روسيا والمسلمون: حملات الإبادة وملف المجازر
لن ينسى العالم صورة بطريرك الأرثوذكس الروسي وهو يبارك أول فوج من القوات الروسية المتوجهة إلي سوريا ليعلن للعالم أنها حرب روسية صليبية بامتياز.
ما تقوم به روسيا اليوم في سوريا ليس غريبًا علي من يتابع جرائمها منذ القرن الثامن عشر مع الإسلام والمسلمين، فهو تاريخ مليء بالحروب وحملات الإبادة.
في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي برزت على الساحة الدولية الإمبراطورية القيصرية الروسية في الوقت نفسه الذي برزت فيه الإمبراطورية العثمانية، ولم ينتصف القرن الرابع عشر الميلادي حتى بات العثمانيون والقياصرة يخوضان صراعًا مريرًا لصياغة تاريخ المنطقة.
في القرن الثامن عشر الميلادي خاض المسلمون جهادًا مريرًا ضد الإمبراطورية القيصرية لكنها تغلبت عليهم وشنت حملات إبادة غير مسبوقة، ثم فرضت عليهم التنصير القسري واللغة السلافية بدلًا من اللغات العربية والتركية والفارسية.
الهزيمة التي منيت بها الإمبراطورية القيصرية على يد اليابانيين مثلت ضربة قاصمة مهدت الطريق لسقوط الإمبراطورية القيصرية، وشارك المسلمون بثورة جديدة لإسقاطها، لكن الثورة الشيوعية عام 1917م قطفت كل الثمار وواصلت حملات الإبادة ضد المسلمين.
برغم مساعدة المسلمين لها احتلت الثورة البلشفية عبر الاتحاد السوفيتي ست جمهوريات إسلامية وشنت حروبًا لا هوادة فيها ضد المسلمين ودينهم.
الشيخ عبدالله نوري - رحمه الله - أحد قادة الصحوة الإسلامية في أوزبكستان: لم نيأس وواصلنا تعليم الأجيال الإسلام في المدارس السرية.
د. «دونا آرتز» أستاذة القانون بجامعة «إيمورى أتلانتا»: لقد تعرض المسلمون في روسيا دومًا لمحاولات ترويسهم ونزع هويتهم.
تعرض الشعب الشيشاني لأكثر من حملة إبادة مات خلالها نصفه، أما المقاتلون منه فقد جُمعوا في إسطبلات الخيول وسكب عليهم النفط وأُحرقوا أحياء.
الكاتب الروسي «ألكسندر سولجينتسين»: كانت هناك أمة لم تستسلم أبدًا، لم تتطبع مع الحياة العقلية للاستسلام، ولم تكن جماعة من المتمردين، بل كانت أمة بأكملها، وأنا أشير هنا إلى الشيشانيين.
قيام دولة إسلامية مستقلة في تلك المنطقة ذات الموقع الإستراتيجي والمليئة بالثروات يهدد مشاريع الغرب فيها، وإذا سُمح بقيام دولة مستقلة في الشيشان فإن مسلسل قيام الدول المستقلة في القوقاز يهدد روسيا، ويقطع الطريق على التمدد الغربي هناك، ويشكل قوة داعمة ومساندة للمسلمين في المنطقة كلها.
تدعم الصين من بعيد هذا التحالف ضد الإسلام والصحوة الإسلامية خوفًا من تلاحم الصحوة الإسلامية في دول الاتحاد السوفيتي القديم مع صحوة المسلمين في سينكيانج (تركستان الشرقية).
في عام 1991م بدأ الأمريكيون يتحدثون لأول مرة بصراحة عن أن القوقاز منطقة مصالح لهم.
