نقاط ضعف إيران في محيطها الإقليمي والدولي
كان الموقف جد مخجل للنواب الإيرانيين وهم يتسابقون لنيل صور شخصية يلتقطونها مع
الممثلة السامية للاتحاد الأوربي فيدريكا موغريني، أثناء وجودها في البرلمان
الإيراني لحضور مراسم حلف الرئيس الإيراني حسن روحاني اليمين الدستورية الرئاسية
أمام البرلمان الإيراني.
«سيلفي حقارت» أو سيلفي الذل، كان الوسم الأكثر انتشاراً حينها على مواقع التواصل
الاجتماعي في إيران تعبيراً عن غضب الشباب من هذا الذل الذي أحنى رؤوس النواب أمام
الضيفة الأوربية، حيث شكّل نواب البرلمان طابوراً كبيراً لالتقاط الصور مع موغريني،
وإصرارهم الشديد على ذلك أزعج الممثلة السامية للاتحاد الأوربي ومرافقيها، بحسب
موقع «جهان اقتصاد» الإيراني.
لم يكن هذا الذل رهيناً فقط بعقيدة التقية أو فكرة موالاة غير المسلمين على حساب
المسلمين، إنما أيضاً مثل انعكاساً لحالة فقدان بوصلة الهوية، والاضطراب القيمي
الذي إن كان أصيلاً لدى النظام الإيراني المستند إلى الارتكان إلى حبل من الناس منذ
ثورته الدموية قبل ثلاثين عاماً تقريباً، إلا إن تنامي هذا الذل على النحو الذي
جسده المشهد البرلماني، واضطراده في عديد من الملفات الخارجية مع الدول الكبرى ينبئ
بأن قادم إيران في محيطيها ليس جيداً بأي حال، فكما يقول ابن خلدون في مقدمته عن
أحد أسباب اضطراب الدول وعدم قدرتها على الاستمرار أو عوائق نشوئها بالأصل: «المذلة
للقبيل [الجيل أو الجماعة من الناس كما في المعجم الوسيط وغيره] والانقياد إلى
سواهم، وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها فإن انقيادهم
ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة [إلفهم لها] حتى عجزوا عن المدافعة
فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة».
الذل الذي عكسته صورة برلمانيين يفترض أنهم ممثلون للشعب الإيراني وفي صدارة مشهده
السياسي ليس حالة منفصلة عن واقع العلاقات الخارجية لإيران اليوم، فانكسارها في
أكثر من ملف، وعجزها عن رسم صورة مستقبلية واضحة لطموحاتها وسياستها الإقليمية
والدولية، ورهاناتها الخاسرة أحياناً، ومشاريعها المبتورة؛ جميعها لا تشي بأن إيران
تسير في طريق القوة وإن ظهر خلاف ذلك؛ فطهران التي تدرك جيداً أنها إذ خطت خطوات في
طريق مشروعها الإمبراطوري فهي انبتت في ذلك، ولم تتمكن من إكمال مشوارها، فلا أرضاً
قطعت ولا ظهراً أبقت.
مشاريع إيران جميعها لم تكتمل، وهي تبدو مع تمدداتها أكثر قلقاً واضطراباً،
فالمسألة لديها، بل في علم الجيوستراتيجية ذاته تتعلق بقوتها الحقيقية كدولة ترنو
إلى مستقبل إمبراطوري، حيث الخيار الإمبراطوري لديها ليس ترفاً بل ضرورة لخصوصيتها
الجيوستراتيجية، فالقدر قد جعل بقاء هذه الدولة رهيناً بتوسعاتها وامتداداتها خارج
نطاق حدودها، إذ تعلق مصيرها الداخلي بأمن قومي يمتد خارج هضبتها، وإلا فإن حطب
مشاكلها الداخلية يمكن أن يضطرم في أي لحظة ما لم تصدر مشاكلها الداخلية وترمي بها
خارج حدودها.
تُرى إيران قوية، وفي كل عام تتسع مناطق نفوذها أكثر في الإقليم، لكن كما يقول أحمد
مطر: «أسرتنا كبيرة وليس من عافية أن
يكبر الورم»؛ فمن العسير أن يعد اتساع رقعة امتداد السياسة الإيرانية دليل قوة، أو
للدقة دليلاً على قوة حقيقية لا يعتريها الضعف، فقد أرسل هتلر فيالقه في ربوع أوربا
لكن في النهاية لم يعد يقوى على الدفاع عن برلين! هكذا تبدو المصائر شبيهة والمآلات
قريبة.
