افسحوا الطريق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يعيش العالم حالياً مرحلة حرجة ومضطربة لأننا في مرحلة انتقالية من مراحل الحرب
الباردة بين المنظومتين الشيوعية والغربية، والتي شهدت سلسلة من الحروب غير
المباشرة بين الكتلتين، تورطت فيها إحدى القوتين بصورة مباشرة؛ مثل الحرب الكورية
وأحداث المجر وكوبا وفيتنام، وسلسلة طويلة من الصراعات والحروب بالوكالة في أمريكا
الوسطى والجنوبية وإفريقيا، وتوجت بحرب أفغانستان حيث كانت القشة التي قصمت ظهر
البعير بالنسبة للاتحاد السوفيتي الذي تفكك وتفكك معه حلف وارسو ومنظومة واسعة من
الدول والأحزاب والتنظيمات وتجمعات النخب الفكرية والإعلامية التي فقدت العائل
والحامي، وأصبح الكل يبحث عن ظل جديد في عالم يسوده قطب واحد عاش مرحلة تخبط في
محاولة السيطرة على العالم والاستئثار بمقدراته. وحدثت في هذه المرحلة حروب إبادة
بشرية هدفها فرض سيطرة السيد الجديد الاقتصادية والثقافية، وكانت روندا وبورندي ومن
بعدهما زائير محطات التجارب الأولى، وليفرح شعب زائير فقد تم بنجاح استبدال الرئيس
الذي يتكلم الفرنسية بآخر يتحدث الإنجليزية!
وفي الوقت نفسه كانت تجري تجربة نظرية جديدة للتحكم وهي ما يطلق عليه التحكم أو
الاحتواء المزدوج، وهي تتلخص في إدخال الأطراف المستهدفة في صراع بيني تكون نتيجته
خضوع الطرفين للسيد الأوحد، وتم تطبيق النظرية بنجاح منقطع النظير على إيران
والعراق، ويجري تطبيقها في أماكن أخرى، وهناك عمل جاد يجري حالياً لمحاولة تطبيقها
على تركيا وروسيا اللتين تمثلان حجر عثرة أمام استمرار مرحلة القطب الواحد
لتركيعهما معاً، ولعلنا في هذه العجالة نلقي بعض الضوء على ملامح هذه المرحلة:
تعرضت روسيا لعمليات تدمير سياسي واقتصادي ومحاولة حصار وانتهاك لمجالها الحيوي،
وكانت فترة يلسن كالحة، وكان خروجه من السلطة نتيجة العجز الجسدي وأتي ببوتين ضابط
المخابرات المغمور صغير السن من الصفوف الخلفية ليكون واجهة للحكم ليس إلا، ولكنه
تمكن تدريجياً من تصفية وإبعاد مراكز القوى التي جاءت به، وشق طريقه في السلطة
وتحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية التي عادت إلى الواجهة من جديد، ومع الوقت بدأت
روسيا الجديدة تتشكل وريثاً للاتحاد السوفيتي بنكهة قيصرية، وكانت العلاقات مع
الغرب متأرجحة بين علاقات اقتصادية متنامية وبين حصار إستراتيجي ومحاولة اختراق
للمجال الحيوي، ومن أهم هذه المظاهر ضم دول أوربا الشرقية للاتحاد الأوربي، بل
وأيضاً لحلف الناتو العسكري، والأخطر كان محاولة توسيع الناتو إلى وسط آسيا وضم
جورجيا، ومحاصرتها من الجنوب بقواعد عسكرية في أوزبكستان وطاجيكستان بدعوى الحرب في
أفغانستان، وأخيراً محاولة ضم أوكرانيا للناتو وتصفية القواعد الروسية في القرم،
وكان الرد عنيفاً في أغلب الأحوال.
والذي يهمنا هنا هو أن هناك حالات سلمت فيها روسيا لأمريكا وفي أحيان أخرى ساعدتها،
ففي العراق تُرك صدام وأهل السنة لمصيرهم أمام الغزو الأمريكي الإيراني المشترك،
وأما في أفغانستان فقد قدم الروس خدمات كبيرة لأمريكا، فمثلاً كان الواسطة بين
أمريكا وما كان يطلق عليه الشمال هم الروس والإيرانيون، وكانت أجواء روسيا ودول
آسيا الوسطى التابعة لها مفتوحة لأمريكا، بل كانت طائرات النقل الروسية تقوم بالعبء
الأكبر في التموين الجوي، وبالمختصر المفيد كان لسان حال الروس نحن معكم في إسقاط
طالبان ومنع عودتها، وما لم يكن ظاهراً على السطح هو الأخطر وهو التعاون الاستخباري
وخدمات عملاء الروس، نعم كان إسقاط طالبان ومنع عودتها هم الجميع وكم نحن بحاجة
لإعادة قراء التاريخ القريب ومحاولة معرفة أساليب الخصوم وأدواتهم في تدمير تجربة
طالبان التي أوقفت تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة في أفغانستان بتحييدها القوى
المتناحرة على ثرى أفغانستان ونجاحها في إقامة حكومة مستقرة شعاراتها إسلامية؛ فلا
شك أن نجاح أي خطة أو أسلوب يؤدي إلى تكرارها - وهو ما نراه في كل مكان نرى فيه
ملامح استقرار - هو حالة لا يريدها أعداء الأمة.
