• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سورية هل تفضي الثورة إلى التقسيم؟

سورية هل تفضي الثورة إلى التقسيم؟

في شهر مايو 1916 أبرم وزير الخارجية الفرنسي فرانسوا جورج بيكو اتفاقاً سرياً مع نظيره البريطاني مارك سايكس لتحديد مناطق نفوذ دولتيهما في المشرق العربي، ونصت المعاهدة في صيغتها النهائية على منح فرنسا كلاً من: الموصل وسوريا ولبنان، ومنح بريطانيا جنوب بلاد الشام والعراق.

وشهدت السنوات الأربع التالية؛ اعتماد الخريطة السياسية للمشرق العربي من خلال وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، ومعاهدة «سيفر» التي قسمت منطقة الهلال الخصيب وفق أطماع القوى الأوروبية عام 1920، ومعاهدة «سان ريمون» التي نصت على وضع سوريا والعراق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني تباعاً في العام نفسه.

وإمعاناً في تفتيت المشرق العربي وضعت السلطة الفرنسية خطة فرز طائفي للمنطقة؛ فأعلنت إنشاء دولة لبنان الكبير (1 سبتمبر 1920)، ودولة حلب (8 سبتمبر 1920)، ودولة العلويين (23 سبتمبر 1920)، ودولة جبل الدروز (20 أبريل 1921)، ودولة دمشق التي اتخذت من العاصمة اسماً لها، كما فرضت نظامي إدارة محليين في إقليم الجزيرة وسنجق الاسكندرون.

وسرعان ما تبين للانتداب الفرنسي صعوبة الاستمرار في إدارة خمسة أجهزة حكم مستقلة، فانضمت دولتا حلب ودمشق عام 1924، واتُخذ قرار ضم مناطق الدروز والعلويين للدولة السورية في 1936، وأخذ الإقليم صورته النهائية بدولة لبنانية مستقلة، وبقيت الجمهورية السورية على الوضع القائم اليوم بعد ضم لواء الاسكندرونة إلى تركيا عام 1939.

وفي أتون حالة الفوضى التي انتابت الجمهوريات العربية ابتداء بعام 2011؛ عاد الولع الغربي بخريطة المنطقة؛ إذ بدأت تظهر رسومات جديدة وخرائط مستحدثة لإعادة تقسيم المشرق العربي وفق مصالح القوى الدولية المتنافسة.

ففي محاضرة بمدرسة: «جيرالد فورد للسياسة العامة» طرح عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر فكرة تقسيم سورية على أسس إثنية وطائفية.[1] وسرعان ما لقيت هذه الدعوة أصداءها في أروقة مراكز الفكر الغربية وبعض الجهات الرسمية التي بدأت تدعو علناً إلى حل الأزمة السورية عبر تقسيم البلاد؛ حيث اقترحت خريطة نشرها «معهد دراسات الحرب» تقسيم البلاد إلى: رقعة شمالية شرقية يسيطر عليها الأكراد، وأخرى وسط وشمال غربي البلاد تسيطر عليها المعارضة السنية في حلب، وثالثة يسيطر عليها النظام العلوي وتتضمن محافظات: دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس، ونشر «مركز ويلسون» دراسة أخرى ضمّنها خريطة تقترح فض الاشتباك بين المعارضة والنظام على طول الخط السريع بين دمشق وحلب، بحيث تصبح دمشق وحمص وحماة ومحافظات الساحل تحت حكم النظام، وتخضع القطاعات الشمالية والشرقية للمعارضة.[2] كما اقترح مايكل أوهانلون (23 يونيو 2015) الخبير في الشؤون الأمنية بمعهد بروكينغز حسم الصراع في سورية من خلال تأسيس نظام فيدرالي يبدأ بمنطقتين: كردية في الشمال ودرزية في الجنوب، ومن ثم إنشاء منطقة آمنة للعلويين وتشكيل مجلس إدارة علوي يعمل على توفير الخدمات الأساسية بالتنسيق مع الروس والإيرانيين.

