مضامين خطبة النبي في عرفة
حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجةً واحدة، كانت أعظم حجة في التاريخ كله
وأفضلها، أقام فيها شعائر الله - تعالى - وعظَّم حرماته، وصدع بدينه، وبيَّن للناس
مناسكهم، وخطب فيهم يعلمهم ويبشرهم وينذرهم.
فلما عزم - صلى الله عليه وسلم - على الحج أَذَّنَ في الناس به؛ فتجهزوا للخروج
معه، وسمع ذلك مَنْ حولَ المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، ووافاه في الطريق خلائق لا يُحصَون، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن
يمينه وعن شماله مدَّ البصر. [1]
كلهم شَرُفوا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل حَجةٌ أفضل من حَجةٍ
يؤمهم فيها أفضل البشر، وخاتمُ الرسل؛ يهتدون بهديه، ويستنون بسُنته، ويقلِّدونه في
أفعاله، ويَنعَمون برؤيته، ويستمعون إلى خطابه، ويأخذون عنه مناسكهم، ويشاركونه في
تعظيم الله - تعالى - وذكره وشكره ؟ فيا
لله العظيم !ما
أعظم تلك الحجة ! ويا
لسعادة من حضرها !
إن من حضرها طاف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت، ووقف معه في عرفة،
وفي المشعر الحرام في مزدلفة، وشاركه في الهدي وفي الجمار، وبات معه في مِنى،
واستمع إليه وهو يخطب في الناس يعلِّمهم مناسكهم ودينهم، ويحضهم على ما فيه فلاحهم،
وينهاهم عما يضرهم؛ فلو كان الأمر بالاختيار لاختار كل المسلمين أن يحجوا معه - صلى
الله عليه وسلم -؛ ولكن ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقف - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة في عرفة عَقِب الزوال، وخطب الناس خطبة
عظيمة بليغة بيَّن فيها الحقوق والحرمات، ووضعَ فيها مآثر الجاهلية تحت قدميه،
وأوصى بالنساء، ودلَّهم على سبيل العصمة من الضلال، ثم أشهدهم على بلاغه، فشهدوا في
ذلك الجمع العظيم شهادةً ما اجتمع حشدٌ مثله يشهدون على مثل ما شهدوا عليه، فقال -
صلى الله عليه وسلم - في تلك الجموع العظيمة :
« إِنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في
شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا.
ألا كُلُّ شَيْءٍ من أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ
الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ من دِمَائِنَا دَمُ ابن
رَبِيعَةَ بن الْحَارِثِ كان مُسْتَرْضِعاً في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ،
وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا
عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ.
فَاتَّقُوا الله في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا
يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ
ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ.
وقد تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ
الله، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قالوا :نَشْهَدُ
أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ
يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس : اللهم
اشْهَدْ، اللهم اشْهَدْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ». [2]
وقد تضمنت خطبته في ذلك الموقف العظيم مضامين عظيمة هي :
المضمون الأول : حرمة
الدماء والأموال والأعراض :
وهذه الضرورات مما اجتمعت عليها شرائع النبيين - عليهم السلام - ولا يتأتى للبشرية
عيش صالح باختلالها، والغالب أن اختلال أحدها يؤدي إلى اختلالها جميعاً، وقد قال
الله - تعالى - في قصة آدم و إبليس { وَقُلْنَا
اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } (البقرة : 36)؛ والأرض
لا تكون مستقراً للناس ومتاعاً لهم إلا بأمنهم على دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
ومقصود تحصيل هذا الأمن وغايته : إقامة
التوحيد في الأرض، أي : يسعى
الناس في ما يحقق الأمن؛ ليتسنى لهم عبادة الله وحدَه لا شريك له، وإقامة دينه،
والحكم بشريعته؛ لأنه إذا عُدمَ الأمن، واختلط الأمر لم يتمكن الناس من عبادة الله
- تعالى - وإقامة دينه.
ولعل هذا هو سبب تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته تحريم الدماء
والأعراض والأموال على أي أمر آخر، ولو كان هذا الأمر ترسيخ التوحيد ( الذي
كان في فِقرَة تالية )؛
لأن التوحيد لا يقام ويرسخ رسوخاً كاملاً بلا أمن.
وبهذا ندرك حكمة الجهاد والغاية من مشروعيته؛ إذ هي تحقيق الأمن الذي يهيئ لقيام
التوحيد، والحكم بشريعة الله - تعالى - بين الناس؛ إذ لا عدل إلا فيها، ولا صلاح
للبشر إلا بها، وبديلها الفتنة عن الدين، واختلال الأمن بمفهومه الشامل؛ كما قال
الله - تعالى - { وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (الأنفال : 39).
