فضائل الصدق ومراتبهض
إن الصدق من أجَلِّ الأخلاق وأعظمها، وهو منبع كثير من الفضائل الخُلقية؛ وقد أمر الله المؤمنين بالصدق في جميع أحوالهم، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 199]، ووعدهم بأجزل المثوبة عليه فقال سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24]، وبيّن لهم أن عاقبته في الدنيا خير، فقال تبارك وتعالى: {فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21]، ونَوَّه بأثره في الآخرة فقال: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 199]، والصدق هو الخُلق البارز الذي اتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته حتى لُقِّب بالصادق الأمين.
وإن الصدق من أعظم الأخلاق التي يتصف بها إنسان؛ لذا كان محل عناية القرآن؛ للدلالة على أن المجتمع المسلم يجب أن يتَّصف بهذه الصفة الرائعة صفة الصدق؛ لأنها مفتاح كل خير.
منزلة الصدق في القرآن والسنة:
لقد تضافرت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة الحاثّة على الصدق وعلو شأنه، ومن ذلك ما يلي:
1- الصدق من صفات الله تعالى:
قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]، وقال جل شأنه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وقال جل ذكره: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، يقول إمام المفسرين ابنُ جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}: وأيُّ ناطق أصدقُ من الله تعالى حديثاً؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذبُ ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعاً أو يدفعَ به عنها ضراً، والله تعالى ذكره خالق الضرِّ والنفع، فغير جائزٍ أن يكون منه كذبٌ»[1].
2- الصدق من صفات الرسل عليهم السلام:
من أعظم صفات الرسل الصدقُ، وكيف لا يتصفون بهذه الصفة وهم المبلِّغون عن الله وحيَه، والمرسَلون بشرعه إلى خَلقِه! فلزم أن يكون الصدق ملازماً لهم في الأفعال والأقوال.. وهذا ما حكاه الله عنهم في عدة مواضعَ من القرآن الكريم؛ كقوله جل جلاله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 41]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 54]، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا 56 وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56، 57]، وفي كتابه العزيز: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا...} [يوسف: 46].
وقال تعالى عن رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: {بَلْ جَاءَ بِالْـحَقِّ وَصَدَّقَ الْـمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37]؛ «أي: صدَّق مَن كان قبله من المرسلين»؛ أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن قتادة؛ فإرساله صلى الله عليه وسلم كان أكبرَ علامةٍ على صدق الرسلِ في ما أخبَروا به.
الصدق في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عاش النبي صلى الله عليه وسلم والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقاً أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفاً ولم يزد حرفاً، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه.
بل حتى كان صادقاً في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، فلما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم! وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة ابن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح... فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته، فيقتله فقالوا: وما يدرينا، يا رسول الله ما في نفسك؟ هلا أومأت إلينا بعينك، قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين»[2].
فهو صلى الله عليه وسلم صادق مع ربه، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، صادق مع أهله، صادق مع أعدائه، فلو كان الصدق رجلاً لكان محمداً صلى الله عليه وسلم، وهل يتعلم الصدق إلا منه؟! وهل يُنقل الصدق إلا عنه؟! فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوته وإكرام الله له بالاصطفاء والاجتباء والاختيار!
حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق:
كان رسول الله دائماً ما يحث المسلمين على الصدق في أقوالهم وأفعالهم فيقول: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً»[3].
وكان صلى الله عليه وسلم يرفع من قيمة الصدق فيقول: «أَحَبّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ...»[4].
بل ويُوَجِّه رسول الله خطابه للمسلمين قائلاً لهم: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ؛ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»[5].
ومن عظمة رسول الله التربوية: ما تركه في نفوس أحفاده والمسلمين من حُبّ الصدق، وأكبر دليل على ذلك ما رواه أبو الحوراء السعدي؛ حيث قال: قلتُ للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله؟ قال: حفظت من رسول الله: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ»[6]، يقول القاضي عياض رحمه الله في الشفا: «وأما أقوالُه صلى الله عليه وسلم فقامت الدلائلُ الواضحة بصحة المعجزة على صدقِه، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصومٌ فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصداً ولا عمداً، ولا سهواً ولا غلطاً»[7].
ومن الأحاديث في صدقه صلى الله عليه وسلم وبُغضه للكذب: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان أبغضَ الخُلق إليه الكذبُ»[8].
وعنها قالت: «كان رسولُ الله إذا اطلع على أحدٍ من أهل بيته كذب كذبةً، لم يزل معرضاً عنه حتى يُحدِثَ توبة»[9].
فضائل الصدق:
للصدق فضائل عظيمة يسعد بها العبد الصادق في الدنيا، وينال بسببها من البركة والقبول والصلاح في الدنيا والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة، ومن أهم فضائل الصدق ما يلي:
١- صدق القلب في إخلاص العمل لله تعالى هو أساس القبول:
لا بد للعبد أن يحقق الصدق؛ ليقبل الله سبحانه وتعالى منه طاعته، وليجيبه، وليجعله من المقبولين عنده تبارك وتعالى، ولذلك من نوى نية ثم لم يستطع أن يعمل بما نوى من العمل الصالح كتب الله له أجر ما نوى، على حد الحديث الذي قَبِلَهُ ابن تيمية في مختصر الفتاوى: «نية المؤمن خيرٌ من عمله»، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ سَأَلَ الله تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»[10].