فجأة وجدنا الجيش الروسي يقود حرب الإبادة ضد الشعب السوري المسلم (95% سنة) جنبًا إلي جنب مع قوات بشار الأسد والقوات الإيرانية ومليشيات حزب الله، وقد اختفت من سماء سوريا طائرات البراميل التابعة للنظام المجرم لتحل محلها الطائرات الروسية المقاتلة لتكمل دمار ما بقي من سوريا وتواصل تشريد وقتل من تبقى من شعبها بصورة يتفجر منها الحقد الأعمى. ولن ينس العالم صورة بطريرك الأرثوذكس الروسي وهو يبارك أول فوج من القوات الروسية المتوجهة إلي سوريا ليعلن للعالم أنها حرب روسية صليبية بامتياز علي شعب مسلم كل جريمته أنه قام ليطالب بحقه في الحياة.
ولم يكن الأمر غريبًا علي من تابع تاريخ روسيا منذ قرون مع الإسلام والمسلمين، فهو تاريخ غارق في دماء المسلمين، وملف متخم بالمجازر وحملات الإبادة والاستيلاء علي أراضيهم منذ القياصرة مرورًا بالشيوعية، وحتي اليوم ما زالت روسيا تشن حروبها ضد المسلمين في داخلها وعلي الأراضي التي تستولي عليها. هكذا فعلت مع مسلمي القرم ودول القوقاز وأبرزها الشيشان. ولم تتوقف في حربها علي الإسلام والمسلمين داخل حدودها بل علي حدودها القريبة في الجمهوريات الإسلامية الست بآسيا الوسطي: «أذربيجان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان، قرغيزستان» التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي، بل وعلى حدودها البعيدة في منطقتنا العربية بهدف القضاء على الصحوة الإسلامية ووقف تمددها، وهذا ما حدث في مصر عبدالناصر وسوريا حافظ الأسد عندما كانت تلك الدول ضمن المعسكر الشيوعي أيام الاتحاد السوفييتي، واليوم تواصل جريمتها ضد الشعب المسلم في سوريا.
ولم تمانع روسيا من التعاون وعقد التحالفات مع القوي الاستعمارية حديثًا وقديمًا ضد الإسلام والمسلمين، حتي ولو كان بينها وبين تلك القوي صراعات، ومثال ذلك التحالف الروسي مع الصين ضد المسلمين والصحوة الإسلامية في آسيا الوسطي.. إنه ملف أسود وغارق في دماء المسلمين.
قصة وصول الإسلام إلى روسيا
تتباين الآراء التي تحدد تاريخ وصول الإسلام لروسيا وتؤكد إحدى الروايات أن المسلمين وصلوا إلى هذه البلاد في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 22هـ/ 642م، ففتحوا أذربيجان على يد القائد سراقة بن عمرو، ووصلوا إلى مدينة «دربند» على ساحل بحر قزوين في عمق المنطقة القوقازية، ودخل في الإسلام جميع سكان بلاد «شروان» وجزء من داغستان، وتعتبر قبائل «القوموق» أول من دخل الإسلام وبذلوا الكثير لنشره.
في القرن الثالث عشر الميلادي (القرن السابع الهجري) أصبح المسلمون أصحاب مملكة كبيرة في أواسط آسيا والقوقاز والفولجا أطلق عليها تاريخيًّا مملكة المغول أو التتار، وفي مطلع القرن الرابع عشر الميلادي برزت على الساحة الدولية، الإمبراطورية القيصرية الروسية التي انطلقت من دوقية موسكو في الوقت نفسه الذي برزت فيه الإمبراطورية العثمانية، ولم ينتصف القرن الرابع عشر الميلادي حتى بات العثمانيون والقياصرة يخوضان صراعًا مريرًا لصياغة تاريخ المنطقة.
وفي الوقت الذي بدأت فيه مملكة المغول الإسلامية في الانهيار أخذت الإمبراطورية القيصرية الناشئة تملأ الفراغ الناشئ عن ذلك، لكن الإمبراطورية العثمانية التي كانت فتية في ذلك الوقت نشطت في نشر الدعوة الإسلامية في ممكلة المغول كنوع من التحصين الديني وتحفيز المسلمين فيها على الجهاد ضد الغزاة القياصرة، وبالفعل انتفض المسلمون في أكثر من ثورة ضدهم:
ففي عامي (1705-1706م) ثارت «أستراخان» ضد القيصر «بطرس الأول» الذي قمع ثورتها بشدة وارتكب مذبحة بشعة بحق المسلمين التتار.