وبهذا ندرك أيضاً غلط من حصروا الجهاد في الدفع، وألغوا جهاد الطلب، والتفوا على
نصوص الجهاد فوسعوا الدفع فيها ليتناول حماية الدعوة ولو بقيت أنظمة الكفر تحكم
الأرض وتعيث فيها فساداً، ما دامت تقرر حرية التدين للأفراد؛ فألغوا وجوب إخضاع
الناس لحكم الشريعة الربانية، وارتضوا لهم حكم الشرائع الوضعية.
وكم كان في هذا التزوير والتأويل من جناية على الشريعة الغراء، وإضلال للناس،
وإقرارٍ لأسباب شقاء البشرية؛ وإلا فإن جهاد الدفع لا يحتاج أصلاً إلى من يقرره؛
لأن من طبيعة البشر وجبلَّتهم الدفاع عما اختصوا به، وردَّ عدوان المعتدين عليهم،
يستوي في ذلك المؤمن وغيره.
وعلماء الإسلام حين عقدوا أبواباً للجهاد إنما عقدوها لأحكام جهاد الطلب؛ فهو الأصل
في الإسلام، ويذكرون جهاد الدفع تبعاً، وهذه حقيقة فقهية؛ وإن شرق بها أعداء
الإسلام والمتخاذلون عنه المبدلون لأحكامه.
والفقهاء حينما فصَّلوا في كتبهم أحكام الجهاد فإنهم يعنون به جهاد الطلب، ثم
يذكرون الحالات التي يتعين فيها الجهاد وهي ثلاث صور ليس جهاد الدفع إلا واحدة
منها.
فالأمن الكامل لا يكون إلا بإقامة دين الله - تعالى - والحكم بشريعته بين الناس،
ولا يقوم الدين قياماً تاماً، ويقضى بأحكامه على الناس كلهم إلا بتحقق الأمن، ولا
يتحقق الأمن إلا بحفظ الدماء والأعراض والأموال؛ ولذا كان تحريم النبي - صلى الله
عليه وسلم - لها أولَّ شيء دعا إليه في خطبة عرفة، وقرنه بما انعقدت عليه قلوبهم من
تعظيم الزمان والمكان، وحرمة مكة وحرمة يوم عرفة وحرمة شهر ذي الحجة : « كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا ».
وكرر النبي - صلى الله عليه وسلم - حرمة الدماء والأموال مرة أخرى بقوله : « وَدِمَاءُ
الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ... وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ...»، وهذا
التكرار إما أن يكون تأكيداً لما سبق، وإما أن يكون إبطالاً لما يعتقدون حِلَّه أو
استمرارهم عليه لكونه كان قبل النهي عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : « ثم
خص بعد ذلك الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية... إما لتخصيصها
بالذكر بعد العام، وإما لأن هذا إسقاط لأمور معيَّنة يعتقدون أنها حقوق، لا لسنن
عامة لهم فلا تدخل في الأول » [3].
المضمون الثاني : ترسيخ
التوحيد، والقضاء
على كل مظهر من مظاهر الشرك :
وذلك ظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ألا
كُلُّ شَيْءٍ من أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ».
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : « يدخل
فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يالِ فلان ويالِ فلان، ومثل
أعيادهم وغير ذلك من أمورهم » [4].
واستخدام النكرة ولفظ الاستغراق يدل على الشمول ( كل ) ( شيء ) ( من
أمر ) فما
دام له تعلُّق بالجاهلية فهو موضوع أي : ملغىً،
وقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في تحقيره ( تحت
قدمي ) أي :مهما
علا شأنه عند أهله، وامتلأت قلوبهم بتعظيمه؛ فهو تحت الأقدام ما دام من أمر
الجاهلية.
وأمر الجاهلية هو ما عارض الديانة الربانية، ولا يقتصر على ما كانت تعرفه العرب من
عبادة الأوثان، أو ما تعتقده من أفكار خاطئة، أو ما ترتضيه من عادات وأعراف.
بل يدخل في مصطلح ( أمر
الجاهلية ) كل
ما عارض الإسلام في كل زمان ومكان؛ لأن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي إلى
آخر الزمان، وهي إلى الناس كافة.
