هل نحن على موعد مع اتفاقية تيلرسون-لافروف؟
ظلت الحدود المصطنعة التي وضعها مسيو بيكو الفرنسي، وماستر سايكس البريطاني مستقرة، إلى أن بدا للغرب أن هذا التقسيم لم يعد كافياً في تحطيم شعوب المنطقة ووضع العراقيل أمام أي محاولة للتقدم والبناء.
بقاء تلك الدول بتلك المساحات وما تملكه من مقدرات وموارد طبيعية وقوى بشرية، قد يؤهلها في لحظة تاريخية فارقة من خلال قوى وطنية لأخذ زمام المبادرة والنهوض بتلك الشعوب، وهو ما بدا واضحاً إبان الثورات العربية. لذا فليس من المستغرب أن نسمع عن مؤتمر لوجهاء ورجال أعمال في إقليم حضرموت اليمني يطالبون فيه بأن تكون محافظة حضرموت إقليماً مستقلاً بذاته، صحيح أن بيان المؤتمر لا يدعو للانفصال أو تكوين دولة مستقلة بل يطالب بالفدرالية. لكن القضية أن النزعة الجهوية والاستقلالية آخذة في النمو في مجتمعاتنا. ولا تنشأ تلك الدعوات وتعقد لها المؤتمرات وتصدر عنها البيانات من فراغ، ولا بد من جهة ما تدعم وتؤيد وتدفع بيد خفية تلك الدعوات للظهور. وفي العراق بدأ الأكراد تفعيل حلمهم بتكوين دولتهم المستقلة وإعلانهم عن البدء في التحضير لاستفتاء عام في المناطق التي يسيطرون عليها، وبرغم أن الأكراد يتمتعون بحكم ذاتي ولديهم مؤسساتهم المستقلة من رئيس للإقليم وبرلمان وقوات عسكرية وعَلم خاص بهم، ولهم اتفاقياتهم الاقتصادية المستقلة عن الحكومة المركزية في العراق ويتمتعون بحرية كاملة في المجالين الاقتصادي والسياسي إلا إن وجود دولة مستقلة للأكراد ليس هدفاً لهم وحدهم.
ويبدو أن الحكومة المركزية في العراق غير عازمة على الدفاع عن وحدة العراق، وأن ضغوطاً مورست عليها للقبول بهكذا دعوى، فتصريحات العبادي رئيس الوزراء العراقي تقر بأحقية الأكراد في الاستفتاء على استقلالهم، كل ما في الأمر بالنسبة لبغداد أن الوقت غير مناسب، لكن أربيل ردت بأنها ماضية في خطتها. ولا شك أن خطوة كهذه لن تمر إلا بموافقة ودعم غربي.
ومن الشرق إلى الغرب، ففي ليبيا حيث لا مكان للنزعات العرقية أو المذهبية تبرز الجهوية معياراً جديداً للتقسيم والتجزئة، منذ أيام ثورتها الأولى وُضعت لبنات الجهوية مرتكزاً للعملية السياسية، فتم انتخاب لجنة الستين لوضع الدستور الليبي الجديد على أساس المحاصصة الجهوية؛ عشرون عضواً لإقليم برقة ومثلهم لطرابلس ومثلهم لفزان في الجنوب، حتى اتفاق الصخيرات أفرز مجلساً مجزأ بالتساوي على الأقاليم الثلاثة، مع التفاوت في المساحة الجغرافية وعدد السكان.
ومنذ أسابيع قليلة كشفت صحيفة «الجارديان» البريطانية، في تقرير خاص لها عن أن سابستيان كورجا، نائب مساعد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في ملف السياسة الخارجية، اقترح خطة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات، ورسم هذه الخطة على «منديل ورق» أثناء لقائه بدبلوماسي أوربي رفيع المستوى ـ لاحظ على منديل ورقي يستعمل ثم يرمى في سلة القمامة، هذه هي قيمة الدول العربية لديهم ـ ومن المعروف أن كورجا له صلات قوية مع جماعات اليمين المتطرف المجرية، وقد اقترح هذه الفكرة قبل أسابيع من تنصيب الرئيس الأمريكي. وهو يسعى للحصول على منصب مبعوث ترمب الخاص إلى ليبيا.
وفي سوريا تدعم الولايات المتحدة الأمريكية القوات الكردية وتمهد لها الأرض لتكوين مناطق جغرافية متصلة عبر الإمداد بالسلاح والصمت عن جريمة التهجير والتطهير العرقي الذي تقوم بها قوات حماية الشعب الكردي ضد العرب السنة، ومنع تركيا بشكل مباشر من التدخل لوقف هذا الطموح الكردي ورفعت أعلام القوات الأمريكية في المناطق العسكرية للقوات الكردية خاصة في منطقة منبج حيث تمكن الأكراد من وصل مناطق سيطرتهم ببعضها، لمنع الأتراك من التدخل.