وفي مقابل الأطروحات التفتيتية التي تتبناها معاهد الغرب؛ تتجه تصريحات المعارضة السياسية بصورة سلبية نحو بكائيات نظرية المؤامرة وأنين تلاعب الغرب بالشرق، مع غياب ملفت للأطروحات العلمية الجادة التي تعالج مشكلات الهوية السياسية في هذه المرحلة الحرجة من التحول البنيوي.

أولاً: سيناريوهات التقسيم الطائفي:

وبناء على ما سبق من معطيات فإن هذه الدراسة تعمد إلى توظيف نظريات «الواقعية الجديدة» لتقييم جدوى سيناريوهات التقسيم ومشاريع اللامركزية والتشكيل الفيدرالي فيما يتوافق مع نظام «الترويكا» الفرنسي المطبق في لبنان، أو نمط المحاصصة الطائفية الأمريكي القائم في العراق.

والحقيقة هي أن معظم نماذج التقسيم المطروحة في الأروقة الغريبة تنطلق من أسس تاريخية؛ حيث اتبعت الدولة العثمانية مع الأقليات الدينية في بلاد الشام نظام «الملة» الذي منحهم قضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة، واستمر الانتداب الفرنسي في تبني هذه السياسة من خلال إنشاء دويلات طائفية خلال الفترة 1920-1936. وبعد فترة وجيزة من الحكم الديمقراطي (1946-1963) بادر نظام البعث إلى ترسيخ الهيمنة الطائفية - العشائرية التي اتخذت أبعاداً مؤسسية خلال حكم آل الأسد (1970-2011).

وفي مرحلة الثورة السورية (2011-2015)؛ أسفرت الحالة الإنسانية المروعة عن تعقيدات مجتمعية تمثلت في: مجازر طائفية وتهجير قسري وعمليات تطهير عرقي أعادت بعث أطروحات حل الأزمة من خلال الفصل بين مكونات الصراع وفق الصيغة التالية:

1- إنشاء دولة علوية في الساحل الغربي:

يربط معظم المصادر الغربية بين تقهقر النظام في الجبهات الشمالية والشرقية والجنوبية مع مشروع إنشاء دويلة علوية ساحلية، مستشهدة بالإجراءات التي اتخذها النظام لتعزيز سيطرته في الشريط الساحلي، وأكد آرام نرغيزيان الباحث المتخصص في الشؤون العسكرية لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن النظام: «قد بدأ الاستعداد لفكرة حماية مناطقه الأساسية وجعلها آمنة في ظل وجود 175 ألف مسلح تحت إمرته، ينضوون في صفوف الجيش والمليشيات ومقاتلي حزب الله والمقاتلين الشيعة الأفغان».

وتجد هذه الفرضية كثيراً من الحقائق التي يمكن الاستناد إليها، ومن ذلك: تحرك النظام باتجاه تثبيت قواته في المناطق الساحلية، وتقوية دفاعاته في اللاذقية عبر تشكيل فصيل علوي جديد يطلق عليه: «درع الساحل» ونشر 1500 مقاتل من الميلشيات الإيرانية في مختلف نقاط المراقبة وحواجز التفتيش لمنع غير القاطنين في المحافظات الساحلية من الدخول إليها، وإصدار قرارات تنص على أن لا يدخل محافظتي اللاذقية وطرطوس إلا من يثبت أنه من مواليدهما، أو مالكاً لعقار، أو مستأجراً فيهما، أو عاملاً في إحدى مؤسساتهما، إضافة إلى منع تجديد عقود إيجار المساكن لغير أبناء الطائفة العلوية في مدن الساحل وقراه الخاضعة لسيطرته.

وتتزامن عمليات الحشد الطائفي والعزل المناطقي في الساحل السوري مع جهود يبذلها النظام لفرض حدود شرقية للإقليم العلوي المفترض، حيث تم تهجير سكان القرى السنية بريف حماة الشمالي والغربي وسهل الغاب؛ ففي حين حافظت القرى التي يقطن بها إسماعيليون وعلويون ومسيحيون (سلحب والرعيدي واللقبة والمحروسة) على تركيبتها الديمغرافية قامت قوات النظام بتدمير مساكن السنة في القرى المخلطة وتهجير قاطنيها قسراً وخاصة في الصفصافية وعمورين.