وفي الأعوام (1705-1711م) ثار المسلمون في «بشكيريا» إلا أنه - وإن نجحت ثورتهم في بداياتها وطردت الجيش الروسي مؤقتًا - عاد الجيش القيصري (الروسي) وقمعها بشدة.
وفي الفترة (17٥٥-17٣٨م) في عهد الإمبراطورة «تسارينا آنا» دمر الروس (القياصرة) في قازان وحدها 481 مسجدًا ومركزًا دينيًّا من أصل 536 مسجدًا، وشن القياصرة حملات اضطهاد ضد المسلمين التتار في القوقاز وسيبيريا. ويشبه المؤرخون تلك الفترة بفترة التطهير العرقي والديني التي شنها «جوزيف ستالين» في العهد الشيوعي ضد المسلمين.
وقد تنوعت أساليب القهر القيصري ضد المسلمين من إبادة وقمع وتهجير، ثم فرضوا عليهم التنصير القسري. وحظر القانون القيصري اعتناق أي دين غير المسيحية الأرثوذكسية، وتم إحلال اللغة السلافية مكان اللغات العربية والتركية والفارسية التي كانت سائدة هناك في ذلك الوقت، فضلًا عن الإهمال المتعمد للمدن والحواضر الإسلامية حتي تتحول إلي خرائب.
في عهد الإمبراطورة «كاترين الثانية» شنت موسكو (الجيش الروسي القيصري) هجومًا على مناطق القوقاز والقرم بغية احتلالها واشتبكت مع العثمانيين في حروب طاحنة خلال أعوام (1768-1774م) وكان من نتائجها إرغام السلطنة العثمانية على الاعتراف باستقلال مملكة القرم المسلمة عنها.
في العام (1782م) سقطت آخر معاقل المقاومة في القوقاز، واستشهد «الخان شاهين جيراي» لينتهي آخر الخانات (المعاقل أو الإمارات) التتارية.
ثم أكمل القيصر «نيقولا الأول» الحملات العسكرية فهاجم أذربيجان وأخضع داغستان وأجزاء كبيرة من أرمينيا للحكم القيصري المباشر.
في العام ١٨٣٤م اندلعت ثورة الشيخ شامل النقشبندية - وهو من أعظم علماء المسلمين المجاهدين - بدعم سياسي وديني من العثمانيين والتفت حوله قبائل الشراكسة والشيشان، وكل علماء القوقاز والتركستان، وقاد حرب استنزاف في شعاب المنطقة ووديانها وجبالها استمرت ثلاثين عامًا ولم تنته إلا عام ١٨٥٩م حينما انفضت القبائل عن الشيخ المجاهد فوقع في الأسر ومات في السجن.
وبينما توقفت الثورة شن القياصرة حملة وحشية للقضاء على جذور المقاومة وتم التركيز علي الشيشان (موطن الشيخ شامل) حيث يتميز شعبها بقوة العزيمة والشكيمة والإصرار علي المقاومة وكثفوا حملات التنصير بل وفرضوه بالقوة على الناس في الوقت الذي جرت فيه عمليات تخريب كاملة للاقتصاد بتدمير الغابات والزراعات، وفتح القياصرة الباب لهجرة الشيشانيين من بلادهم، تخلصًا منهم فتوجهوا إلى عدد من الدول العربية.
واتجه القياصرة للتركيز في حملاتهم علي منطقة القوقاز بأكملها واستغلت خلال ذلك الصراع صلاتها العرقية (السلافية) والمذهبية (الأرثوذكسية) مع شعوب المنطقة من نفس العرق والمذهب لكسب تأييدهم خلال حروبها ضد المسلمين، وحدث تجاوب معها مما زاد من قوة شوكتها وساعدها على ترسيخ إمبراطوريتها، ومنذ ذلك العهد (القرن التاسع عشر) وهناك تحالف قوي بين القوى الكبرى للحيلولة دون عودة السيادة للمسلمين على أرضهم، وما زال هذا الإصرار ساريًا بين القوى الكبرى جميعًا حتى اليوم.
