أيام معدودات - أو سنوات، بمقياس الدول - ثم تعلن لحظة الوفاة لهذا الجسد
المتهالك!
ذلك كله حق بلا ريب، وإن اختلفت التقديرات حول ما بلغه المرض من جسد الأمة، لكن
الدعاة والمصلحين والمنشغلين بهموم الأمة، الذين يرجون ثواب الله تعالى وابتغاء
مرضاته، من خلال عمل صالح يقدمونه لأمتهم، أو نصيحة خالصة يسدونها إليهم؛ هؤلاء لا
يجوز لهم أن ينشغلوا بالمرض إلا من حيث كيفية علاجه، أو أن يتوقفوا كثيراً أمام
المثبطات إلا بما يمكِّنهم من التغلب عليها.. كما لا يجوز لهم الاستغراق في الأحزان
والنكبات؛ بل عليهم أن يستمسكوا بحبال النجاة الممدودة بثقة الله تعالى وحسن الظن
به، وبإحسان الأخذ بالأسباب مهما بدت كليلة عليلة!
ومن أهم ما يشحذ الهمم، ويطرد اليأس، ويجدد الثقة في وعد الله سبحانه بالنصر
والتمكين، وبالغلبة والعزة؛ النظر في أحوال التاريخ وما تدل عليه وترشد إليه.
والسؤال الكبير المتعلق بالتاريخ، في ما يخص مواجهة التحديات الحضارية، داخلياً
وخارجياً، تتفرَّع عنه عدة أسئلة تتصل برؤيتنا للتاريخ، وبامتداده في حاضرنا، بل
ونفاذه إلى مستقبلنا، إضافة إلى دوره في تشكيل الوعي الصحيح، وحَفْزِ الإرادة
القوية الفاعلة.
إن التاريخ في المفهوم الصحيح - كما يُرسيه القرآن الكريم، وكما انتهت إليه
الدراسات المعاصرة المتصلة بالحضارات؛ نشوءاً وصعوداً وهبوطاً - ليس مجرد زمن مضى
وانتهى، وليس مجرد أحداث عفا عليها الزمن؛ بل هو «كائن حي» لكنه ذو طبيعة مختلفة عن
الحاضر الحي، وعن المستقبل الآخذ في التشكُّل.
ومَظْهَر حيوية هذا التاريخ - الذي يحسبه البعض ميتة متحللة - أنه بوتقة للدروس
والعبر، ومعمل للتجارب والدول، ولسان ناطق بكثير من الحقائق التي انكشفت لنا بعد أن
كانت غيباً لمعاصريها.. ولذا كان التجول في أروقة هذا التاريخ أمراً إلهيّاً،
وفريضة قرآنية مؤكَّدة في أكثر من موضع؛ مثل قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْـمُكَذِّبِينَ 137 هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 137، 138]. وقوله أيضاً: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِـمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ
مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ 45 أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:
45، 46].
فثمة حقيقة أساسية تبرز واضحةً في القرآن الكريم - كما يلاحظ د. عماد الدين خليل -
تلك هي أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت (للمسألة التاريخية)؛ التي تأخذ
أبعاداً واتجاهات مختلفة، وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي الواقعي لتجارب
عدد من الجماعات البشرية، وبين استخلاص يتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية؛
التي تحكم حركة الجماعات عبر الزمان والمكان، مروراً بمواقف الإنسان المتغيرة من
الطبيعة والعالم، وبالصيغ الحضارية التي لا حصر لها؛ والتي تتأرجح بين البساطة وبين
النضج والتركيب. وتبلغ هذه المسألة حدّاً من الثقل والاتساع في القرآن الكريم بحيث
إن جلَّ سوره لا تكاد تخلو من عرض لواقعة تاريخية، أو إشارة سريعة لحدث ما، أو
تأكيد على قانون أو سنّة تتشكل بموجبها حركة التاريخ[1].