فالمذاهب والأفكار المحدَثة المعارضة للشريعة : من
شيوعية واشتراكية وقومية وبعثية وليبرالية ورأسمالية كلها من أمر الجاهلية، ويدخل
في ذلك المصطلحات التي انخدع بها كثير من الناس : كالحرية
والديمقراطية وتحرير المرأة ونحو ذلك، وهكذا أفكار الفرق الضالة : من
رافضة وإسماعلية ونُصَيْرية وبهائية وقاديانية وصوفية ونحوها هي من أمر الجاهلية
أيضاً.
ويكون في أصحاب هذه المذاهب والأفكار والمصطلحات المحدثَة من أدواء الجاهلية بقدر
ما فيهم من إيمان بها، وانحراف عن دين الله تعالى.
وأمر الجاهلية منه ما هو قديم؛ أي : كان
موجوداً وقت تنزُّل الوحي، ومنه ما هو حادث؛ أي : بعد
وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأما القديم
من أمر الجاهلية فعلى نوعين :
النوع الأول : ما
أقرته الشريعة؛ سواء كان من المعتقدات والعبادات، مثل : تعظيم
البيت الحرام، والحج إليه، والتقرب بسقاية حجاجه ونحو ذلك. أو
كان من الأخلاق والعادات كإكرام الضيف، وحفظ حقوق الجار، فهذا النوع انتقل بإقرار
الشريعة له من كونه أمراً جاهلياً منكراً إلى معروف مأمور به، يثاب عليه صاحبه.
النوع الثاني : ما
سكتت عنه الشريعة أو أبطلته؛ سواء كان من المعتقدات : كاعتقادهم
في الأوثان والتقرب إليها، أم كان من الأخلاق والعادات : كوأد
البنات، والإسراف في القتل والثأر، فهذا يدخل في عموم إبطال النبي - صلى الله عليه
وسلم - لأمر الجاهلية.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : « ولا
يدخل في هذا اللفظ ما كانوا عليه في الجاهلية وأقرَّه الله في الإسلام : كالمناسك
وكديَّة المقتول بمائة من الإبل، وكالقسامة ونحو ذلك؛ لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم
منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم يُنْهَ
في الإسلام عنه بعينه » [5].
أما ما أحدثه الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على نوعين أيضاً :
النوع الأول : ما
كان في المعتقدات الغيبية والعبادات فهو من أمر الجاهلية، ولا يحل اعتقاده ولا
العمل به؛ إذ الشريعة موقوفة على النص، ومكمَّلة من الرب - سبحانه - فلا يجوز
الاستدراك عليها؛ لكمالها وتمامها.
قال الله - تعالى - : { وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } (الأنعام : 115), وقال
- تعالى - : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (المائدة : 3), ومن
الموافقات العجيبة أن هذه الآية العظيمة التي تفيد كمال الدين قد نزلت متزامنة مع
خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة نفسه وهو واقف بها؛ كما أخبر بذلك
عمر، رضي الله عنه [6].
وكل النصوص الناهية عن الإحداث في الدين، وردِّ البدعة على صاحبها تتناول هذا
النوع، وتجعله من أمر الجاهلية.
النوع الثاني : ما
كان من قبيل عادات الناس وأعرافهم وسلوكياتهم، وهو على أنواع :
- ما خالف شيئاً من الشريعة؛ فهو من أمر الجاهلية.
- ما كان من قبيل العادات واختص به الكفار، مثل ما اختصوا به من الألبسة وقصات
الشعر ونحو ذلك، فهو من أمر الجاهلية؛ لاستفاضة النصوص وانعقاد الإجماع على تحريم
التشبه بالكفار، ولا يزول تحريمها إلا بارتفاع اختصاصهم بها.
- ما كان فيه نفع للمسلمين : كعلوم
الطب والهندسة والصناعة والإدارة ونحوها، فليس من أمر الجاهلية؛ لعموم النصوص
الآمرة بتحصيل المنافع، وتحقيق أسباب القوة، ومنها قول الله - تعالى - : { وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ } (الأنفال : 60).
المضمون الثالث : امتثال
الآمر لما يأمر به، وانتهاؤه
عما ينهى عنه، والبَدء
في ذلك بنفسه وأهل بيته وقرابته :
فإن ذلك أدعى لقبول الناس لقوله، وهذا ظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « وَدِمَاءُ
الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ من دِمَائِنَا دَمُ ابن
رَبِيعَةَ بن الْحَارِثِ كان مُسْتَرْضِعاً في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ،
وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا
عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ».