الثورة البلشفية
لكن الهزيمة التي منيت بها الإمبراطورية القيصرية على يد اليابانيين مثلت ضربة قاصمة لها مهدت الطريق لسقوط القيصرية، وبدأ الضعف يدب في أركان هذه الإمبراطورية ووجد المسلمون فرصتهم لإسقاطها تمامًا فانطلقت انتفاضات شعبية غاضبة وتفجرت ثورة عام 1905م وقد حرك ذلك كله ممارسات القيصرية الشريرة، فقد ضمت إليها قسرًا مجتمعات متنافرة قوميًّا ودينيًّا، تضم خليطًا متنافرًا من العادات والتقاليد، ولم تنجح سياسة الإلحاق القسرية في صناعة رباط بين تلك المجتمعات، وهو ما أحدث ثغرة ولّدت ثورات العصيان والتمرد، وقام المسلمون بدور كبير في تحريك تلك الانتفاضات التي استنزفت قوي الإمبراطورية القيصرية على امتداد ثلاثين عامًا، لكن المسلمين بدلًا من أن يقطفوا ثمار جهادهم بإعادة مجد دولتهم الإسلامية إذا بالثورة البلشفية (الشيوعية) تختطف كل شيء في أكتوبر عام 1917م، بل إن تلك الثورة التي ساعد المسلمون في إنجاحها مثلت فصلًا جديدًا داميًا في حق المسلمين فقد قاسوا تحت قبضتها حملات مريرة من التعذيب والتشريد والإبادة.
فقد واصلت الثورة البلشفية احتلال الأراضي الإسلامية التي كانت تحت سيطرة القياصرة واحتل الاتحاد السوفيتي الذي تشكل بعد هذه الثورة مساحة 4,538,600 كيلومتر وهي إجمالي مساحة دول آسيا الوسطي، وهي ست دول إسلامية هي: أذربيجان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان، قرغيزستان. وبات الاتحاد السوفيتي الذي كان يضم تسع دول يضم خمس عشرة دولة بعد ضم دول آسيا الوسطي ذلك إضافة إلى منطقة القوقاز التي يمثل غالبيتها شعوب إسلامية وأبرزها الشيشان.
وقد سن الاتحاد السوفيتي قوانين وأصدر قرارات تصب كلها في حظر الأديان وتحريمها وخاصة الإسلام ونشر الإلحاد بين المسلمين وشدد العقوبات على من يقتني نسخًا من القرآن الكريم فضلًا عن تعلمه وتعلم مبادئ الإسلام، وفرض علي المناهج التعليمية والثقافية وبرامج الإعلام مواد كلها تصب في ملء أدمغة الأجيال بالشيوعية ومعاداة الأديان. وامتلأت السجون والمعتقلات بل واكتظت المقابر بضحايا تلك السياسات من المسلمين.
لكن المسلمين لم ييأسوا برغم القبضة الحديدية عليهم هكذا قال لي الشيخ عبدالله نوري - يرحمه الله - أحد قادة الصحوة الإسلامية في أوزبكستان ومؤسس الحزب الإسلامي فيها، فأخذوا يعلمون أطفالهم تعاليم الإسلام ويحفظونهم القرآن والسنة في مدارس سرية كانت تنعقد في بيوت سرية ويظل الطلاب فيها مع مدرسيهم عدة أشهر دون خروج حتي لا تقبض عليهم الشرطة بتهمة تعلم الإسلام. ويضيف الشيخ نوري الذي مات مسمومًا قبل سنوات قليلة علي يد الحكومة الأوزبكية الشيوعية: خرّجت تلك المدارس، التي كنت أحد طلابها يومًا ثم أحد مدرسيها، أجيالًا من حفظة القرآن العارفين بمبادئ الإسلام وقد كان هؤلاء هم أساس الصحوة الإسلامية التي تشهدها جمهوريات آسيا الوسطي اليوم.