ويوضح المؤرخ العراقي أن القرآن الكريم لا يقدم قصصه وعبره وصوره ومشاهداته، لمجرد
ترف ذهني، أو إشباع حاجة المؤمنين إلى القصص والصور والمشاهدات.. إنما يجيء القرآن
الكريم بمعطياته التاريخية تلك، من أجل أن يحرك الإنسان صوب الأهداف التي رسمها
الإسلام، ويُبعده - في الوقت ذاته - فرداً وجماعة، عن المزالق والمنعرجات التي أودت
بمصائر عشرات بل مئات من الأمم والجماعات والشعوب؛ كما يجيء بها من أجل أن يبرز
الفروق الحادة بين المجتمعات الوضعية والإسلامية، بعموم معنى الإسلام[2].
إذن، السيرُ في أروقة التاريخ، وتقليبُ صفحات الأمم السابقة؛ من شأنه أن يهدي للنظر
الصائب والفعل الراشد، وأن يكون موعظة للمتقين وأولي الأبصار، وأن يجعل مَلَكَات
الإنسان - فرداً ومجموعاً - قادرة على القيام بوظائفها بصورة طبيعية وفعَّالة؛
فالقلوب - حينما يتوافر لها «فقه التاريخ» - تستطيع أن تعقل، والآذان يمكنها أن
تسمع، والأبصار ينتفي عنها العمى وتمارس وظيفتها بكفاءة في الرؤية والإدراك،
والحركة تأتي راشدةً منضبطةً على البوصلة الصحيحة، لا متخبطة ولا تائهة.
محنٌ ترشدنا!
إذا بدأ اليأس يتسرب إلى النفوس، وأخذ الضباب يملأ الأفق؛ فما علينا إلا أن نستنطق
تاريخنا ونسأله: هل عرفت أيها التاريخ مِحَناً كتلك التي نعيشها؟ هل هي محن تمثل
قدراً لازماً لا يمكن الفكاك منه؟ هل مر بأسلافنا الذين عاشوا فيك أزماتٌ وكربات،
أم كانت حياتهم سخاء رخاء، طيبة هانئة، لم يُكدَّر صفوها؟ ما السبيل الذي يمكن أن
تدلنا عليه أيها التاريخ؟
وأعتقد أن تاريخنا سينطق بما شهده وعايشه، وهو أن المسلمين في شتى عصورهم، بما فيها
عصر النبوة والصحابة، قد شهد فتناً ومحناً، وقد تكالبت عليهم شتى التحديات
والمصائب.. ولم تكن أزمنتهم بلا عقبات ومن غير معوقات.
وسيشهد التاريخ أيضاً أن حركات ارتداد واسعة قد أنشبت أظفارها في جزيرة العرب بمجرد
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى استطاع أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، ومن معه
من الثابتين على إيمانهم - وهم قلة في العدد - أن يعيدوا بلاد الإسلام إلى حضن
الإسلام، وأن يقمعوا الفتن، وينشروا راية التوحيد من جديد في كل ربوع جزيرة العرب.
بل سيخبرنا التاريخ أن «القرامطة» قد انتزعوا الحجر الأسود من الكعبة، سنة 317هـ،
وأبقوه عندهم اثنتين وعشرين سنة، وأن الصليبيين أعملوا في بيت المقدس، سنة 492هـ،
من القتل والتخريب ما يشيب له الولدان، وما جعل الدماء تسير في الطرقات أنهاراً،
وأن التتار دمروا بغداد بقيادة السفاح هولاكو، سنة 656هـ، وقتلوا خليفة المسلمين
وآلاف الرجال والنساء والأطفال، ودمروا الكتب حتى تألف منها جسر في نهر دجلة يمرّ
الناس عليه، وتغير إلى السواد لونُ الماء!
كل هذا - وغيره كثير - سيخبرنا عنه التاريخ، لكنه سيخبرنا أيضاً أن هذه النكبات
والهزائم لم تكن نهاية المطاف ولا نهاية التاريخ، ولم تُثنِ المسلمين عن استعادة
وعيهم بدورهم ورسالتهم، وأن ما كان يتلقاه المسلمون من ضربات موجعة لم يكن يزيدهم
إلا إصراراً وعزيمة على الخروج وبسرعة من نفق الهزيمة؛ إيماناً منهم بأن الإسلام
دين الله الحق ورسالته الخاتمة، ولا ينبغي لمن يحملون هذا الدين أن يتخلوا عنه، ولا
أن يصيبهم يأس أو ضجر، وأن «قانون التداول» هو ما يحكم الصراع مع الباطل، ليتبين
الصادق من الكاذب. قال تعالى: {الــم 1 اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ الْـحَيُّ
الْقَيُّومُ 2 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقاً لِّـمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ} [آل عمران: ١ - ٣]. وقال أيضاً:
{الـم 1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ١ - ٣].