وقبل أن ننتقل إلى تركيا يحسن أن نتكلم عن الأكراد، وهم مجموعة عرقية يغلب عليها
الانتماء للسنة، ولذا كان لهم دور كبير في حماية الحدود الشرقية للدولة العثمانية،
ومن قبل كانوا حاضرين في الحروب الصليبية والغزو المغولي للمنطقة، وفي العصور
المتأخرة كانوا في موعد مع تصفية الحساب واجتمع عليهم التقسيم الجغرافي والاضطهاد
الديني والعرقي؛ ففي إيران كانوا يعانون دينياً وعرقياً وأما في تركيا الحديثة
والعراق وسوريا فكان نصيبهم عدم الاعتراف بهويتهم، ولا شك أن الإحساس بالاضطهاد
يجعلهم قابلين للاستغلال، وللأسف فقد كانوا ضحايا للصراع في المنطقة واستغلتهم دول
المنطقة لمصالحها، والأخطر أنهم كانوا هدفاً للحركات الثورية اليسارية التابعة
للمخابرات الروسية وكان مصطفى البرزاني زعيماً في دولة الأكراد التي أقامها الروس
في إيران بعيد الحرب العالمية الثانية، وسقطت الدولة بعد أن تخلى عنها الروس وهرب
البرزاني إلى شمال العراق وابنه مسعود هو رئيس حكومة الإقليم الكردي شمال العراق،
ولذا فهناك حساسية مع إيران والحكومة الشيعية التابعة لها، وكان للروس نشاط كبير في
تركيا واستغلوا الأكراد في تكوين حركات يسارية متنوعة ومنها حزب العمال الكردستاني
بقيادة عبد الله أوجلان، والذي اتخذ من مناطق الأكراد في سوريا قاعدة انطلاق للعمل
العسكري الهادف للانفصال، ومن الغريب أن النظام السوري يدعم أوجلان ويحرم الأكراد
السوريين من أبسط الحقوق! وحالياً ينشط حزب العمال من شمال العراق وسوريا، بل وتم
تشكيل فرع للحزب في سوريا بالتنسيق مع النظام باسم حزب سوريا الديمقراطية، وكون
ميليشيا سميت بقوات الحماية الكردية، وكان مبرر تشكيلها حماية الأكراد من داعش، وهو
مبرر تشكيل الحشد الشعبي نفسه، وهو دعوى حماية الشيعة من داعش، وكما كانت داعش
مبرراً لوجودها وتوسعها فهي أيضاً مبرر لدعمها بالتسليح والتدريب من أمريكا من أجل
قتال داعش، وقد ثبت أن قوات الحماية الكردية والحشد الشعبي تنسق مع النظام النصيري
وإيران.. وباختصار فنحن أمام أحزاب أنشأها الروس أو الإيرانيون وتمولها وتحميها
أمريكا وهذا لا يمكن إلا لهدف مشترك.
وهنا نعود لتركيا التي تعي أنها مستهدفة بصورة جدية وأن ما يجري في سوريا هو مرحلة
أولى وأساس للمرحلة التالية التي تهدف إلى تدمير النموذج التركي وإعادتها إلى
الوراء دولة علمانية تابعة للغرب غارقة في المشاكل والصراعات.
حالياً يلاحظ أن هناك استهداف وحشي للمدن والمناطق السنية المعارضة للنظام وأنه في
ظل العمليات العسكرية المكثفة لقوات النظام وحزب الله والحرس الثوري والميليشيات
الشيعية وتحت غطاء جوي منسق من الطيران الروسي وطيران التحالف فإن القوى التي تتمدد
على حساب مناطق المعارضة هي القوات الكردية وداعش، وهناك أيضاً ما يمكن تسميته
تقاسم مناطق النفوذ المدروس، ويلاحظ أنه تجري حالياً محاولة تمكين الأكراد من مناطق
الحدود مع تركيا وتفريغ مناطق الساحل من غير النصيرية، وعلى هذا الأساس تقسم سوريا.
ونحن في انتظار تطبيق وقف إطلاق النار الذي يستثني داعش والنصرة والمنظمات
الإرهابية ويبدو أن أمريكا وروسيا ستشترك في ضرب معارضي النظام الحقيقيين بالمبررات
التي سبق استخدامها، ولا يخفى أن تركيا تحس أنها أمام خيارات صعبة ويبدو أن أسلم
الخيارات وأقلها تكلفة هو التعجيل بتسليح المعارضة وعدم السماح بتدميرها وعدم
الالتفات للضغوط الأمريكية، لأن انهيار المقاومة سيجعل تركيا في مواجهة مباشرة
للدفاع عن وجودها وسيدفعها دفعاً للدخول في صراع مع الروس وهو أمنية أمريكا أن ترى
تركيا تسير خلفها أسوة بإيران وتوابعها من الأغبياء، فالتطبيق الجديد للنظرية على
وشك التنفيذ والضحايا من الحجم الكبير، فهل نحن أمام نجاح أمريكي أم موت للحلم
الأمريكي نتيجة الاختناق؟
:: مجلة البيان العدد 346 جمادى الآخـرة 1437هـ، مـارس 2016م.