وفرض الاتحاد السوفيتي تلك السياسات الإلحادية على الدول الحليفة له في الشرق الإسلامي فطبقها عبدالناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر وحافظ الأسد في سوريا واليمن الجنوبي قبل الوحدة، إلخ.
وتم تفتيت الشعوب المسلمة وتشريدها بعيدًا عن ديارها بغية إضعافها وإحلال مواطنين روس محلهم مثلما يتم اليوم في سوريا ولكن بوجه آخر، إذ يتم تفريغ البلاد من شعبها السني ليحل محلهم شيعة. وقد نال الشيشان نصيبًا كبيرًا من عمليات الاضطهاد والتفتيت والتشريد نظرًا لتاريخ هذا الشعب المشهود في الثورات ضد المحتلين القياصرة ونظرًا لدورهم البطولي في إسقاط تلك الإمبراطورية فخشي الاتحاد السوفيتي بأسهم وشن عليهم حملات نفي وتشريد سعيًا لإبادة هذا الشعب عن بكرة أبيه ومحو الشيشان من الخريطة تمامًا. تقول الدكتورة «دونا آرتز» أستاذة القانون بجامعة «إيمورى أتلانتا»: لقد تعرض المسلمون في روسيا دومًا إلى محاولات ترويسهم ونزع هويتهم، وإنه برغم ادعاءات روسيا أنها دولة علمانية إلا أن الدستور الروسي ينص على الاعتراف بالإسهام المتحيز للأرثوذكسية في بناء وتطور الثقافة والحياة الروحية لروسيا عبر تاريخها، وذلك يؤكد أن هناك من يدفع النخب الحاكمة من داخل الكنيسة لإلغاء الدور المؤثر للتيارات الدينية الأخرى في الحياة الاجتماعية لروسيا، وهو ما يعزز القول بأن عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية قد حلت محل الأيديولوجية الشيوعية السوفيتية كقوة احتكارية داخل الدولة والمجتمع الروسي.
ستالين والشيشان
أسس ستالين جمهورية الشيشان ذات الحكم الذاتي عام 1944م لكنه نفى شعبها كله (ما يقرب من مليون نسمة) عام 1954م إلى سيبيريا تلك البلاد الجليدية المتجمدة، وإلى دول أخرى منها تركيا، وذلك بعد أن اتهمهم بالتعاون مع النازية في الحرب العالمية الثانية، وظل الشعب منفيًّا هناك حتى سُمح له بالعودة عام 1957م وإعلان جمهورية تحت الهيمنة الروسية، لكنه وضعهم في أتون مخطط لتذويب هويتهم فقد جرَّم استخدام اللغة العربية وفرض اللغة الروسية وجرَّم التعليم الإسلامي، بل واقتناء المصاحف فضلًا عن ممارسة الشعائر، لكن ذلك كله لم يغيب العقيدة ولم يذب الهوية، وظل الإسلام راسخًا أقوى من تلك الجبال الراسيات هناك بين البحر الأسود وبحر قزوين.
مات 50% من الشعب الشيشاني أثناء هذا التهجير القسري من الأطفال والنساء بسبب سياسة التجويع حتى الموت. لقد كانت وسائل التهجير في غاية القسوة فقد جُمع الشعب الشيشاني بأكمله في محطات القطارات دون السماح لهم بحمل أي شيء من المتاع مجردين من كل شيء حتى المال، وتحت طلقات الرصاص وتهديد الحراب حُشر الناس في عربات القطارات المخصصة لنقل البضائع دون طعام ولا ماء ولا كساء وكل من يرفض تنفيذ الأوامر يقتل مباشرة أمام الناس بوحشية ترهب من يرى ويسمع، أما أهالي الجبال أصحاب العزائم الشديدة فقد جُمعوا في إسطبلات الخيول وسكب عليهم النفط وأُحرقوا أحياء، ومن بين المواقع التي أحرق فيها أعداد لا حصر لها قرية «خيباخي» التي تم حرق كل سكانها البالغ تعدادهم ألف نفس بشرية شيوخًا ونساء وأطفالًا.