تستعرض طهران كل شهور ترسانتها العسكرية، وتفاخر بسلاحها الصاروخي، وتتخايل
باستعراضاتها البحرية، حيث تتوفر على أكثر من سبعين مليشيا عسكرية تخوض معاركها في
كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولديها مجموعاتها الإرهابية التابعة والحليفة
في دول أخرى، وخلاياها النائمة واليقظة في دول ثالثة؛ لكن كما يقول الخبير
الإستراتيجي د. عمر الفاروق رجب في كتابه القيم
«قوة الدولة: دراسات إستراتيجية»: «من
زاوية معينة قد ينظر لموضوع قوة الدولة باعتباره جوهر الجغرافيا السياسية وهدفها
النهائي، ليس فقط بالمعنى العسكري الضيق للقوة، ولكن بالمعنى الحضاري الأشمل،
باعتبارها [قوة الدولة] المجموع الأخير لكافة عناصرها الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والسكانية، ولكافة مواردها الطبيعية، كما تتمثل في الأرض والموقع
والمساحة والمناخ والنبات والمياه وغير ذلك». في الشق السياسي من هذا تبدو المشكلات
الحدودية، العلاقات الدولية، العلاقة بين الهياكل السياسية والاقتصادية، الأحلاف
والتكتلات الدولية والإقليمية.. إلخ معايير أكثر دقة للتعبير عن القوة في هذا
الإطار.
إذن أين إيران من كل هذا؟
لديها بالطبع عناصر قوة، لكن بالمقابل ثمة نقاط ضعف وأخطاء فادحة في البنيان
الإستراتيجي، والخيال المستقبلي، وأول وأخطر تلك النقاط:
الدور الوظيفي لإيران في الإستراتيجيات الدولية (الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد
الأوربي)، وهذا يعيدنا إلى الذل الحقيقي للنواب أمام المندوبة السامية الأوربية،
وليست الدبلوماسية الإيرانية قبل وأثناء وبعد الاتفاق النووي إلا إشارة خاطفة عما
تخفيه الدبلوماسية الطاووسية من علاقة غير متكافئة بين طهران والعواصم الدولية، بل
أيضاً عند معاينة محطات مهمة في الأزمة السورية حيث تدخلت روسيا لإنقاذ الحرس
الثوري الإيراني في سوريا بعد إخفاقه هو وجيش مليشياته المتعددة الجنسيات الممتد من
مليشيا «فاطميون» بغرب أفغانستان وحتى
«حزب الله» بجنوب وشرق لبنان، في تحقيق
انتصار على فصائل الثورة السورية.
الدور الوظيفي لا يعني نقطة ضعف بحد ذاته حين يصبح مجرد تلاقي مصلحة بين قوة
إقليمية وأخرى دولية أقوى، لكنه يصبح تعبيراً عن الضعف حين تتضاءل قدرة القوة
الأصغر على التحرك في الإقليم إلا بـ«حبل
من الناس». ما يراد توكيده هنا: أنه لولا خدمة إيران لمخططات الولايات المتحدة
وروسيا لم تكن إيران لتصبح قوة إقليمية بالأساس.
هذا يبرهن عليه ما يلي:
•
لولا احتلال الولايات المتحدة للعراق لما أمكن إيران السيطرة عليه.
•
لولا سماح العواصم الدولية لطهران بتسليح نظام بشار الأسد، ثم عبور المليشيات عبر
الحدود العراقية السورية لما أمكن إيران إيقاف إسقاط هذا النظام.
•
لولا دعم روسيا للحرس الثوري ومليشياته المأزوم في سوريا لسقطت القوة
«الثورية» الإيرانية في وحل الهزيمة
النكراء في سوريا.
•
لولا الدعم الغربي لإيران حتى بعد احتلال أمريكا وبريطانيا للعراق لما تمكنت طهران
من إلحاق الهزيمة بالمقاومة العراقية.
•
لولا غض الولايات المتحدة الأمريكية الطرف عن جرائم الحرب، ومنها القصف العشوائي
ببراميل البارود رخيصة الثمن التي لا تقبل واشنطن باستخدامها في الحروب، لما أمكن
طهران تنفيذ عمليات التغيير الديمغرافي في كل من العراق وسوريا.. وهكذا.
