• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تجسير التطبيع

تجسير التطبيع

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد:

من بركة نشر العلم وتعليمه، وتوظيف كافة الوسائل الممكنة لتعليم الناس أحكام الشرع؛ أن تنشأ أجيال المسلمين معظمة لأحكام الشريعة، ملتزمة - في الجملة - بأصول العبادات، وأن تشيع بينهم معرفة الأحكام، وتطبيق السنن والواجبات، فلا تبقى أحكام الشريعة في غربة في بلاد الإسلام مهما حصل من تقصير أو تفريط في الواجبات واجتناب المحرمات، فيبقى المنكر منكراً ولو كثر منتهكوه، والمعروف معروفاً ولو قل فاعلوه. أما حين يغيب البيان والتوضيح للأحكام الشرعية فإن غربة العلم بالشرع من أعظم أسباب شيوع الانحرافات التي يصبح معها المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

تجد بركة نشر العلم بينة في مجالات كثيرة من حياة الناس، ومن ذلك الوعي بالمفاهيم والاتجاهات الفكرية المعاصرة وما فيها من انحرافات عن حكم الشريعة، مما دفع كثيراً منهم أن يتبرأ منها خشية من نفور الناس وشدة نكيرهم، وهذه ظاهرة لا تخطئها العين في أتباع العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، حيث أصبح كثير منهم يتبرأ من العلمانية ظاهراً وإن كان لا يزال معتنقاً لأفكارها خشية من نفور الناس وتشنيعهم، وهو ما دفع بعضهم للبحث عن مسميات جديدة بديلة عن العلمانية.

هذا الوعي الشعبي هو نتيجة إيجابية رائعة للجهود العلمية والفكرية المباركة التي قام بها العلماء وطلبة العلم والدعاة والمثقفون خلال فترة طويلة من الكتابة والمناظرة والحوار؛ غير أن هذا الوعي قد يطرأ عليه إشكال في أن تنشأ أجيال تعرف شناعة اللفظ لكن يخفى عليها حقيقة سبب هذه الشناعة، فتنفر من الاتجاهات الفكرية لكنها لا تدرك على التفصيل حقيقة الإشكال، وهو ما يسهل من مهمة تحريف قناعات الناس وتغيير وعيهم، ودفعهم نحو تقبل الانحرافات نظراً لعدم إدراكهم الحقيقي لمحل الإشكال.

إشكالية الغفلة عن حقيقة الباطل عند من نشأ في الإسلام ليست أمراً جديداً، فقد نبه إليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال - وهو الفقيه الملهم -: «قد علمت متى تهلك العرب» فقام إليه رجل من المسلمين فقال: «متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟» فقال: «حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية ولم يصحب رسول الله». وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه، فإن من عرف الحق وعرف الجاهلية، فقد عرف الحق وعرف ما يضاده، فكانت معرفته بالحق معرفة مفصلة كاشفة لما فيه من عدل وخير وصلاح، ومدركة لما يترتب على تركه من فساد وانحراف وضلال، وليس هذا كله متيسراً لكل من عرف الحق وآمن به، فبعضهم عرف الحق ونشأ عليه لكنه لا يدرك الباطل بما يجعل أمر تأثره بالباطل أقوى.

ظاهرة تقبل الباطل ممن نشأ على الحق تتجلى في حالات كثيرة من واقعنا المعاصر؛ تنشأ أجيال المسلمين على معرفة الحق ثم تفجأ لاحقاً بتقبل كثير منهم لبعض الأفكار المصادمة لهذا الحق من دون أن يشعروا، نظراً لأنهم لم يعرفوا الحق معرفة حقيقة.

ولعل من أبرز الشواهد على هذه الظاهرة حالة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، حيث نشأت أجيال المسلمين وهي ترى الصهاينة عدواً محتلاً للبلاد، منتهكاً للمقدسات، معتدياً على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وأن الاستعمار جاء بهم من أقاصي الشرق والغرب ليحلوا في بلاد المسلمين ظلماً وعدواناً، والواجب تحرير البلاد منهم، وأن التطبيع معهم يعطيهم المشروعية لما سلبوه من بلاد، ويجعل العلاقة معهم علاقة صداقة وتبادل مصالح تقوي من وجودهم، وأن هذا التطبيع تضييع لواجبات وقطعيات شرعية.

نشأت الأجيال على هذا الأمر، وأصبحت ترى التطبيع خيانة شديدة لا يمكن أن تنقلب إلى وجهة نظر، غير أن الملفت أنه مع ظهور المعرفة القوية بهذا الحق، وعمق القناعة به عند أكثر المسلمين أنه يسهل تجاوزه بدعاوى ضعيفة تكشف عن إشكالية من نشأ في الإسلام وهو لا يعرف الجاهلية، فهذه الدعاوى والتبريرات تكشف أن من كان يكره التطبيع ويعاديه ويتبرأ منه لم يكن مدركاً على الحقيقة لماذا كان معادياً له!

حين يؤيد بعض الناس مبادرة التطبيع مع العدو الصهيوني التي تشترط مكاسب اقتصادية لأهل فلسطين، وتسهيل دخول الضرورات والحاجات المعيشية على أن هذا مكسب كبير يجب دعمه! فهو لم يفقه لماذا إذن كنا ضد التطبيع مع الصهاينة، فالتطبيع مع الصهاينة الذي رفض لعقود كان يحقق مصالح اقتصادية لكنه يعطي صك المشروعية لمن احتل الأرض ونهب الثروات وسحق الحقوق؛ فهو تطبيع مرفوض  برغم المصالح الاقتصادية.