وبعد تولي «خرتشوف» السلطة بدأت رحلة عودة الشيشان إلي ديارهم في عام 1956م ليجدوا أرضهم وبيوتهم قد احتلها الجنس الروسي الأصفر الذي لا يعرف للحياة مذاقًا إلا بشرب الخمر والعربدة.
حروب إبادة جديدة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه عام 1991م أعلن الجنرال «جوهر دوداييف» استقلال الشيشان عام 1994م فرد الرئيس الروسي بوريس يلتسين باجتياح الجيش الروسي للبلاد لتبدأ ملحمة جديدة من ملاحم كفاح الشيشاني علي مر التاريخ. وحقق الشعب شبه انتصار علي القوات الروسية في تلك الحرب وما لبثت أن وضعت أوزارها حتي واصلت روسيا حصارها للشعب الشيشاني في محاولة لخنقه وذلك برغم اتفاقية السلام التي تم توقيعها والتي تعطي الشعب الشيشاني حقوقه كاملة في حكم ذاتي، ثم شن الروس حربًا جديدة علي هذا الشعب عام 1996م ولم تتوقف إلا عام 1999م عندما دمر الروس هذا البلد عن بكرة أبيه، وقاد تلك الحرب فلاديمير بوتين بعد توليه الرئاسة وإدارته للملف، فدمر البلاد وشرد الشعب ونصب أحد عملائه رئيسًا علي البلاد وما زال الوضع علي هذا النحو حتي اليوم، وإن كانوا يحاولون أن يصدروا للعالم صورة حرية العبادة وحرية المسلمين وقيام الحكومة بإنشاء المدارس الإسلامية.
لم يصف أحد ما جرى في هذا المنفى الجماعي لشعب بأكمله بقدر ما وصفه الكاتب الروسي «ألكسندر سولجينتسين» في كتابه «أرخبيل الجولاج» الذي رسم فيه بدقة صورة الحياة الجماعية لهذا الشعب وممارسته لها حتى في معسكرات الاعتقال، وكان مما قاله: في الجولاج: كانت هناك أمة لم تستسلم أبدًا، لم تتطبع مع الحياة العقلية للاستسلام، ولم تكن جماعة من المتمردين، بل كانت أمة بأكملها، وأنا أشير هنا إلى الشيشانيين، هؤلاء لم يحاولوا مطلقًا إرضاء الزعماء أو استرضاءهم، كانت أفعال هذه الأمة متشامخة، وكانت في الحقيقة معادية، وهنا شيء غير عادي تجب الإشارة إليه، وهو أنه لم يتمكن أحد من منعهم من الحياة على الطريقة التي كانوا يعيشون بها، والنظام السوفيتي الذي حكم تلك الأرض طوال ثلاثة عقود لم يتمكن من إجبارهم على احترام قوانينه (إقرأ كتاب: محنة الشيشان من إيفان الرهيب إلي يلتسين وبوتين - لكاتب هذه السطور - الطبعة الثانية).
بوابة الإسلام للشرق الإسلامي
ويجمع الخبراء القريبين من هذا الملف والذين التقيتهم علي فترات متقاربة أن إصرار الشعب الشيشاني علي إقامة دولة مستقلة يمثل نموذجًا فريدًا بين مجموعة القوقاز. وإذا تُرك فإن بقية دول المجموعة ستتبعه لا محالة، وهو عين الخطر الذي يخشاه الغرب عمومًا قبل روسيا؛ فقيام دولة إسلامية مستقلة في تلك المنطقة ذات الموقع الإستراتيجي والمليئة بالثروات لا شك يهدد مشاريع الغرب فيها، وإذا سُمح بقيام دولة مستقلة في الشيشان فإن ذلك معناه - لا محالة - توالي مسلسل قيام الدول المستقلة في القوقاز (داغستان والأنجوش، إلخ) وهو ما يمثل عودة حقيقية لدولة القوقاز الموحدة في المستقبل البعيد، ولا شك أن قيام دولة كهذه وسط صحوة إسلامية كبرى تعم شعوب القوقاز يهدد دولة الاتحاد الروسي ويقطع الطريق على التمدد الغربي هناك، ويشكل قوة داعمة ومساندة للمسلمين في المنطقة كلها.
