احتلال العراق وخطر تداعياته
منذ انهيار السد العراقي نتيجة الاحتلال الأمريكي البريطاني لبلاد الرافدين في العام 2003 ونحن نتابع تداعيات ذلك الدمار والخراب لبلاد ادعت الولايات المتحدة أنها جاءت لنشر الحرية في ربوعها، وصار أهلها ضحية لعمليات عسكرية قُتل وهُجر واعتقل بسببها ملايين المدنيين.
إن احتلال العراق كان بداية الكارثة التي حلت في العديد من دول المنطقة، ليس لأن العراق كان حارساً لغالبية هذه الدول من المد الإيراني وإنما لأن العراق كان الدولة الأقوى خصوصاً بعد خروجه منتصراً من الحرب مع إيران، وبالمحصلة فإن ضرب الأقوى لا شك هو رسالة واضحة لجميع الدول الأضعف مفادها أنكم في متناول اليد.
إن الحديث عن تداعيات احتلال العراق على العراقيين وعلى منطقتنا لا يمكن أن يكون بمجال أو جانب دون آخر، وعليه يمكن القول إن تلك التداعيات شملت الجوانب السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية وغيرها. وسنحاول هنا أن ندرس هذه التداعيات بصورة موجزة لأن دراستها بالتفصيل بحاجة إلى مؤتمرات ودراسات واسعة لا يمكن لهذا المقال أن يستوعبها.
الجانب السياسي:
من أهم تداعيات الاحتلال الأمريكي للدولة العراقية غياب هيبة الدولة، بل وضياع هيبتها حتى في عيون المواطنين الذين ينظرون إليها على أنها من نتاج المحتل الأمريكي، وأنها دولة فاشلة لم تحقق لهم أية قيمة من قيم الحياة الإنسانية الحرة الكريمة، وهذا ما شهدت به غالبية المنظمات المحلية والإقليمية والدولية. وعليه، فإن كل من يظن أن أمريكا لا تمتلك أهدافاً إستراتيجية من خطوة احتلالها للعراق فهو نائم على أذنيه، ذلك لأن أكذوبة الديمقراطية وحقوق الإنسان هي وسائل لتحقيق أهداف سياسية إستراتيجية تنتهجها العديد من الدول ومنها الولايات المتحدة.
لا شك أن أمريكا حققت غالبية أهدافها من غزو العراق ومنها تأكيد سيطرتها ونفوذها في المنطقة، وفرض إرادتها برغم عدم استحصال موافقة أممية في خطوة احتلال العراق، وكذلك استمرار هيمنتها كقطب أوحد في العالم. وكذلك حاولت أمريكا تقليم أظافر بعض الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، وتصفية حسابات مع أطراف أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، وما زالت حتى الساعة بعض دول المنطقة تعاني من الحروب الداخلية والأهلية والمناحرات السياسية التي انعكست على كافة مجالات تلك الدول الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
إن احتلال العراق تسبب بتراجع سياسي شبه عام لغالبية دول المنطقة العربية، وبالتالي صارت هذه الدول تتماشى بشكل أو بآخر مع الإرادة الأمريكية للحفاظ على مصالحها وكياناتها.
الجانب الاقتصادي:
في مرحلة الاحتلال الأمريكي دمرت غالبية المصانع والمعامل، وصرنا أمام جيش من الموظفين غير المنتجين، لأنهم يستلمون مرتباتهم لكنهم في الواقع لا يعملون لأن غالبية مصانع البلاد إما دمرتها الحرب أو عطلها الإهمال والنهب، وهذا جعل من العراقيين أمة مستهلكة فقط، وإنتاجها وبالذات في الجانب الصناعي البسيط والزراعي لا يكاد يذكر، وهذه أكبر مؤامرة يمكن أن تقاد ضد الأمم لأن وجود شعوب مستهلكة غير منتجة سيقود بالمحصلة لخلق أجيال كسولة وغير قادرة على تحصيل قوت يومها فضلاً عن الابتكار والإنجاز في مختلف المجالات الصناعية والإنتاجية.
وفي يوم 11/3/2013 كشفت دائرة الاسترداد التابعة لهيئة النزاهة في أول تقرير سنوي أعدته حول عملها لعام 2012 أن أموال الفساد المالي والإداري التي هربت إلى خارج العراق للسنة السابقة بلغت أكثـر من ترليون دينار عراقي (نحو مليار دولار)، وأن عدد المسؤولين المتهمين باختلاس هذه الأموال والهاربين إلى الخارج بلغ 37 مسؤولاً من بينهم ثلاثة وزراء.