وتزامنت هذه الإجراءات مع قيام النظام بتحصين التلال الاستراتيجية شمال وشرقي نهر العاصي، ووضع المتاريس ونقاط التفتيش حولها وتلغيم محيطها، كما تم توثيق إجراءات شبيهة قام بها النظام في ريف حمص وهو ما عزز فرضية توجه النظام نحو رسم حدود المناطق العلوية وتأمينها تمهيداً لعملية تقسيم محتمل.

2- الاستقلال الذاتي للأكراد في الشمال:

بالتزامن مع عمليات التهجير القسري التي مارستها قوات النظام في ريف حماة؛ قامت وحدات حماية الشعب الكردية (المرتبطة بحزب العمال الكردستاني) بعمليات تطهير عرقي شمال شرقي سوريا ضد 23 ألفاً من السكان العرب، حيث أكدت جمعيات حقوق الإنسان قيام الميلشيات الكردية بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف العرب السنة، والاستيلاء على أملاكهم وتدمير منازلهم في قرى عدة واقعة بريف جبل عبد العزيز مثل قرى: الضبيب والصليل والعلقانة وأم حجرة وأبو فخيذ والقرن والبديع، بينما أُفرغت منازل قرية تل الجنب والصارلي من محتوياتها.

وتشير المصادر إلى أن عمليات التدمير والتهجير الممنهج تأتي ضمن خطة تنفذها وحدات حماية الشعب لربط ثلاثة جيوب كردية بعضها مع بعضها الآخر في دويلة «روجوفا»، وتشمل: عين العرب وتل أبيض ومدينة عفرين، وذكرت صحيفة «تلغراف» البريطانية أن رئيس ما يسمى «المجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة» أكرم حسو يتصرف وكأنه رئيس دولة، فهو: «يتحدث عن سياسات اقتصادية وضرائب على التصدير، وعن جنود يحرسون الحدود، ويتعهد بفرض النظام والقانون وتوفير الأمن لأبناء دويلته»، ويقوم حسو باقتطاع الضريبة عن الشاحنات والمنتجات التي تنتظر المرور عبر الفرات في طريقها إلى إقليم كردستان.

وأشار موقع بلومبيرغ (23 يونيو 2015) إلى أن الأكراد هم الكاسب الأكبر من أحداث المنطقة؛ فبعد تحقيق حلم الحكم الذاتي في كردستان العراق؛ يعمل أكراد سورية على فرض إقليم كردي شمال البلاد، ويحظون في سبيل ذلك بإسناد جوي أمريكي وتمويل أوروبي بغض النظر عن الانتهاكات التي يرتكبونها وعمليات التغيير الجغرافي المتمثلة في إزالة الحواجز التي كانت تفصل إقليم الجزيرة شرق سورية عن إقليمي عفرين وعين العرب في شمالها.

3- ترسيخ الخصوصية الطائفية للدروز في الجنوب:

في ظل انهيار حاميات النظام في محافظتي القنيطرة وحوران وانسحاب قواته من السويداء؛ تسربت أنباء صفقة أبرمها زعيم هيئة جديدة تطلق على نفسها اسم «المجلس العسكري للدروز في سورية» في العاصمة الأردنية تقضي بحماية دروز سورية من أي اعتداء مقابل وقوفهم على الحياد.

وأكد موقع «ديبكا» اليهودي (20 يونيو 2015) أن الحكومة الإسرائيلية تنسق مع غرفة القيادة المشتركة في الأردن عمليات تأمين الدروز ومنع وقوع أية تجاوزات ضدهم من قبل المعارضة أو النظام، خاصة أن العديد من الدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي قد لوحوا بإمكانية عبور الحدود باتجاه السويداء وحمل السلاح دفاعاً عن أبناء طائفتهم في الجبل إذا تعرضوا للخطر من قبل تنظيم «داعش».

ويشعر نتنياهو بالقلق من الانقسام الحاصل في صفوف دروز السويداء إزاء العرض الذي تقدمت به طهران و»حزب الله» لدعمهم في تشكيل قوة درزية لمواجهة كتائب المعارضة، حيث تخشى تل أبيب من احتمال تعزيز قبضة إيران على المنطقة الواقعة جنوب البلاد إذا وافق وجهاء الدروز على هذا العرض.