خاصة أن منطقة شمال القوقاز تمثل البوابة الرئيسة إلى دول الشرق الإسلامي وإذا التحمت صحوة القوقاز مع صحوة الشرق الإسلامي فإنها ستجتاح روسيا وتقضي على المشروع الغربي والمصالح الغربية في المنطقة، ومن هنا كانت عملية وأد صحوة الشيشان كبداية مهمة للقضاء على صحوة القوقاز وإقامة سد منيع يحول دون التواصل والتفاعل مع الشرق الإسلامي، هذا أولًا.
ثانيًا: إن النمو السكاني في روسيا، في تناقص كبير بينما نسبة النمو بين سكان القوقاز متزايدة، وذلك يعني على المدى البعيد تفوق منطقة القوقاز سكانيًّا على روسيا وهو ما يثير تخوفات لدى روسيا من تمدد هذا التزايد السكاني إلى الأراضي الروسية ذاتها ليملأ فراغ التناقص السكاني فيها، وإذا حدث ذلك في ظل وجود دول مستقلة ومستقرة في القوقاز فإنه يعني انحسار الدولة الروسية أمام الدول القوقازية، ولذلك فإن قطع الطريق على قيام أي دولة مستقلة في القوقاز يمثل هدفًا إستراتيجيًّا روسيًّا بل وغربيًّا، والأكثر من ذلك فإن روسيا تطبق سياسة صارمة لتحديد النسل بين سكان القوقاز تحسبًا لكل هذه الاحتمالات.
ثالثًا: إن هذه الحرب ليست مرتبطة فقط بأطماع فرض الهيمنة على القوقاز وإنما مرتبطة بتدابير القضاء على الصحوة الإسلامية في المناطق الإسلامية كلها، في آسيا الوسطى والقوقاز والمناطق الإسلامية الأخرى داخل روسيا (تتارستان وبشكيريا وغيرهما) وتشارك في ذلك أطراف عديدة، فهناك تحالف تقوده روسيا مع حكومات قيرغستان وأوزبكستان وطاجيكستان - إلى حد ما - لكبح الصحوة الإسلامية المتنامية في هذه الدول ذات الشعوب الإسلامية العائدة بقوة إلى الإسلام والتي مازالت تتحكم فيها حكومات شيوعية مغرقة في مخاصمة الإسلام.
وتدعم الصين من بعيد هذا التحالف ضد الإسلام والصحوة الإسلامية خوفًا من تلاحم الصحوة الإسلامية في دول الاتحاد السوفيتي القديم مع صحوة المسلمين في سينكيانج (تركستان الشرقية) وهم أكثر من عشرين مليون مسلم يعيشون في ظروف أشد وأقسى من أحوال المسلمين تحت الحكم الروسي.
وبمناسبة الغرب وأهدافه وأطماعه في المنطقة فإن هذه المسألة واضحة؛ فلم يعد خافيًا أن الولايات المتحدة لها أطماع كبيرة في القوقاز لوجود النفط والثروات المعدنية من جانب، ولموقعها الإستراتيجي من جانب آخر، ولن تمانع الولايات المتحدة استقلال الشيشان أو أي دولة قوقازية عن روسيا إلا في حالة واحدة وهي وجود نظام تابع لها. وطالما لم يتحقق ذلك فإن الإستراتيجية الأمريكية والغربية عمومًا تظل هي مساعدة روسيا بكل ما يمكن للقضاء على أي حركة استقلالية، ففي الغزو الروسي السابق للشيشان بلغت المساعدات الغربية لروسيا خمسة مليارات ونصف المليار دولار.