الحاصل فيما تقدم، هو أن إيران بالأصل ليست قوية، ولولا أنها تحظى بدعم دولي هائل
لما ظهرت كدولة قوية، كذلك لولا أن العواصم الدولية تساند تلك الدولة بتقييد تحركات
خصومها في تركيا والخليج وغيرها، لما أمكنها أن تبدو في صورة أقوى من حقيقتها. نقطة
الضعف هنا، أن القوة الإيرانية المتنوعة ليست أصيلة بل مصطنعة وطارئة، واستمرارها
رهين بتنفيذ طهران للأجندات الدولية، وتل أبيب ليست بعيدة أيضاً عن هذا، حيث تصب
مجمل السياسات الإيرانية التوسعية في سبيل تحقيق أمن الكيان الصهيوني.
ثاني نقاط ضعفها:
الإمبراطورية الهشة التي تجهد طهران في إنشائها، ثم تؤول من بعد إلى قصر رملي لا
يلبث أن ينهار مع أول عارض حقيقي له علاقة بتخلي القوى الدولية عنها.
إن القاعدة التي يمكن أن نستنتجها عبر التاريخ أن التخريب لا يبني الدول فضلاً عن
إقامة الإمبراطوريات، فكما امتدت إمبراطورية المغول على نحو واسع جداً خلال القرن
الثالث العشر الميلادي ثم ما لبثت أن اضمحلت قبل نهاية القرن لأنها لم تحمل إلا
الموت والدمار والحرق لرعاياها؛ فإن الإمبراطورية الإيرانية التي تنسج على منوال
المغول، والتي لا تقدم للبشرية وللمنطقة في القرن الواحد والعشرين أي مسحة حضارية
لا على المستوى الأخلاقي ولا العمراني؛ لن تعيش طويلاً، بل إن قوة المغول التي لم
تقم بها إمبراطورية حقيقية كانت أصيلة ولم تكن متعلقة بـ«حبل من الناس»، ودعم من القوى الدولية، فمن باب أولى سيكون حصاد
دولتها الممتدة قتاداً وعلقماً، وسيكون هوانها وزوالها أسرع، وقد بدت إرهاصاته.
ثالث نقاط الضعف الإيراني:
استنساخ إيران لحالة الكيان الصهيوني في استعداء شعوب المنطقة التي تخضع لسيطرتها
على نحو يخلق بيئة صالحة جداً لتفجير مقاومة متنوعة ضدها، وهي البيئة الملائمة
لتكون حاضنة لمقاومة سنية متعددة منغلقة على نفسها تنفي عنها خبثها وعملاءها، مثلما
نجحت المقاومة الفلسطينية إلى حد بعيد في تحقيقها. وهذا لا يجعل
«أملاك» الدولة الإيرانية - إن جاز
التعبير - مستقرة، وهذا مشاهد بطبيعة الحال.
بل إنه يمكن القول إن إيران تفوق الكيان الصهيوني في السوء على الصعيد التنموي في
المناطق التي تحتلها، حيث إيران تزيد تلك المناطق بؤساً وفقراً وتعمد إلى عدم إقامة
بنية تحتية جيدة فيها، ويزداد الأمر سوءًا مع إخفاق إيران بالأصل في إقامة مشاريع
تنموية وبنى تحتية ملائمة حتى في داخلها لمواطنيها الذين يشاطرون حكومتها
الأيدلوجيا ذاتها ويوالون نظامها، هذا فضلاً عن شعوب تحتل إيران دولها بشكل مباشر
أو غير مباشر.
رابعها:
الضرر البالغ الذي تعرضت له الدعاية الإيرانية خارج إطارها الطائفي (وداخله أيضاً
وإن كان بدرجة أقل)، جراء السمعة السيئة التي لحقت بمؤسساتها الدينية جراء وقوفها
خلف مجازر لم يسبق لها مثيل في المنطقة، داعمة للآلة العسكرية المنفذة لتلك
الجرائم، ما محا أي فرصة حقيقية لاندفاع «القوة
الناعمة» لتلك الدعاية عبر الاستتار بدعم المقاومة والممانعة ضد الكيان الصهيوني،
حيث لم تعد تلك الحيلة تخيل على الشعوب التي أضحت تنظر للدولة الإيرانية على أنها
نظام براجماتي ثيوقراطي يمارس الإرهاب وينفذ المجازر بلا رادع من دين أو ضمير.
هذا يضاف إليه شق آخر من الدعاية المضعضعة للدولة الإيرانية في الفضاء الإقليمي
الواسع، تلك الدعاية التي بالغت في غرورها الإعلامي السياسي على نحو أبرزها على عكس
ما تريد، لاسيما عند الشعوب التي خبرت ضعفها الحقيقي الأصلي المنبت عن الدعم الدولي
الخارجي، خصوصاً في العراق وسوريا.
