إلى برك الغماد!
بكل لفظ ممكن يجمع شتات حزني أقول: لم يعد يخفى علينا ما تعيشه الأمة من ضعف، وعجز،
ولا يخفى علينا أنها في كثير من الميادين تقتات على فتات أعدائها، وتجري في سبيلهم،
وتنهل من عينهم. والأمر الجميل فينا مع ضعفنا أننا ننشد الإصلاح، وتستهوينا قصص
المصلحين، وأخبار العباد، وفتوحات المجاهدين، ويؤلمنا ما حل ويحل في زمننا، ونريد
إشعال جذوة الأمة وإعادتها فتية كما كانت، جادة، منتجة، عاملة في كل المستويات وعلى
حسب الاستعداد.
نريد عودتها قوية في ميدان العلم: يوم كان ابن عباس يسمع بالحديث في الظهيرة فيقوم
فوراً ويبحث عن صاحبه فيأتيه وهو قائل، فيتوسد رداءه، وتسفيه الريح، حتى يخرج الرجل
ويسمعه الحديث.
ونريد عودة العزمات والهمم: يوم كان أحدهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم بكل جدية:
والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخِيض برواحلنا البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب
أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
كلنا نريد إعادة هذه الصورة من التربية الجادة التي تربى عليها أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم.
ما هي الجدية وما علاقتها بالعمل؟
ليست الجدية في عدم الابتسام وقلة الضحك فكم من طريف الطبع، باسم الثغر، فإذا كان
الجد كان رجلاً!
وليست مقصورة على التحصيل العلمي وبذل الجهد فيه فثمة طاقات متقدة حماسة وغيرة،
ولكنها لا تملك الاستعداد العقلي في قصر النفس على التعلم، وليست مقصورة في الجهاد
وإراقة الدماء وتطاير الأشلاء في سبيل الله، وليست مقصورة في الدعوة ونصح الناس
وتتبع أماكن المنكرات والنزول إليها لأجل الإنكار.
إن الجد في الإصلاح الذي يرفعنا ويرفع أمتنا، لا يقتصر على شعبة من شعب الإيمان،
لكن له مخاضة شاقة لا يمكن تجاوزها إلا بالجد.
وعندها سيأذن الله باليقظة، وسيشرق نور الإيمان، وستمتلئ الدنيا بالعلماء، والدعاة،
والعباد، والمجاهدين، وسيعلو الهدى مشارق الأرض ومغاربها بعز عزيز أو بذل ذليل!
إن الجدية التي نريد بكل اختصار هي: العمل المنتج، فسنة الله في خلقه أن لا يفلح
إلا العامل؛ {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْـجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} [الأعراف: ٣٤].
وذلك حتى على مستوى الشركات والتجارات، تجد الإنتاجية عندهم، والعمل الدؤوب، هي
المعيار الذي تقيم على أساسه موظفيها، وتمنحهم به الميزات والعلاوات، وتجدهم
يعتذرون من صاحب الغياب الذي لا ينجز عمله ولا يملك روح الجدية في العمل.
وجولة يسيرة في نصوص الهدي والحكمة توضح لك أن الجدية مفصلية كل أمر. ففي القرآن:
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْـحُكْمَ صَبِيًّا}
[مريم: ٢١]؛ خطاب للنبي بأن يأخذ الكتاب بقوة تتناسب مع عمق القضية التي يدعو
إليها. وكذلك وجه الخطاب لموسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ
شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:
٥٤١]، وينعى كتاب الله على الذين يظنون أنهم داخلو الجنة هكذا عبثاً دون عمل أو
مجاهدة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم
مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: ٤١٢]، ويضعهم أمام هذا
النموذج: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا
وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ صلى الله عليه وسلم٦٤١صلى الله عليه
وسلم) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ
الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ٦٤١، ٧٤١]، وأهل النار حين يعاينون العذاب يطلبون
الشفاعات والوساطات لأجل أن يخرجوا أو يرجعوا فيعملوا: {فَهَل لَّنَا مِن
شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
[الأعراف: ٣٥]، قالوا ذلك وقد أدركوا قيمة العمل وعلو شأنه، وأن مصيرهم الذي
صاروا إليه نتيجة للعمل الذي عملوه، ولو أنهم أدركوها حق الإدراك قبل هذا لكانوا في
منزل غير منزلهم ولات حين مندم.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم: «استعن بالله ولا تعجز»، وكان النبي يقول كل
يوم: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»، فهو صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من
هذه الصفات المقيتة التي لعلك لا تجد للرجل غير الجاد وصفاً أدق منها وأبلغ فهو
عاجز كسول قد استطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، كما يقول
ابن القيم في مفتاح دار السعادة.