وبرغم أن روسيا تقوم بالنيابة عن الغرب بتحقيق ما يسعى إليه في المنطقة إلا أن الولايات المتحدة تسعى في الوقت نفسه إلى التواجد بقوة في المنطقة فهي صاحبة أطماع سياسية واقتصادية في روسيا ذاتها - كما في القوقاز - فروسيا بلد مليء بالثروات والترسانة الحربية والنووية. ومن الناحية الجغرافية فهي تتمدد على مساحة تقارب قارة بأكملها، ولذلك فإن الوجود الأمريكي القوي هناك يمثل حتمية للمصالح الأمريكية خاصة أن المسافة شاسعة بين القارة الأمريكية وآسيا حيث توجد روسيا، فإذا حدث انهيار روسي يكون كل شيء في قبضة أمريكا.
وفي عام 1991م بدأ الأمريكيون يتحدثون - لأول مرة - بصراحة عن أن القوقاز منطقة مصالح لهم، ولا شك أن أي إضافة لرصيد النفوذ الأمريكي في المنطقة تعد خصمًا من النفوذ والهيمنة الروسية، ولذلك فأيًّا كانت التحليلات في هذا المجال فإن منطقة القوقاز وبقية المناطق الإسلامية النفطية تظل دائمًا موقع احتكاك بين الهيمنة الروسية الواقعة على الأرض والطموح الأمريكي المتطلع إلى نفوذ يلتهم أكبر قدر من الثروة وينسج خيوط هيمنته على أوسع مساحة من الجغرافيا.
الصحوة الإسلامية ليست في القوقاز وحدها وإنما في المنطقة الممتدة من أواسط آسيا والصين إلى البلقان، ولذلك فإن هناك اتفاقًا وتعاونًا بين جميع القوي (روسيا وأمريكا والصين وأوربا) على ضرورة إطفاء هذه الصحوة والسيطرة عليها وإبقائها تحت سطوة النفوذ وعدم تميكنها من إقامة دولة مستقلة ولو على شبر واحد من الأرض.
وقد تم تحقيق ذلك في البلقان بفرض الهيمنة الأمريكية تمامًا على البوسنة وكوسوفا، أما في الصين فإن مسلمي تركستان الشرقية ما زالوا تحت هيمنة الدولة الشيوعية، وبقيت أواسط آسيا والقوقاز حيث موضوع حديثنا، إذ تتضافر كل القوى خلف روسيا لمساعدتها على حسم المعركة للقضاء على الشيشان وإحكام السيطرة على المنطقة.
مصادر تم الاعتماد عليها
١- مجلة «المجلة» العدد 2401، فهمي هويدي 3٠/١٠/٢٠٠٠م.
٢- قفقاسيا - التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، ص1-9.
٣- مستقبل الإسلام في القوقاز وبلاد ما وراء النهر - مصطفى محمد الطحان (طبعة ١٩٩٥م).
٤- الصراع الدولي عند بحر قزوين - دراسة مفصلة عن صراع المصالح والنفوذ في المنطقة (تحت الطبع للكاتب).
«القوقاز»: منطقة جغرافية سياسية تقع عند حدود أوربا وآسيا تتكون من الدول القومية السوفياتية سابقًا (جورجيا، أرمينيا وأذربيجان)، أما القوقاز الروسي فيتألف من كراسنودار كراي، ستافروبول كراي، أديغيا، قراتشاي - تشيركيسيا، قبردينو - بلقاريا، الشيشان، إنغوشيا، أوسيتيا الشمالية وداغستان. كما يضم القوقاز ثلاث دول أعلنت استقلالها غير معترف بها دوليًّا وهي: أبخازيا، أوسيتيا الجنوبية وقرة باغ.
«الخان»: كلمة أعجمية تدل على الفندق في عصرنا الحديث، وهي موضع راحة المسافرين. والخانات نوعان: الأول أقيم على طرق السفر خارج المدن المتباعدة، والثاني داخل المدن والتجمعات السكنية. كما يجري استعمال كلمة «خان» أيضاً لقبًا لإحدى العائلات المنتشر بكثرة في وسط وغرب آسيا، وبالتحديد في باكستان وأفغانستان ودول وسط آسيا مثل كازاخستان وأوزبكستان والهند وبنغلاديش.