فهذه المحن التي مر بها تاريخنا، واستطاع المسلمون أن يتجاوزوها، وأن يستأنفوا
نهضتهم وريادتهم؛ هي محن ترشدنا إلى إمكانية تجاوز مثيلاتها، مما في واقعنا
المعاصر، وتدل على أن مرحلة الهزيمة والنكبة ليست قدراً لازماً؛ بل حالة يمكن
تخطيها إلى مرافئ النصر والعزة، متى كان موقفنا من المحن مثل موقف أسلافنا - من
الصحابة ومن تبعهم - من محنهم.
خلاصات
وإذا شئنا أن نحدد في نقاط خلاصات لـ«سؤال التاريخ» وإجاباته، في ما يتعلق بمواجهة
التحديات الحضارية؛ فيمكن لنا القول:
• إن قراءة التاريخ فريضة إلهية، وهي شرط لنتبصَّر مواطئ أقدامنا في الحاضر، ولنحسن
الاستعداد للمستقبل. أو بتعبير أستاذنا د. عبد الحليم عويس، يرحمه الله: «الوعي
بتاريخنا الإسلامي وحضارتنا الإسلامية هو الطريق لاستئناف الأمة الإسلامية لدورها
القيادي»[3].
• التاريخ لم يكن كله هزائم ولا انتصارات، بل شهد محناً ومنحاً، هبوطاً وصعوداً..
وجرت أحداثه وفق سُنَن لا تحابي أحداً؛ وهي سنن جعلت الغلبة لمن يأخذ بأسباب النصر
وتهيأ له.. مثل سنن «التدافع»، و«التداول».
• فترات التراجع الحضاري، والخذلان أمام الأعداء؛ ليست خَتْماً ثابتاً، بل هي حالة
يمكن دفعها بالتوكل على الله تعالى، وبالثقة في وعده، وبالأخذ بالأسباب الصحيحة، مع
الصبر والمرابطة.
• المحن تبدو كما لو كانت «عاملاً مساعداً» لتتجدد فاعليةُ الأمة، ولتنشط الأمة من
وهنها وضعفها.. مثل الفيروسات التي تهاجم الجسم، فتستفز فيه عناصرَ المناعة! نعم،
قد تنجح الفيروسات في التغلب للحظات أو لأيام؛ لكن بالأسباب يتم طردها من الجسم
ليعود صحيحاً معافى. فتسلُّطُ الأعداء على الأمة يستثير فيها عوامل المقاومة
والمدافعة، حتى تسترد الأمة وعيها ومقدراتها.
• في فترات المحن، مهما طالت واشتدت، لا يليق بالمسلم أن ييأس، ولا أن يجزع؛ بل
عليه أن يحسن الظن بالله ظنّاً جميلاً، وأن يتوكل على الله حق التوكل، وأن يتمسك
بأهداب الأمل الذي ينبغي ألا ينقطع أو يغيب، وألا يبخل أو يستصغر بَذْلَ ما بيده من
أسباب مهما بدت غير كافية.
بهذا الفهم العميق لدور التاريخ في الخروج من أزمتنا الراهنة، وفي مجابهة التحديات
الحضارية؛ يكون التاريخ ذا أثر فعَّال في النهوض والتغيير؛ لا مجرد حكايات تُروى،
أو قصص تُسرِّي عن النفس.. ونكون قد أجبنا الإجابة الصحيحة عن «سؤال التاريخ» المهم
والعاجل.
[1] «التفسير الإسلامي للتاريخ»، د. عماد الدين خليل، ص5، دار العلم للملايين، ط1،
1975م، بيروت.
[2] المصدر نفسه، ص8، بتصرف يسير.
[3] «فقه التاريخ في ضوء أزمة المسلمين»، د. عويس، ص7، دار الصحوة، ط1، 1994م.