ورأى تقرير نشره تشاتام هاوس (22 يونيو 2015) أن الدروز هم الأقلية الوحيدة التي تمكنت من توظيف الأحداث لصالحها في أتون الصراع السوري؛ حيث تمكنوا من حمل النظام على إعفاء أبنائهم من الخدمة العسكرية خارج حدود محافظة السويداء، ونجحوا كذلك في إبعاد فصائل المعارضة عن مناطقهم عبر دبلوماسية إقليمية أثارت تساؤلات ملحة حول الدور الذي مارسه دروز لبنان وإسرائيل لتأمين دروز سورية وتوفير متطلباتهم الأمنية، ومدى تأثير ذلك على الهوية الوطنية وموقف الطوائف منها في هذه المرحلة العصيبة من إعادة التشكل البنيوي للقطر السوري.

ثانياً: سيناريوهات التقسيم المناطقي:

في مقابل الاستحضار المكثف لنماذج التقسيم الطائفي في التاريخ الحديث؛ تظهر جدليات مغايرة تتناول خططاً للتجزئة على أسس جغرافية تراعي مصالح القوى الإقليمية ودول الجوار؛ حيث تتحدث مصادر عسكرية عن سيناريو تقاسم إقليمي تستحوذ فيه إيران وميلشياتها على «سورية المفيدة» (وتشمل محافظات دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس) في حين تسيطر الأردن وتركيا على المعابر الحدودية والمحافظات المتاخمة لها، وتأتي هذه التطورات بالتزامن مع انسحاب منظم ينفذه النظام بهدف تقليص نقاط الاشتباك مع المعارضة من 400 إلى 250 نقطة يقع معظمها في دمشق والقلمون وحمص وريف حماة والريف الغربي لمدينة جسر الشغور، وتسهيل سيطرة «داعش» على المناطق التي يتم إخلاؤها.

وفي ظل اضمحلال فرص التوصل إلى تسوية سياسية بين المعارضة والنظام؛ يسفر المشهد القتالي عن توافقات إقليمية على تحديد مناطق النفوذ بين «أصدقاء النظام» و»أصدقاء الشعب السوري» على أساس منع تقدم المعارضة في ريف دمشق وريفي حماة وجسر الشغور الغربي وصولاً إلى الساحل، وإشغال المعارضة في المناطق الخاضعة لها بخوض معارك مع تنظيم «داعش» وهو ما يسهم في استنزافها.

ووفق معادلة التقسيم المناطقي هذه؛ يمكن الحديث عن تشكل ستة قطاعات على النحو التالي:

1- «سوريا المفيدة» التي تتمتع بدعم إيراني ورعاية روسية وتشمل دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.

2- المحافظات الجنوبية تحت سيطرة ائتلاف من الفصائل تدعمها غرفة العمليات المشتركة بالأردن.

3- محيط العاصمة دمشق تحت سيطرة عدد من الفصائل أبرزها جيش الإسلام.

4- المنطقة الشرقية التي تشكل نحو ثلثي سوريا وتخضع لسيطرة تنظيم «داعش».

 5- شمال وشمال شرق البلاد تحت سيطرة حكم ذاتي كردي مدعوم بإسناد جوي أمريكي وتمويل أوروبي.

6- شمال غربي سوريا الذي يخضع لائتلاف فصائل تحت مظلة «جيش الفتح» برعاية تركية - قطرية.

وتدخل عناصر «حزب الله» وفيلق القدس والميلشيات العراقية والإيرانية بوصفهم عناصر ترجيح كلما عانى النظام من الانتكاسات العسكرية والنقص العددي، وهو ما يجعل الكيان الجمهوري ضحية تقاسم مناطقي بين القوى الإقليمية المتنافسة بدلاً من الحديث عن خطة تقسيم إثني - طائفي.

وتقوم صيغة التقسيم المناطقي هذه على أساس: «الاحتفاظ بالوضع القائم» ومنع أي محاولة للترجيح بين أطراف الصراع، والإمساك بخيوط اللعبة عبر التحكم بالموارد المالية وشحنات الأسلحة، ريثما يتم التوافق بين القوى الإقليمية المتنافسة على حل نهائي.