ولا أحد يدري على ماذا سيكون الوضع في تركيا بعد نشوء دول كردية في تماس مع حدودها واتصال تلك الدول بمناطق الأكراد داخل تركيا. خاصة مع وجود حزب العمال الكردستاني ذي التاريخ الطويل من الصراع المسلح مع النظام التركي، والداعم الأساسي بالتسليح والتدريب لقوات حماية الشعب الكردي في سوريا، وينشط حزب العمال الكردستاني في أوربا برغم تصنيفه جماعة إرهابية، وهو الأمر الذي يجيب على التساؤل من أين يوفر الحزب تلك القدرات العسكرية والتسليحية.
البعض يتحدث عن تقسيم وتجزئة على أساس عرقي أو مذهبي يحصل فيه العرب السنة على حصة ولو صغيرة لكن يبدو أن راسم السياسات الغربي لا يسمح حتى بهذا القليل أو الصغير أو الكبير من دون مقومات، ففي العراق سيكتفى بدولة كردية وأخرى شيعية، ويبقى أهل السنة تحت وطأة سيف الشيعة، وفي سوريا كذلك دولة كردية وأخرى يهيمن عليها الشيعة، فدول سنية خالصة ستكون أكثر تحرراً وربما تنحاز إلى الدول السنية الكبيرة وتتحد معها، وهذا ما لا يريده الغرب.
ففي دولة يوغسلافيا السابقة نشب صراع بين مكونات الدولة (المسلمون والصرب والكروات) وفي نهاية الصراع أعطيت دولة خالصة يهيمن عليها الصرب، وأخرى للكروات، أما المسلمون فدولتهم مشتركة بين الأطراف الثلاثة، ونظامها السياسي معقد فلها مجلس رئاسي تتناوب فيه الرئاسة بين الأطراف الثلاثة، ولكل طائفة برلمان وهكذا لم يسمح للمسلمين في أوربا أن تكون لهم دولتهم المستقلة.
ليس التقسيم وحده هو الشبح الذي يظلل المنطقة بل الدول التي تستعصي على التجزئة والتي قد تبقى في إطار حدود سايكس - بيكو، قد تنحو إلى الفيدرالية فتصبح الدولة المركزية إطاراً شكلياً هشاً مع تنازع الصلاحيات بين كياناتها الفيدرالية، وبحث كل فئة أو عرق عن مصالحه، والتنازع والتنافس على الموارد وإدارتها والاستفادة منها.
وتبقى الصوملة أو الدولة الفاشلة - بأن تبقى الدولة من دون حكومة مركزية معترف بها ولها السيطرة على الأرض والشعب - أحد الحلول الممكنة للقضاء على شكل الدولة القطرية الموحدة التي لم يعد مرغوباً به في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة.
وإن كانت سايكس - بيكو القديمة بين بريطانيا وفرنسا، فاليوم الروس أصبحوا أكثر تأهلاً للعب دور الشريك المنتصر، فما من بقعة مشتعلة وإلا وللروس موطئ قدم فيها؛ من أفغانستان، حيث تجري روسيا مفاوضات مع حركة طالبان ودعت لمؤتمر دولي لحل القضية الأفغانية، إلى ليبيا حيث كل الأطراف تحج إلى موسكو، إلى سوريا حيث القواعد العسكرية التي تبدو أنها تجاوزت أي حلول للأزمة السورية سواء بقي الأسد أو رحل، فالقواعد العسكرية باقية، وبالقطع تبقى الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر والاقتصاد الأقوى صاحبة الحصة الأكبر مع قارة أوربا العجوز التي تعاني من مشكلاتها وأزماتها الداخلية.
إنه ليس من العجيب أن تكون منطقتنا قصعة يتناهشها الذئاب إنما العجيب أننا أصبحنا نجلس نشاهد أعضاءنا وهي تتمزق بين أنيابهم ولا نحرك ساكناً، حتى الحراك الشعبي والعواطف الإسلامية بل والإنسانية تبلدت من كثرة ما شاهدنا من دماء وفظائع. يقتل الآلاف ويهجر الملايين من الموصل، ويحرق مثلهم في سوريا ولا نحرك ساكناً.
أخشى أن يأتي يوم بعد مئة عام ويكتب أحدهم مقالاً عن ذكرى اتفاقية تيلرسون ـ لافروف لإعادة تشكيل المنطقة.