وهذا واجب من واجبات الدعوة عظيم، وأدب من آدابها رفيع، وهو سلوك الأنبياء - عليهم
السلام - فلم يُنقَل عن أحد منهم أنه خالف قوله فعله، ولو وقع ذلك منهم لعيَّرهم به
المكذبون من أقوامهم، فلما لم يقع ذلك منهم عُلِم أن طريقة الأنبياء وأتباعهم من
الدعاة هي موافقة العلم العمل، وإتباع القول الفعل؛ كما حكى الله - تعالى - عن شعيب
- عليه السلام - أنه قال : { وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }(هود : 88).
فواجب على الولاة والدعاة أن يكونوا هم وآلهم أول الممتثلين لما يأمرون به، وأول
المنتهين عما ينهون عنه، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا نهى الناس عن شيء جمع أهل
بيته فقال : « إني
نهيت عن كذا وكذا؛ والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا
وإن هبتم هابوا وإني - والله - لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس
إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر » [7].
المضمون الرابع : الوصية
بالنساء، وبيان
ما لهن وما عليهن في بيت الزوجية :
وذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « فَاتَّقُوا
الله في النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا
يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ
ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ ».
فهذه الوصية هي من البناء الاجتماعي المتين، والإصلاح الأسري المكين؛ ذلك أن صلاح
الزوجين وأداء كلِّ واحد منهما للآخر حقَّه فيه صلاح الأسرة، وصلاح الأسرة يعود على
المجتمع بأجمعه بالصلاح والاستقامة.
وكم أثَّرت الخلافات الزوجية، والانتكاسات الأسرية على المجتمعات ؟ وكم
كلفتها من تكاليف باهظة في تسرب الأولاد وضياعهم، وانتشار الجرائم على أيديهم؛
لامتلاء قلوبهم بالأحقاد والضغائن على مجتمع لم يجدوا فيه الأمن الأسري، والاستقرار
النفسي.
والعالم كله يتداعى لحل المشكلات الأسرية؛ لما يرى من أثرها في تقويض المجتمعات
ودمارها.
وتضمنت وصيته - صلى الله عليه وسلم - بالنساء الإشارة إلى أمرين مهمين :
أولاً : حقوق
الزوجات : وذلك
بأمره - صلى الله عليه وسلم - الرجال بتقوى الله - تعالى - فيهن، وهذا يشمل حفظ كل
حق شرعي للمرأة؛ لأن من اتقى الله - تعالى - في المرأة حفظ حقها، وذِكْرُ النفقة
عليهن هو من ذكر الخاص بعد العام؛ لأهمية النفقة في استمرار الحياة الزوجية؛ ولأن
الأصل أن الرجل هو المكتسب والمنفق، والمرأة ينفَق عليها في كل مراحل عمرها بنتاً
وزوجة وأمَّاً؛ وذلك قبل انقلاب مفاهيم الناس في الحضارة المعاصرة؛ إذ جعلت المرأة
مكتسبة ومنفقة على نفسها، مضيعة لبيتها وولدها، وكفَّ الرجل نفقته عنها؛ لما يرى من
كسبها، وانتقلت من كونها خاضعة له إلى ندٍّ له تنافسه وتصارعه، وأكثر المشاكل
الزوجية في هذا العصر، وارتفاع نسب الطلاق هي بسبب هذا الانقلاب في وظائف المرأة
وواجباتها.
ثانياً : تكريس
حق القِوامة للرجل على المرأة؛
إذ به تستقيم الحياة الزوجية، وتصلح الأسرة؛ لأن الله - تعالى - خلق المرأة منقادة
لا قائدة؛ ولذا لم يمنحها ولاية على الرجال لا عُظمَى ولا صُغرَى، وأباح للرجل
تأديبها من غير سَرَف ولا ضرر.
وهو الحق الذي تريد حضارة الغرب ووكلاؤها الليبراليون تقويضه في بلاد المسلمين،
بدعوة المرأة إلى التمرد على الرجل، وجعلها نداً له ينافسه ويصارعه، وفتح مجالات
الأعمال للنساء، وتضييقها على الرجال، ونشر ثقافة الاختلاط والانحلال، مع ثبوت
التجارب والدراسات المتخصصة بضرر ذلك على النساء والرجال والأطفال والأسرة والمجتمع
كله، ولكنها مكابَرة المنافقين، وتعالُم الجاهلين.