وكان معهد دراسات الشرق الأوسط قد نشر دراسة للباحث الأمريكي دانيال سيور تتناول سبل المحافظة على المصالح الأمريكية في المنطقة من خلال توظيف القوى المتنازعة واستنزافها، مقترحاً الاستمرار في دعم الأكراد لضرب تنظيم الدولة المتطرف شمال شرقي البلاد، وتوظيف الميلشيات المدعومة إيرانياً لوقف امتداد الجماعات «السنية المتطرفة» غربي البلاد، وتنفيذ عمليات قصف جوي لمنع امتداد الأزمة عبر الحدود، مشيراً إلى أن حالة التشظي قد تطول بعض الوقت إذ إنه من غير الممكن جمع هذه المكونات المتناقضة تحت سلطة مركزية في المستقبل القريب.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة للمحافظة على «الأمر الواقع»؛ إلا أن مخاطر الانفلات تتزايد كلما ظهرت ملامح تآكل النظام، فبالإضافة إلى مقتل أبرز القادة الأمنيين والعسكريين خلال الفترة (2011-2015)؛ يأتي علان وفاة اللواء محمد ناصيف معاون نائب رئيس الجمهورية واعتقال ذو الهمة شاليش قائد الأمن الرئاسي وغياب اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني عن المشهد السياسي، مؤذناً بفقدان النظام جيلاً كاملاً من الضباط الذين حافظوا على سيطرة حافظ وابنه بشار على البلاد خلال العقود الخمسة الماضية، وهو التفسير الأقرب لحالة التدهور والانفلات الأمني المتسارع في المدن التابعة للنظام وعلى رأسها مدينة حمص التي شهدت مزيداً من التدهور الأمني وخاصة في حي الزهراء نتيجة اشتباك قوات النظام مع ميلشيات الدفاع الوطني ومقتل عدد من الطرفين، وفي المناطق الخاضعة للنظام بحلب اعتقل الجيش مجموعة من عناصر «اللجان الشعبية» من قرية «منيان» بريف حلب الغربي بعد رفضهم المشاركة في القتال، أما في اللاذقية فقد شهد حي السابع من نيسان الموالي للنظام معارك طاحنة بين عصابتين تتبعان للمتنفذين من آل أسد وآل إسماعيل، وأسفر القتال عن وقوع قتلى من الطرفين.

ولا شك في أن استمرار تآكل النظام وانتشار الفوضى في صفوف قواته وتراجعها من المدن السورية سيعود على سياسة «المحافظة على الوضع القائم» بفشل ذريع، وهو ما يجعل فرص تقسيم البلاد على أسس إثنية أو طائفية أو مناطقية أمراً بعيد المنال.

ثالثاً: عوائق تنفيذ مشاريع التقسيم الطائفي والإثني والمناطقي:

يدعونا ذلك إلى تأكيد أن الحالة المجتمعية السورية والتوزيع الديمغرافي للسكان تشكل عقبات لا يمكن معها فرض أي صيغة تقسيمية حتى وإن توافقت القوى الإقليمية والدولية على تطبيق إحدى سيناريوهاتها. ويمكن اختصار أبرز عوائق مشاريع التقسيم والتجزئة فيما يلي:

1- فشل التجربة التاريخية:

بذلت سلطة الانتداب الفرنسي (1920-1946) جهوداً مضنية لتأصيل فكرة الكانتونات الطائفية وفرضها بالقوة العسكرية، إلا أن مشروعها قد مني بفشل ذريع، حيث واجه المشروع ثورة شعبية عارمة (1925-1927) ومصاعب اقتصادية تمثلت في استحالة الاستمرار في فرض خمسة أجهزة حكم متكاملة من مسؤولين وموظفين وعسكريين لإدارة البنى التحتية والخدمات البلدية والصحية والبريدية في كل دولة من هذه الدويلات، وهو ما دفع الفرنسيين للتخلي عن هذا المشروع بالكامل عندما تبين لهم أن نفقات هذه الدول قد بلغت حداً لا تحتمله وارداتها.

