هوس التفسير السياسي
تتملكني الدهشة والإعجاب كلما نظرت في بعض المواقف الصارمة لأئمة السلف من الأحكام الفقهية المتعلقة بالتعامل مع (السلطة السياسية)، ولو فتح الشخص صفحة ذلك التاريخ لانهالت على ناظريه عشرات القصص والأخبار في إنكار الدخول على السلاطين، أو تولي القضاء لهم، وإسقاط الرواية عمَّن وجدوه مترخصاً في ذلك، إلى مواقف أشد حسماً وصرامة كمثل ما روي أن (خلفاً البزار) رفض الرواية عن شيخه (الكسائي) بسبب أنه سمعه مرة يقول: سيدي الرشيد، فقال: (إن إنساناً مقدار الدنيا عنده أن يجعل من إجلالها هذا الإجلال لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم)[1].
وأتساءل مع القارئ الكريم: ما سبب هذه الصرامة المنهجية التي سلكها أولئك الأئمة؟
يحلو لكثير من الناس أن يبحث لها عـن مبـررات وأعذار؛ لأن ثَمَّ قنـاعة في التفكير الفقهي المعاصر بعدم رجحان مثل هذه المواقف بناءً على قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، وهي آراء قابلة في تفاصيلها للاجتهاد والأخذ والرد، غير أن ما يدهش المتابع حقاً أن هذا الموقف في جملته قد كان صيانة ربانية وعناية إلهية لهذه الشريعة من حيث لا نشعر؛ لأن (التفسير السياسي) هو أعظم قوس جائرة سُدِّدت إلى جسد التراث الإسلامي؛ فكل الدراسات الفكرية المعاصرة التي أخذت تنبش في تاريخ الإسلام وتراثه كانت تعتمد بشكل رئيس على تأثير السياسة على النصوص الشرعية وطرائق الاستدلال والاجتهاد، وأن الأحكام والنصوص لم يكن مردُّها إلى التشريع والديانة بقدر ما هي متأثرة بواقعها الذي صاغته السياسة.
وحين يعرف المتابع حقيقة ما كان عليه العلماء في ذلك الزمن، وبُعدَهم عن السلطة، وتحاشيهم عنها، وتحفُّظهم من مجرد الدخول عليها أو تولي القضاء لديها، فإنه سيجد أن مثل هذا الاتهام ضرب من الهجاء والشتيمة لا أساس له من البحث العلمي.
يغطي التفسير السياسي مساحة واسعة في حركة خلايا العقل العَلماني المعاصر، ولو تعطل هذا التفسير لتوقفت حركة تلك القراءات عن البحث في تراث الفقهاء ونصوص السَّنة؛ فلا يقرأ الباحث منهم أي حكم أو ينظر في أي نص إلا ويفتش عن أثر السياسة في الموضوع، وبطريقة كسولة جداً لا تتعدى ربط أي نص شرعي بأقرب حدث سياسي، وتعليق أي حكم بأدنى سلطان (فما من شيء في هذا التاريخ إلا وهو مبصوم بخاتم السياسة: الفكر، والفقه، والاجتماع، والاقتصاد، واللغة، والفن، والجغرافيا، والسيكولوجيا، بل النص الشرعي ذاته)[2].
فكلها مصبوغة بالسـياسة، ولم يبـقَ ما هو خارج عن تأثير السياسة إلا شيء واحد، وهو ما يكتبه مثل هذا المؤلف، والبحوث والأفكار التي يقررها فهي بلا شك بعيدة عن تأثير السياسة التي تبصم على كل شيء.
ومع أن التفسير السياسي هو أكبر الأدوات التفسيرية التي يعتمدها هؤلاء في قراءتهم للتراث، وهو أكثرها شيوعاً وحضوراً؛ إلا أنه في الوقت نفسه أضعف نقطة وأهش زاوية يعتمدون عليها؛ فنشر نماذج وأمثلة للتفسير السياسي على السطح كافٍ لكشف المستوى الموضوعي والعلمي لتلك الدراسات، وأن هذا التفسير يعبر عن حالة مَرَضيَّة أكثر من تعبيره عن روح علمية.
فأحدهم يقرر تأثير السياسة على الشافعي؛ لأنه (الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختاراً راضياً)[3]. ولشدة ضغط المرض السياسي خفي عليه معرفة مولد الشافعي الذي يعرفه الجميع وهو (سنة 150هـ)؛ أي: بعد زوال الدولة الأموية بثماني عشرة سنة.
وباحث آخر يفسر الظاهرية التي كان عليها (ابن حزم) بأنها موقف سياسي اتخذه ابن حزم لأجل أن الدولة الأموية بالأندلس تحتاج لمشروع يناهض المشروع الثقافي لخصميها (العباسي) و (العبيدي) فجاءت بابن حزم (لينطق باسمها ويحمل مشروعها الثقافي)[4]. وقد أعماه التفسير السياسي عن إدراك الحقيقة التاريخية الواضحة من أن الدولة الأموية بالأندلس قامت سنة (138 هـ)؛ أي: قبل مولد ابن حزم بما يقارب قرنين ونصف من الزمان؛ إذ ولد سنة (384 هـ)، وسقطت الدولة سنة (422 هـ) وابن حزم ما يزال في عز شبابه (ت 456هـ).
ومؤلِّف ثالث يتهم كعب الأحبار بأنه يروي الأخبار تملُّقاً لعبد الملك بن مروان[5] مع أن كعباً قد توفي عام 34 هـ قبل أن يتولى عبد الملك الخلافة بما يزيد عن ثلاثين سنة، وهي فضيحة يستحي منها أي باحث لم يبتلى بمرض التفسير السياسي.