وقبل عقد من الزمن - تقريباً - أسّست الأمريكية ( لورا
دويل ) جمعية
( المرأة
المستسلمة ) وألَّفت
كتاباً بهذا العنوان تصدَّر في أمريكا قائمة أفضل عشرة كتب في بعض الأعوام، تدعو
فيه المرأة إلى ترك منافسة الرجل والاستسلام له؛ إن أرادت حياة زوجية سعيدة، واشترك
في جمعيتها وعمل بوصاياها آلاف النساء ممن يردن حياة زوجية سعيدة، فنجحن في ذلك،
حتى افتتحت فروعاً لجمعيتها في أوروبا، وما زادت على أن أمرت المرأة بالعودة إلى
جبلَّتها التي قررها الإسلام.
المضمون الخامس : الوصية
بالتمسك بكتاب الله - تعالى - والاعتصام به والتزامه :
فالكتاب والسُّنة هما تَرِكة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا، وهما العلم الذي
خلَّفه لأمته « وقد
تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ
الله...» وهذه الوصية تتضمن التمسك بالسَّنة؛ لأن الأمر بالاعتصام بالكتاب يلزم منه
الأمر بالاعتصام بالسُّنة.
وقد ضل في الوصية بكتاب الله - تعالى - طائفتان من الناس :
الطائفة الأولى : الفرق
الباطنية ( وعلى
رأسها الرافضة الإمامية ) حين
لم يأخذوا بسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفضوها متمسكين - حسب زعمهم - بهذا
الحديث، وفي بعض رواياته في غير الصحيح : « إني
قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » [8].
وفي بعض الأحاديث : « كتاب
الله وسنتي » [9].
الطائفة الثانية : القرآنيون،
وهم قوم زعموا الاكتفاء بالقرآن دون السُّنة.
وكلا الطائفتين في ضلال، وفي ما اختاراه من الاكتفاء بالقرآن إلغاء للقرآن الذي
يزعمون تمسُّكهم به؛ لأن القرآن أحال على السُّنة، وأمر الله - تعالى - فيه بالأخذ
بها في كثير من الآيات : { قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } (آل
عمران : 32), { وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ } (آل
عمران : 132), { مَّن
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء : 80), { يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ
وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } (الأنفال : 20),{ قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (النور : 54), { وَمَا
ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(الحشر : 7)...
وغيرها عشرات الآيات.
المضمون السادس : إشهاده
- صلى الله عليه وسلم - الناس على بلاغه لدين الله - تعالى - لهم :
وهو أعظم إشهاد في التاريخ البشري، في أشرف زمان ومكان، استشهد عليه أفضل البشر،
وشهد له أفضل أتباع نبي؛ فشهد له أهل الموقف كلهم وهم زهاء مئة ألف، ولا يُعرَف في
التاريخ كله شهود يضاهون هذا العدد، وكانت شهادتهم على أهم القضايا وأعلاها، وهي
دين الله - تعالى - : « وَأَنْتُمْ
تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قالوا : نَشْهَدُ
أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ
يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس : اللهم
اشْهَدْ اللهم اشْهَدْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ».
ونحن في المئة الخامسة بعد الألف من استشهاده لأمته في عرفة - صلى الله عليه وسلم -
نشهد كما شهد خيار هذه الأمة على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد بلَّغ وأدَّى ونصح
- صلى الله عليه وسلم -، اللهم فأشهد، اللهم فاشهد اللهم فاشهد.
(( مجلة البيان العدد : 280 ذو الحجة 1431 ـ نوفمبر 2010 ))
:: ملف خاص (( بين يدي الحج ))
(1) جاء ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - في وصف حجة النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال :
« إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في
العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم
يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه »
أخرجه مطولاً مسلم ( 1218 )، و أبو داود ( 1905 )، و ابن ماجه ( 3074 )، و الدارمي
( 1850 ) .
(2) مضى تخريجه في حاشية رقم ( 1 ) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم : 111، ط الفقي .
(4) المرجع السابق : 111 .
(5) المرجع السابق : 111 .
(6) رواه البخاري ( 4330 ), ومسلم ( 3017 ) .
(7) رواه عبد الرزاق ( 20713 )، و ابن أبي شيبة ( 30643 ) .
(8) رواه من حديث جابر -رضي الله عنه - الترمذي، وقال : حسن غريب ( 3786 ) ورواية
الصحيح أثبت وجاء بنحوه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عند أحمد : 3 / 17،
وسنده ضعيف، ومن حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عند الترمذي وقال : حسن غريب
( 3788 ) ومن حديث زيد بن ثابت عند أحمد : 5 / 189 وصححه الألباني بشواهده كما في
السلسلة الصحيحة ( 1761 ) .
(9) كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند : البزار ( 8993 ) و الحاكم :
1 / 172، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 3232 ) .