2- التحديات الديموغرافية:

بخلاف الدول الأوروبية التي قامت على أسس قومية؛ فإن دول الشرق قد قامت على أسس تعددية، ولا سيما في المجتمع السوري الذي تختلط فيه سائر المكونات السكانية في المدن الرئيسة بصورة تجعل عملية الفرز الإثني أو الطائفي شبه مستحيلة، ولا تمتلك مناطق تجمع الأقليات فرصة تأسيس دويلة مستقلة أو إقليم حكم مستقل من حيث الموارد، وفي حين يشكل العرب السنة 75 بالمائة من مجموع السكان البلاد ويمثلون الأغلبية المطلقة في سائر المحافظات (باستثناء جبل العرب) فإن عملية تطبيق المحاصصة أو الترويكا ستشكل خسارة فادحة لمجموعات سكانية لا تتجاوز نسبتها واحد بالمائة من مجموع السكان.

3- غياب القيادة التقليدية والمرجعية الدينية:

بخلاف وضع المجموعات الإثنية والطائفية في لبنان والعراق؛ لا تمتلك الأقليات السورية أية زعامة قبلية أو مرجعية سياسية معتبرة داخل القطر السوري، وخاصة لدى الطائفية العلوية التي عمد نظام آل الأسد إلى استنزافها سكانياً وتحييد نخبها العشائرية عبر أدوات التطهير والقمع، وفي المقابل تتركز القيادات التاريخية للدروز والأكراد خارج حدود سورية؛ وهو ما يرهن أية مشروع تشكل بنيوي بقيادات غير سورية ويربط فكرة الحكم الذاتي بمرجعيات عابرة للحدود، ولا يمكن تبني مشروع تقسيم طائفي دون إعادة رسم خريطة للمنطقة في ظل انتشار الميلشيات الطائفية العابرة للحدود وهو ما يجعل حلم الحكم الذاتي للطوائف والإثنيات داخل حدود الدولة حلماً بعيد المنال.

4- ضعف الحاضنة الشعبية:

 بخلاف فرضية تمتع الأقليات بمكانة مرموقة في حكم البعث؛ تؤكد الحقائق التاريخية أن الخسائر التي تكبدتها هذه المجموعات لا تقل عن معاناة الأغلبية السنية؛ ففي سبيل توطيد سلطته شن نظام البعث حملة تصفيات جماعية استهدفت القيادات المدنية والعسكرية: السنية، والدرزية، والإسماعيلية في الفترة 1966-1969، وأعقبتها مرحلة من التصفيات العشائرية داخل الطائفة العلوية استُبعدت فيها عشائر الحدادين والخياطين وركزت السلطة بيد ضباط من عشيرة المتاورة والذين قضى أغلبهم نحبه في السنوات الأربع الماضية، وقد نتج عن استخدام النظام أبناء الطائفية العلوية في مواجهة الثورة وقوع أكبر مقتلة في تاريخ الطائفة، وهو ما أحدث خللاً سكانياً في المناطق العلوية التي أفرغت من أبنائها، في حين تم تعويض النقص العددي للفرق الطائفية بمرتزقة عراقيين ولبنانيين وأفغان وغيرهم من العناصر المأجورة التي لا يمكن الاعتماد عليها لتشكيل دويلة على المدى المتوسط أو البعيد.

5- مقاومة النخب السياسية:

يشتكي بعض الدراسات الغربية من عدم أهلية النخب السياسية السورية لتقبل أفكار التجزئة أو مناطق الحكم الذاتي، فعلى الرغم من تباين أفكارها واختلاف منطلقاتها؛ إلا أن مختلف القوى الشعبية والسياسية والعسكرية ترفض هذه الأطروحات وتدعو إلى استعادة الدولة وصيانة مؤسساتها، وباستثناء بعض المجموعات الكردية المتطرفة والمصنفة على قوائم الإرهاب الأمريكية؛ فإنه لا يوجد حراك انفصالي منظم أو حركات فئوية تستجيب لهذه المشاريع.