كيف الطريق للجد الذي يرفع أمتنا؟
- معرفة ثمرة الجد: فإنك حين تكون جاداً فإن عدداً من الفضائل سيندرج فيك، فأنت
حينئذ صاحب عمل مثمر دائم داخل في قول النبي: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل»،
ولا يكلف الدوام إلا رجل جاد، وأنت حينئذ مدرك لقيمة الوقت حريص على عدم إهداره في
غير طائل، وهذا لا يكون إلا من صاحب الجد، فهو الذي بيده مقاومة رياح العجز والكسل
والتسويف العاتية، وأنت حينئذ صاحب اهتمامات عالية. وكثير من الناس مغترون بالمظاهر
مولعون بما ليس له قيمة، ولو أنهم أزالوا الغبش عن أعينهم لأبصروا، وأنت حينئذ
مشغول بفكر جاد وهم في أحوال أمتك، وتتساءل عن الوسيلة المفيدة لأمتك، كيف أصل لها؟
وكيف أطبقها؟ حتى تصل لنتيجة، وغيرك يجعلها استفهامات مفتوحة ولا يقوى على إجهاد
ذهنه في غلقها، وأنت حينئذ تتحمل المسؤولية بنفسك، غير آبه بكلام الناس وتخذيلهم
لك، خليق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين،
لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»، إن هذا الصنف
الذي يتحمل الخذلان والمخالفة، وهو مع ذلك صابرٌ مقيم على إنتاجه وجده، رجل بلغت
نفسه أرفع درجات الجد والإنتاجية حتى غدت كنجوم السماء؛ لا يضرها نضح النبل.
- إدراك سير الجادين وتأملها: فهو أسلوب القرآن في تربية النبي والناس:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}
[يوسف: ٣]، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وهو أسلوب للنبي في تربية
أصحابه فلما جاءه خباب شاكياً ما أصابه من أذى المشركين وضعه أمام نموذج وقدوة جادة
ليعتبر، فقال له معاتباً وموجهاً: «كان الرجل في من كان قبلكم يحفر له في الأرض
فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط
بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله
هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه
ولكنكم تستعجلون».
- إدراك بذل الأعداء وجهدهم: فهذا يشعر الإنسان بالتحدي وأن عليه أن يكون متواصلاً
في تحسين أدائه، وبذل ما يستطيع في نصرة قضيته، وقد أشار القرآن لهذا المعنى فقال:
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، [النساء:
104] فهم يبذلون لباطلهم، أفلا تبذلون لحقكم؟
عندما تتأمل تضحياتهم في باطلهم تشعر بالأسى والحرج؛ فهذا يخرج في أكثر من قناة كل
يوم، ويكتب عدداً من المقالات، ويقوي فكرته في الرد على المعترضين، وإجابة
المستفهمين، ويقيم عدة ندوات، ويلقي عدداً من المحاضرات، ويؤلف الكتب، ويكتب في
المواقع، مع ما يصيبه من أذى الناس، والسجن أحياناً والفصل من العمل، أفلا يكون أهل
الحق وما وعدهم الله من عظيم الجزاء والفضل أولى بهذه التضحية؟!
- التفاؤل بتحقق الهدف المرتقب: فالإحباط لا يزور إلا القلوب المشوشة بمشكلات
واقعها، التي لم تتحصل لها فضيلة التفاؤل. فالله قال ولا يخلف الله الميعاد:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: ٥٥]، ويخبر النبي بوعد صادق: «ليبلغن
هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا
الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر».
وإبراز هذا الأمر من الأهمية بمكان، فالمربي في حلقته مثلاً لا يكون جاداً في عمله
إذا لم يثق بأن طريقه صحيح، والمعلم في مدرسته لا يستطيع أن يحقق ما يرجو في تعليمه
إذا كان غير واثق من طريقه، ولا يمكن أن ينتج إذا أيقن في ذاته أن الطلاب لا يتأتى
إصلاحهم!
- إدراك حقيقة هذه الدنيا: وأنها عما قليل زائلة، وأن الإنسان لا يعيش فيها إلا
سنوات قليلة، وصور الله وقت الدنيا وسرعة زوالها بقوله:
{إنَّمَا مَثَلُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ
نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، هل تأملت
يوماً في الأرض وقت الربيع وجمالها الفاتن، ثم عدت لها بعد أيام لتراها فقراً
يباباً؟! فهكذا الدنيا.
وربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه القضية فمر مرة بالسوق فوجد جدياً
أسك ميتاً فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: ما
نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به، قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان
عيباً فيه لأنك أسك فكيف وهو ميت، فقال: «فو الله للدنيا أهون على الله من هذا
عليكم».
حين يستقر هذا المعنى في النفوس، فإنها ستتجه للعمل الجاد المثمر، والنظر إلى
الأمام، والاستهانة بما تلاقي في هذه الدار، وحينها سيكون الداعي والمصلح مشغولاً
بالأمر الأعلى في كل مقصود، فلا يكتفي بدعوة الناس فقط، ولكن ينتقي منهم من يصلح
للدعوة ويختصهم برعايته وتوجيهه. ولا يكتفي العالم بالدروس العامة للعامة، بل يخصص
أوقاتاً كثيرة لمن يرجو نبوغهم حتى ينبغوا. ولا يكتفي معلم الحلقة برعاية طلابه
والحرص حتى يحفظ وقتهم، وابتكار الأساليب التي تجذبهم حتى لا يذهبوا! بل يصرف جل
جهده لمعرفة ميولهم ويمكنهم من أنفسهم، ويسلم قيادها لهم، ولا يكون مجرد راع يرعاهم
كما يرعى أحدنا شاته.
وختاماً:
فهذا مختصر نافع يسير في هذا الموضوع الكبير، كاف بإذن الله في حصول المقصود،
وللاستزادة يراجع ما كتبه الشيخ محمد الدويش في كتابه: التربية الجادة. ومقالتي
ليست تلخيصاً للكتاب، ولكن كأنها.