2- الصدق جامع لكل صفات البر ومنجاة في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله بعد أن أورد هذه الآيةَ في منزلةِ الصِّدق من مدارجه: «وهذا صريحٌ في أن الصدقَ هو مقامُ الإسلام والإيمان»[11].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: {وَأُوْلَئِكَ}؛ أي: المتصفون بما ذُكِر مِن العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثارُ الإيمان وبرهانُه ونوره، والأخلاق التي هي جمالُ الإنسان وحقيقتُه الإنسانية، فأولئك {الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانِهم؛ لأن أعمالَهم صدَّقت إيمانَهم»[12].
وقال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْـمُنَافِقِينَ إن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24]، فدلت الآيةُ على أن الناس صنفان: صادقون ومنافقون؛ وذلك لأنه كما يقول ابن القيم رحمه الله: «الإيمان أساسه الصدقُ، والنفاق أساسه الكذبُ، فلا يجتمع كذبٌ وإيمان إلا وأحدُهما محارِبٌ للآخر»[13].
3- عِظَم جزاء أهل الصدق:
لقد وعَد الله الصادقين بأعظم الجزاء، وأفضل الثواب؛ وما ذلك إلا لعِظَم هذه الخَصلة التي تحلَّوْا بها، والصفة التي اتصَفوا بها، بل إن اللهَ جعَل مرتبة الصِّديقين بعد مرتبة النبيين، وجعَلهم من المنعَم عليهم الذين وعَد اللهُ أهلَ طاعتِه وطاعةِ رسوله برفقتِهم في الجنة؛ فقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِـحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، والصِّدِّيقون كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «هم الذين كمُل تصديقُهم بما جاءت به الرسلُ، فعلِموا الحقَّ وصدَّقوه بيقينهم وبالقيام به؛ قولاً وعملاً وحالاً ودعوةً إلى الله»، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} بالاجتماع بهم في جنات النعيمِ، والأنس بقربِهم في جوارِ رب العالمين»[14].
4- طمأنينة القلب واستقراره:
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب، التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه، يقول صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة»[15].
مراتب الصدق:
للصدق مراتب كثيرة ومتنوعة، نذكر بعضاً منها:
1- الصدق في اللسان:
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها، ولا يتجاوزونها إلى غيرها، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، وجاهد نفسه في تحقيقها.
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ، فمن حفظ لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق في خبره، وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات. قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»[16]، وقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع»[17].
2- الصدق في النية والإرادة:
يرجع ذلك إلى الإخلاص وهو ألا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يسمى كاذباً. وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل ابتغاءً لمرضاته، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ 15 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].
3- الصدق في الوفاء بالعزم:
فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال؛ إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤونة فيه خفيفة، فإذا حصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، ومما جاء في أسباب نزول هذه الآية ما رواه أنس رضي الله عنه: أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله ليرين الله ما أصنع! قال: فشهد أحداً في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال: واهاً لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد! فقاتل حتى قُتل فوُجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة؛ فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا ببنانه. وفيه نزلت الآية[18].
4- الصدق والنصح في المعاملات:
إن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين الصدق والنصح في جميع المعاملات، وحرم عليهم الكذب والغش والخيانة، وما ذاك إلا لما في الصدق والنصح وأداء الأمانة من صلاح أمر المجتمع والتعاون السليم بين أفراده والسلامة من ظلم بعضهم لبعض وعدوان بعضهم على بعض، ولما في الغش والخيانة والكذب من فساد أمر المجتمع وظلم بعضه لبعض وأخذ الأموال بغير حقها وإيجاد الشحناء والتباغض بين الجميع، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»[19].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غشنا فليس منا»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني»[20].
فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب النصح والبيان والصدق في المعاملات وعلى تحريم الكذب والغش والخيانة، كما تدل على أن الصدق والنصح من أسباب البركة في المعاملة، وأن الكذب والغش من أسباب محقها، ومن النصح والأمانة بيان العيوب الخفية للمشتري والمستأجر وبيان حقيقة الثمن والسوم عند الإخبار عنهما. ومن الغش والخيانة الزيادة في السوم أو الثمن ليبذل المشتري أو المستأجر مثل ذلك أو قريباً منه.
نسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.
[1] انظر: تفسير ابن جرير الطبري المسمى: جامع البيان في تأويل آي القرآن (5/ 226 – 227).
[2] أخرجه النسائي في سننه (4078)، وصححه الألباني.
[3] أخرجه مسلم (2607)، وأبو داود (4989)، والترمذي (1971)، وابن ماجه (3849).
[4] أخرجه البخاري (2184)، وأبو داود (2693).
[5] أخرجه أحمد (22809)، وابن حبان (271)، والحاكم (8066)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع (1018).
[6] أخرجه الترمذي (2518)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (3378).
[7] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 356.
[8] أخرجه أحمد والبيهقي، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (4618).
[9] أخرجه أحمد والحاكم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (4657).
[10] أخرجه مسلم (1909).
[11] انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 25).
[12] انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص66.
[13] انظر: مدارج السالكين (2/ 25).
[14] انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص150.
[15] أخرجه الترمذي (2518)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3378).
[16] أخرجه البخاري (2749)، ومسلم (2563).
[17] أخرجه مسلم (5).
[18] أخرجه مسلم (1903).
[19] أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
[20] أخرجه مسلم (102).