6- المعارضة الإقليمية:

 تشكل مشاريع التقسيم والتجزئة تهديداً لأمن دول الجوار قاطبة، وخاصة لدى تركيا التي تحشد قواتها لمنع قيام دويلة كردية، والأردن التي تعزز وجودها العسكري لمنع انسياب الأزمة السورية عبر الحدود معها، ولا تجد مشاريع التجزئة أي تعاطف إقليمي وخاصة في دول مجلس التعاون التي لا تزال تعاني من الإفرازات الطائفية والتكفيرية التي أنتجها مشروع المحاصصة الأمريكي في العراق.

7- عدم توفر الإرادة الخارجية والقوة العسكرية:

على غرار الحملة الفرنسية لفرض الانتداب وتطبيق مشروع الكانتونات الطائفية عام 1920؛ تتطلب مشاريع التجزئة المعاصرة تدخلاً عسكرياً مباشراً لفرض التجزئة أو تطبيق الحكم الذاتي في الأقاليم، وهو أمر غير متوقع من حيث توفر القدرة أو الإرادة الخارجية، بل إن مسار الثورة يتجه نحو تهاوي المشروع الطائفي الإيراني والميلشيات الفئوية التابعة له لصالح القوى الوطنية التي باتت قادرة على تشكيل التحالفات العسكرية والائتلافات السياسية والتنسيق مع القوى الإقليمية لمنع تفكك الكيان الجمهوري أو انسياب الأزمة عبر الحدود.

وبناء على هذه المعطيات يمكن القول إن محاولة البحث عن حلول للأزمة السورية عبر مشاريع التقسيم المجتمعي أو المناطقي أمر عبثي لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع أو إقناع الفئات المجتمعية والقوى السياسية الفاعلة ودول الجوار بجدواه؛ وهو ما يدفعنا لتقصي سبل حسم الصراع وفق معادلة ثالثة تصون وحدة البلاد وتحقق مصلحة المواطن السوري وتستجيب لمتطلبات الأمن الإقليمي على حد سواء.

رابعاً: استعادة الإرادة الوطنية بين رومانسية التاريخ وتراجيدية الأمر الواقع:

ولتحقيق تصور واقعي لمعالجة الأزمة السورية، لا بد أن تنطلق المعادلة البديلة عن التقسيم الطائفي أو المناطقي من تحرير المنظومة المصطلحية لمشاريع التقسيم وتفكيك آليات التعامل معها، حيث يقع الخلط لدى النخب السورية بين آليات تطبيق: «اللامركزية»، وأبعاد النظم «الفيدرالية» و»الكونفيدرالية»، ومخاطر فرض أقاليم «الحكم الذاتي»، وتحديات تحقيق التمثيل الشعبي وفق «محاصصات» إثنية وطائفية أو عبر تطبيقات «الترويكا»، فضلاً عن محاولات حسم الصراع من خلال مشاريع «التجزئة داخل الحدود» أو إعادة رسم خريطة المنطقة.

ويأتي الارتباك في استيعاب هذه المفاهيم نتيجة ضعف الخبرة النظمية لدى النخب السياسية وعدم التمييز بين أجهزة «الإدارة» ومؤسسات «الحكم»، وسعي القوى الطارئة إلى الاستئثار بمكاسب السلطة بوصفها «غنائم» يتم توزيعها على الحلفاء، بدلاً من السعي لتأسيس كيان جامع يحقق المصلحة العامة دون تمييز.

وبناء على ذلك؛ فإنه يتعين التعامل مع البنية النظمية البديلة للكيان السوري بوصفها مشروع تشكّل حضاري يحفظ للثورة الشعبية منجزاتها ويستوعب التعددية المجتمعية في منظومة تواجه أطروحات استكمال المشروع الفرنسي - البريطاني بتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية في مطلع القرن العشرين.

الجدير بالذكر أن هذه المشاريع التفتيتية تتغذى من ثلاثة عوامل هي: ضعف السلطة المركزية، والتدخل الخارجي، ونزوع الأقاليم إلى تشكيل أجهزة إدارة مستقلة لمعالجة المشكلات الأمنية والاقتصادية والمجتمعية الناتجة عن غياب الدولة واضمحلالها.

وفي هذه الحالة تتمثل الخسارة الأكبر في فقدان الهوية الجامعة نتيجة لاستيقاظ العصبويات الهامشية وسعي القوى المجتمعية الطارئة للبحث عن دوائر الأمان متمثلة في: المنطقة، والطائفة، والعشيرة، وهي صيغ بدائية لم تحقق الاستقرار للعراق ولبنان في ظل مشاريع التقسيم الأمريكية والفرنسية.