خامسها:
العلاقات المشحونة والمضطربة مع معظم دول الجوار، ولا يعني هذا الخليج العربي وحده،
الذي تورطت إيران في دعم عمليات إرهابية كثيرة أغضبت عواصم الخليج ولم تزعزعها في
الوقت عينه، فإضافة لتلك الدول هناك طاجيكستان التي تشكو من عمليات اغتيال تقف
خلفها طهران، وباكستان التي تدعم إيران بعض فصائل البلوش فيها، وتغذي النعرة
الطائفية، وأفغانستان التي تدعم فيها طهران «طالبان
إيرانيون»، وأذربيجان التي تدعم إيران خصمها اللدود أرمينيا المسيحية، وتركيا التي
تعاني من عملياتها الإرهابية وشرعت ببناء سور يفصل بينها وحدود إيران، وحتى العراق
الموالي لها الذي يدرك بعض سياسيه أن قوته تعني ضعف إيران.
إيران بسياستها المشاكسة في المنطقة استعدت عليها جميع جيرانها تقريباً، وغدت في
وضع لا يسمح لها بالاستقرار في حال قرر بعض هؤلاء نقل مناوشاتها داخل حدودها
الممتدة.
سادسها:
إخفاقاتها العسكرية، فهي لم تحقق نصراً في اليمن، ولا في سوريا، ولا في لبنان، فقد
تقلصت مناطق نفوذها بعد توسع نطاق نفوذ القوى الأخرى (الولايات المتحدة، روسيا،
تركيا، الأردن، الأكراد)، وفي البلد الثالث تراجعت قدرات حزب الله الموالي لها
كثيراً على وقع ضربات المقاومة السورية.
سابعها:
الاستنزاف المالي الهائل جراء دعم نحو سبعين مليشيا في كامل الأراضي التي تمارس
فيها عملياتها الإرهابية، وهو استنزاف جرها إليه خوضها حروباً بتلك المجموعات مع
فصائل تمارس حرباً بالوكالة أيضاً لدول أخرى قوية في المنطقة. وهذا الاستنزاف لا
يقتصر على الصعيد العسكري والأمني وحده، بل يمتد إعلامياً وثقافياً وسياسياً، حيث
وضعت إيران نفسها في حالة عدائية مع دول المنطقة الثرية، سواء أكانت دول الخليج أو
تركيا، فأرهقت بسباق التسلح ودعم الإمبراطوريات الإعلامية المتخاصمة، واستقطاب
الكفاءات الثقافية، وفي دعم اللوبيات في عواصم العالم المؤثرة، والتأثير على مراكز
صنع القرار وما إلى ذلك، وهو استنزاف يرهق أي ميزانية نفطية وينعكس ذلك على تماسك
دولتها.
كما تقدم، فإن إيران تجد نفسها مضطرة لتوسيع رقعة أمنها القومي جغرافياً، لوجود
مشكلات إثنية ودينية تمتد خارج حدودها، كالمشكلة الكردية التي تضطر معها لتحقيق نوع
من التنسيق مع غريمتها التركية، والبلوشية التي تضطر معها للتنسيق مع خصمها
الباكستاني، وأحوازية تمتد إلى الجانب الآخر من الخليج العربي، وتحتاج لقدر من
التسكين مع العواصم الخليجية. ولقد أصيبت الأقليات الشيعية بخيبة أمل من السياسة
الإيرانية الخارجية في العراق ودول الخليج، وحكمت على خطتها لنشر التشيع بالفشل
بسبب رعونتها في استعداء السنة وهم السواد الأعظم للمسلمين حول العالم.
وقد كان لدى الإيرانيين فرصة ذهبية خلال الطفرات النفطية لإنجاح مساعيها في استقطاب
الأقليات، ونشر معتقداتها، حيث تتمتع إيران بأكبر فرصة بين دول العالم في إطلاق
القوة الناعمة لديها بسبب نظام الخمس الذي يوفر ميزانيات هائلة مستقلة بعيداً عن
الحكومات بوسعه أن يحقق أوسع نشاطات منظمات العمل الأهلي (المدني) في المحيط
الإقليمي، وقد كان بمقدورها حالئذ أن تحقق نتائج مرضية جداً دون هذا السبيل الدموي
الستاليني الذي عمدت إليه، وحال ذلك دون أن تمثل قوة ناعمة حقيقية في العالم على
نحو يناظر ما فعلته نظيرتها المجاورة تركيا، يمكننا كذلك أن نقارن بين وضع المواطن
التركي من جهة، ونظيره الإيراني، المكون الأساس للدولة الإيرانية. تلك الدولة التي
تبدو كعملاق يرغي ويزبد لكن أقدامه تغوص في الأوحال حتى الغرق.