وقد كنا نحسب مصطلح (إجماع أهل المدينة) عند المالكية دليلاً وأصلاً شرعياً، لكننا لم ننتبه لكونه سلاحاً سياسيّاً وعصياناً للسلطة كما تفطَّن أحدهم حين قال: (فلو أراد إمام دار الهجرة التقرب إلى السلطة السياسية لوجد الطريق إلى ذلك سهلاً، بإسقاط هذا الأصل الذي انفرد به دون غيره، والذي يكفي لندرك بعده أن نرى فيه محاولة لإضفاء الشرعية على إجماع أولئك الذين قاوموا طويلاً سلطتي دمشق وبغداد)[6].
وخذ من الأمثلة والقراءات العقلانية التي تحكم على الحديث إذا ورد في فضل أحدٍ بأنه من وضع أنصاره، وإذا ورد في ذم أحد بأنه من وضع أعدائه، وأي نص له علاقة بالواقع فهو من صياغة الواقع له.
ومع ذلك، فالهوس بالتفسير السياسي لم يكن من إبداعهم وابتكارهم، بل نقلته تلك الدراسات المعاصرة من المدرسة الاستشراقية التي غرستها في أدمغة تلاميذها المقلدة فما عادوا يبصرون جيداً من دونها، وقد أحسن العلاَّمة (المعلمي) وصف بعض أسباب الخلل لديهم من أنهم (إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منها)[7]؛ فهؤلاء الناس يعرفون الدواعي لتأثير السياسة من جهة قوة السلطان ورغبة الناس في التملق إليهم لكنهم لا يعرفون الموانع التي تحول دون تأثير السياسة كمثل ما عليه العلماء من الديانة والعدالة، ونفرتهم من الكذب، وما جرى من صيانة للعلم بالرواية والتدوين والجرح والتعديل مما يجعل تأثير السياسة فيها مستحيلاً.
فحقيقة الأمر أن كثيراً من القوم إنما يعبرون عما يجدونه في نفوسهم، فإذا شاهدوا تأثير السياسة على تغيير قناعاتهم ومذاهبهم ظنوا أن غيرهم لن يكون أحسن حالاً منهم، مع كثافة جهلٍ تحول دون فهمهم لحال التراث والشريعة التي يريدون تقديم تفسير لها، للحد الذي يقرر فيه أحدهم: (لقد كان القائمون بجمع الروايات (النصوص) من المحدثين هم أنفسهم الفقهاء الذين يمارسون اللحظة ذاتها، عملية التدوين النصي وعملية التنظير الفقهي وفي ظل هذا الوضع لا يؤمَن من التداخل والقلب بين التشريع والتفسير)[8]، فهو يتصور أن الفقهاء لم يكونوا يفرقون بين أقوالهم وبين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للفقيه أن تختلط عليه فيجعل قوله هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، فهذا التصور الظريف في فهم تاريخ المسلمين يفسر لك سر تضخم هذا الوهم في رؤوسهم.
هذا (التفسير السياسي) لا يقوم على أي إثبات أو برهنة علمية، فطريقتهم تقوم على ربط أي حكم أو نص شرعي بالسياسة من دون أي دلائل قاطعة، وإنما لأنه يشك – أو يريد أن يشك بالأصح - يبدأ في البحث عن أي مؤثر سياسي من دون أي يقدم على ذلك أي برهنة، وهذه الطريقة في إنكار الحقائق والطعن في الشرائع بمحض الأوهام ليست مبتكرة لهم فهي طريقة قديمة في التعامل مع محكمات الشريعة، فهذا أحد المبتدعة القدامى يدعي أن الزنادقة قد دسوا على أهل الحديث اثنا عشر ألف حديث من حيث لا يشعرون (لاحظ ضخامة العدد)، وهو ما دفع الإمام الدارمي إلى الجواب عنه متهكماً (دونك أيها المعارض فأوجدنا عشرة أحاديث دلسوها على أهل العلم... أو جرب أنت فدلس عليهم عشرة حتى تراهم كيف يردونها في نحرك)[9].
هل معنـى هذا أن السـياسة لا تؤثر ولا تستغل الأحكام الشرعية؟
أبداً، بل لها تأثير ولا شك في ذلك، لكن تأثيرهم لم يمسَّ أصل الشريعة ولا نصوصها ولا مذاهب الفقهاء وأصولهم؛ فالتأثير يكمن في استغلال بعض النصوص والمواقف، وربما في تقديم بعض الفقهاء لأهوائهم وشهواتهم إرضاءً للسياسة لكن ذلك لا يضر إلا من فعل، أما نصوص الشريعة وأصول الاستدلال وقواعد الفقه فقد كانت في منعة أي منعة، عن التأثر بذلك، وكل محاولة تُثبِت خلاف ذلك فإنها ما زالت عاجزة عن إقامة أي إثبات علمي سوى الاعتماد على الشك والخرص علـى طريقة أحدهـم حين يحلـل أحـداث التـاريخ منطلقـاً مـن (يبـدو) و (أظـن) و (لا يُسْتبعَد)، ثم بعد ذلك (فتحصل يقيناً)[10].
[1] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: 2/133.
[2] السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، لعبد الجواد ياسين، ص 168.
[3] الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد، ص 16.
[4] تكوين العقل العربي، لمحمد عابد الجابري، ص 309.
[5] السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 274.
[6] الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، لعبد المجيد الصغير، ص 235.
[7] التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، لعبد الرحمن المعلمي: 1/27.
[8] السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، ص 321.
[9] نقض عثمان بن سعيد، ص 401.
[10] أشير هنا وأشيد برسالة لطيفة بعنوان (التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر)للأستاذ الباحث:
سلطان العميري، وهي من إصدارات مركز التأصيل للدراسات والبحوث، فهي جديرة بالقراءة والاطلاع.