الولايات المتحدة من جانبها نهبت ثروات كبيرة من خيرات العراق ومنها اليورانيوم المنضب والنفط وبقية الثروات الطبيعية، وكذلك فرضت إتاوات على دول المنطقة وبالذات الدول التي شجعت احتلال العراق وإسقاط الدولة العراقية، بل إن أمريكا حتى اليوم مازلت تهدد دول المنطقة بفزاعة الإرهاب، ما فتح الباب على مصراعيه لعقود بعشرات المليارت للأسلحة الأمريكية التي هي ربما في سوق السلاح تعد منتهية الصلاحية.
ومن أهم الأهداف الاقتصادية الاستحواذ التام على إمدادات نفط العراق والخليج، وبقية مصادر الطاقة مما يضعف أحلام القوى الطامحة في لعب أدوار سياسية أو اقتصادية في المنطقة.
الأبعاد الإستراتيجية:
الموقع الإستراتيجي للعراق الرابط بين دول الخليج وتركيا، والأقرب إلى دول آسيا الوسطى، وارتباطه بحدود برية مع إيران وسوريا جعله منطقة مفصلية في حلقة السيطرة على الشرق الأقصى والأوسط، ويحد من امتداد نفوذ كل من روسيا الاتحادية والصين، كما يحد من انتشار المصالح الأوربية في منطقة الشرق الأوسط، فلهذا افتعلت أمريكا كل الحجج لتحقيق هذه الغاية التدميرية.
ومن أهم التداعيات الإستراتيجية للاحتلال أن احتلال العراق شكل القشة التي قصمت ظهر الصراع الفلسطيني العربي، وتسبب بالتدخل الصهيوني ليس في بعض المدن الفلسطينية بل في العراق الذي صار الصهاينة يسرحون ويمرحون فيه، وسنبقى نلمس تداعيات احتلال العراق على المستوى الإستراتيجي لسنوات طويلة، لأن العراق كان بيضة القبان في الصراع العربي الصهيوني.
البعد الاجتماعي:
لقد تسببت عمليات التصفية الجسدية، وتكبيل الحريات في البلاد بأن نكون أمام عشرات الآلاف من العوائل التي لا معيل لها، وهذا تسبب بشرخ اجتماعي كبير، وأيضاً فإن غياب الحلول السياسية والاتكاء على الآلة العسكرية، وعسكرة المجتمع لا يمكن أن يخلص الوطن مما هو فيه من انهيار للأمن، وانتشار للجريمة المنظمة.
وفي نهاية 2006 ذكرت مجلة لانسيت الطبية البريطانية في دراسة مسحية أجرتها أن 655 ألف عراقي قتلوا منذ بداية الغزو الأمريكي في 19 مارس 2003 وحتى 11 أكتوبر 2006. وفي الأول من فبراير 2009 نشر موقع «ألترنت» الأمريكي المعارض للحرب الأمريكية على العراق تقريراً يفيد بأن حرب بوش على العراق أسفرت عن مقتل مليون نسمة، وكذلك تشريد نحو 4.5 مليون، وما يقرب من مليوني أرملة، وخمسة ملايين يتيم.
وفي يوم 7 مارس 2013 كشف تقرير أعدته مجموعة السلام الهولندية عن آثار ما استخدم من أسلحة يورانيوم منضب في العراق في حربي 1991 و2003، وأن خطر هذه الأسلحة أكثر بمئة مرة من تأثير حادثة مفاعل تشيرنوبل بأوكرانيا، وأن العراق يحتاج لنحو 30 مليون دولار لتنظيف أكثر من 300 موقع ملوث، وأن ما يفاقم خطر الأسلحة المشعة هو ضعف قدرة العراق على معالجتها!
البعد الثقافي للمنطقة:
إن التركيز اليوم ينحسر فقط في الجوانب الأمنية والاقتصادية والسياسية، أما الجوانب الفكرية والحضارية والتربوية والتعليمية فإنها نادراً ما تذكر في تأثرها بمجمل ما جرى في العراق من خراب ودمار.
اليوم تعاني الثقافة العراقية من الخرافات التي وصلت حتى لبعض المناهج الدينية، بل إن الفكر الطائفي صار منهجاً يدرس في المدارس الابتدائية، وصارت مجمل العلوم الثقافية تعاني من الدمار العام الذي توشحت به الدولة العراقية والذي انعكس على الأفكار والمبادئ والعلوم الفكرية والحضارية.