وإذا استبعدنا إمكانية تطبيق مشاريع التقسيم الطائفية وصعوبة استمرار التجزئة المناطقية على المدى المتوسط أو البعيد؛ فإن التحدي الأكبر للثورة السورية لا يقتصر على إسقاط نظام بشار، بل يتمثل في القدرة على استعادة القرار الوطني عبر: تشكيل منظومة سياسية رشيدة، وتشكيل حراك وحدوي ناضج، وصياغة هوية جامعة، وإنتاج عقد اجتماعي يضبط إيقاع العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع، وتبني نظرية أمنية إقليمية تقوم على مفهوم «الأمن التعاوني»، بعيداً عن الانجرار وراء العواطف والانسياق خلف الشعارات.

ولعل الصيغة الأمثل لاستعادة السيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي تكمن في جمع العوامل المشتركة لدى أكبر عدد من المجموعات السكانية فيما يحقق المصلحة العامة ويجلب الأمن والاستقرار للدولة ولجيرانها.

ويكمن أكبر مهدد لتحقيق الوحدة الوطنية في ركون بعض الفئات السياسية إلى قبض الأموال السخية من الممولين الدوليين نظير تعهدات وهمية بإمكان تهميش فئات أخرى من المعارضة أو ضمان تحقيق مصلحة قوة إقليمية فاعلة دون غيرها، ولا شك في أن هذا السلوك الاستجدائي المعيب قد أفقد التمثيل السياسي للثورة هيبته وفوت على القوى السياسية فرص التشكل البنيوي الناضج وصياغة هوية سياسية جامعة يمكن الركون إليها لتحقيق الوحدة الوطنية.

وبدلاً من الانشغال بالصراعات الهامشية والاستسلام لمشاريع التقسيم؛ يتعين على النخب السياسية الاستفادة من اضمحلال السلطة الشمولية لتفعيل دور القوى المجتمعية باختلاف اتجاهاتها لإنشاء بدائل مؤسسية تتناسب مع المتغيرات المجتمعية وتعدد الفرقاء، وعدم الركون إلى مفاهيم «القوة» الرديفة المتمثلة في الدعم الخارجي، والاهتمام بالعناصر الأكثر حسماً في المرحلة القادمة وهي: الحنكة السياسية والرصيد الشعبي.

:: مجلة البيان العدد  339 ذو القعدة  1436هـ، أغسطس  - سبتمبر  2015م.

::  "البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية


[1]   Henry Kissinger characterizes Syrian war as «ethnic and sectarian conflict, discusses other foreign policy issues at Gerald Ford centennial event , http://www.fordschool.umich.edu/news/?news_id=1111  (Monday, July 1, 2013).

 [2]  يمكن الاطلاع على عدد من الأبحاث التي نشرتها مراكز البحث الغربية حول آليات التقسيم، منها: دراسة الباحث في جامعة هارفرد «روجر أوين» التي رأى فيها ضرورة العمل على تحقيق الاستقرار في سورية عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق مفهوم: «التجزئة ضمن الحدود» كما هو الحال في العراق، وفي دراسة موازية رأى «أرنولد ألرت» أن الصورة الأنسب لضمان استقرار سورية تكمن في تأسيس نظام «ترويكا» تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، وكذلك بحث «غبريال شينمان» الذي أشار إلى أن الحل في سوريا يكمن في إعادة رسم خريطة الجمهورية فيما يتناسب مع طموحات الأقليات الكردية والمسيحية والدرزية والعلوية، مستشهداً بمبادئ ولسون الأربعة عشر التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وتناغمت صحيفة هآرتز العبرية مع هذا الطرح، حيث اقترح رئيس تحريرها «ألوف بن» صياغة خريطة سورية جديدة تراعي حقوق الأقليات وتؤسس كيانات سياسية لها وهو ما يسهم في كسر العزلة المفروضة على «إسرائيل» ويعزز فرص تواصلها مع شعوب المنطقة.

أعلى