وذاك المخذول الذي يدعو للتطبيع لأن الكثير من عوام الصهاينة يحبون السلام ولا يريدون الحرب! هذا الجاهل لا يدري أساساً ما سبب رفض التطبيع، فمن يحب السلام من الصهاينة هو من يغادر الأرض التي احتلها وهجّر أهلها، وليس من يريد أن يأخذ حقوق الآخرين ثم يريد السلام! فبهذا المنطق كل المجرمين هم محبون للسلام! لأن المجرم لا يريد سوى أن تترك له جريمته ولن يكون عسيراً أن تتصالح معه بعد ذلك على أي شيء!

والثالث الذي يحمّل المقاومة المسلحة جريرة عدوان الصهاينة، وأن ما حدث هو بسبب المقاومة! هو أيضاً ممن نشأ في الإسلام ولا يعرف لماذا هو يرفض التطبيع، فالنظر للصهاينة وكأنهم أصحاب حق في ملكية أرضهم وأنهم يدافعون عن حقهم؛ هذه الصورة تعبر عن جهل محكم بحقيقة ما يجري في فلسطين، جهل بتاريخ المعركة، وغفلة عن حقيقتها.

ورابع يتحدث عن الصلح والهدنة، ويستدل بصلح النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش! وهو جهل عظيم بحقيقة التطبيع، وبالمستندات الشرعية التي بني عليها الموقف الرافض له، فالهدنة والصلح أمر مشروع ليس له علاقة بقبول التطبيع الذي يتجاوز موضوع الصلح والهدنة إلى الإقرار التام بمشروعية بقاء الصهاينة وملكيتهم الصحيحة لما احتلوه من الأراضي وأن يزول الخلاف والعداء بينهم وبين المسلمين، وهو أمر لا يمكن أن يتم مع بقاء مقدسات المسلمين تحت احتلالهم وتدنيسهم.

وخامسٌ يجعل العلاقة مع الصهاينة كالعلاقة مع بقية الدول الكافرة، فكما تقيم علاقات مع بقية الدول فلماذا لا تقيم مع الصهاينة؟ وهو يكشف بشكل أوضح عن طبيعة الخلل عند من نشأ يرفض التطبيع وهو لا يفقه هذا الشيء الذي يرفضه، فالعلاقة مع الصهاينة تتضمن إقراراً لهم بما احتلوه من أراضي المسلمين، وهو ما لا يوجد مع غيرهم من الدول الكافرة.

وسادسٌ يتحدث عن المصالح المترتبة على التطبيع، فيبدأ متفنناً في العد والحصر لما يتوهمه من مصالح ومفاسد، ولو قبل بمنطق المصالح والمفاسد في مثل هذا السياق لأصبح التخلي عن أوطان المسلمين مصلحة قابلة لوجهات النظر، ولأمكن لكل أحد أن يعلن إمكانية بيع وطنه لأقرب محتل له بدعوى المصالح والمفاسد! والحقيقة أنها مصالح متوهمة، بل هي تخدم المصالح الصهيونية التي ستستفيد من التطبيع في التمكين لكيانها وتقويته وتعزيز مشروعيته، وكل ما يذكر من مصالح ومفاسد يمكن تحقيقه بالهدنة والصلح، وهو أمر مشروع، لكن الصهاينة لا يريدونه بل يريدون الضغط من خلاله حتى يتم لهم التطبيع الكامل.

وألوان كثيرة من تبريرات ودعاوى تسويغ التطبيع لا تخرج عن هذا الإطار: الغفلة وعدم فهم سبب رفض المسلمين للتطبيع مع الصهاينة؛ الرفض الذي يعتمد على أصول شرعية عديدة في ضرورة الدفاع عن أراضي المسلمين وعدم جواز تسليمها للعدو المحتل الغاشم، حتى ولو عجز المسلمون عن الدفاع، فالعجز مسقط لوجوب الجهاد، لكنه لا يسوغ التطبيع الذي يتجاوز ذلك كله إلى إعطاء المجرم المعتدي شرعية لجريمته.

وقد سجلت خلال عشرات السنين في ذلك دراسات وأبحاث، وصدرت فتاوى من علماء الإٍسلام، والمجامع الفقهية والعلمية؛ كلها تندد بالتطبيع، وترفضه، وتبين أوجه الفساد فيه، وهو ما اتفقت عليه كلمة الدول العربية والإسلامية في أول الأمر.

هي حالة من تراخي الوعي، وذبول الإدراك، تغشى أقواماً من الناس نشأوا وهم يسمعون الحق ويعلمونه، فحفظوه وعرفوه وقالوا به، فما طال عليهم زمن حتى تسرب إلى عقولهم وألسنتهم ما ينقض هذا الحق الذي عرفوه من حيث يشعرون أو لا يشعرون، لأنهم عرفوا الحق ولم يعرفوا حقيقته، ونشأوا عليه ولم يعرفوا ضده، فسهل اختراقهم وتغيير أفكارهم حتى في أجلى القضايا وأبينها.

إن هذا ليحتم ضرورة الاستمرار في نشر الوعي وتصحيح المغالطات وتفكيك الإشكالات بشكل دائم، وإعادة البث في كل محفل، حتى لا تنشأ أجيال لا تعرف من الحق إلا لفظه، وليس في عقولها من معرفته إلا قشرة خفيفة في الظاهر، وتحتها نفق مظلم يجسر الطريق للتصورات والأفكار المشوهة.

:: مجلة البيان العدد  352 ذو الحجة  1437هـ، سبتمبر  2016م.

أعلى