ولا شك أن هذا التأثير انتقل إلى الدول العربية الإقليمية لأن العراق كان محوراً مهماً في الحركة الثقافية والحضارية في المنطقة إلا أن ينابيع الحضارة في الغالب تجف حينما تمتلئ السماء والأرض بالبارود ورائحة الموت، لأن هذه العلوم الحضارية لا يمكن أن تعيش إلا في أجواء مليئة بالحب والوئام والتسامح وهذه القيم غير موجودة في العراق الذي سادت فيه ثقافة الغاب والإرهاب.
وفي بداية أغسطس 2014 نشرت وزارة حقوق الإنسان العراقية إحصائية أعدتها بالتعاون مع وزارات الدفاع والداخلية والصحة، جاء فيها أن 224 أستاذاً جامعياً قُتلوا خلال الفترة من بداية العام 2004 وحتى نهاية العام 2007، واختطف 69 منهم، كما لقي 269 صحافياً مصرعهم، بينهم 197 قتلوا في بغداد وحدها، وقتل 281 طبيباً بينهم أساتذة في كليات الطب، كذلك بيّنت الإحصائية أن 95 محامياً و21 قاضياً و446 طالباً جامعياً قتلوا خلال تلك الفترة.
وأخيراً نختم كلامنا بإحصائيات ذكرتها لجنة حقوق الإنسان البرلمانية العراقية في إصدارهم، الذي حمل عنوان «حقوق الإنسان في العراق عشر سنوات وننتظر»، وهي وثيقة نادرة ومهمة، ومما جاء في هذا الملف:
وصل عدد الأرامل العراقيات إلى مليون أرملة.
عدد الأيتام خمسة ملايين و700 ألف.
هناك سجون سرية لا تخضع للإشراف القضائي، وهي مرتبطة مباشرة بقوات أمنية عراقية.
الإعدامات وصلت لأعلى معدلاتها، وأخذت منحى طائفياً، والعراق من الدول المتقدمة في معدلات الإعدام بعد الصين وإيران.
المداهمات تمارس بشكل مهين للمجتمع؛ حيث تضرب النساء، ويضرب الرجال أمام عائلاتهم، ويؤخذ الشباب بشكل عشوائي بدون أدلة ملموسة.
أكثر من 70% من النزلاء في السجون هم من السُنة، وأكثر من 90% منهم متهمون بالإرهاب.
في العراق اليوم ستة ملايين مواطن يعانون من أمراض نفسية بسبب الأزمات التي تمر بها البلاد.
35% من النازحين يعيشون في مأوى دون المستوى المطلوب، و37% من العائلات النازحة داخلياً لا تستطيع الوصول إلى ممتلكاتها، أو أن ممتلكاتها قد دمرت أصلاً.
مقتل أكثر من 368 صحفياً خلال السنوات التسع الماضية.
العراق هو ثاني أسوأ مكان بالنسبة للمرأة في العالم العربي.
طفل واحد بين كل تسعة أطفال بعمر 5 إلى 14 عاماً يعمل، وهؤلاء يشكلون نسبة 11% من أطفال العراق.
نسبة البطالة بلغت 33%.
26% من العراقيين لا يعرفون القراءة والكتابة.
اعتقال 12 امرأة من عائلة واحدة في منطقة التاجي، حيث تم إلقاء القبض عليهن بسبب عدم وجود أزواجهن، أو أقاربهن من الرجال.
وزارة الداخلية دأبت على عرض اعترافات لمتهمين بحجة قيامهم بأعمال إرهابية، ومن المثير أن هؤلاء اعترفوا بالكثير من الجرائم، التي لم تقع أصلاً.
العثور على جثث تحمل آثار تعذيب واضحة، وإطلاقات نار في الرأس، وثقوب نتجت عن غرس المثقاب الكهربائي في أبدان الضحايا.
وجود قوانين جائرة تطبق بصورة انتقائية على فئات من الشعب.
المالكي ذكر امتلاكه لملفات تخص مسؤولين، لم يكشف هويتهم، قال إنهم على صلة بعمليات إجرامية بحق الشعب العراقي، ولا يريد الكشف عنهم لأجل الحفاظ على مكتسبات العملية السياسية.
هذه بعض التداعيات الظاهرة للاحتلال الأمريكي للعراق، وإلا فإن إحصاء هذه التداعيات بحاجة إلى مراكز بحوث، ومؤتمرات، وهذا ما سيكون في قابل الأيام ليكتشف العالم حينها حجم الكارثة التي حلت بالعراق والعراقيين.
:: مجلة البيان العدد 349 رمــضــان 1437هـ، يـونـيـو 2016م.