تأملات في سورة الرعد
العجیب في أمر طائفة من الناس - وهم كثر - أنهم لا يعتبرون بالآيات، ولا تؤثر فیهم الدلائل الواضحات، سواء كانت دلائل معتادة ألفتها عیونهم، كرفع السماء بلا عمد، وجریان الشمس ودوران القمر، وما في الأرض من جبال رواس وأودية، وأنهار جارية، وبحار، وغیر ذلك مما لا یخفى على بشر، أو كانت دلائل مخیفة تبعث على الرهبة والرعب، كالرعد والبرق والصواعق، ومع هذا تجد هذه الطائفة من الخلق یجادلون في الله؛ فیكفرون بربوبيته، ويجحدون ألوهيته، ویجعلون له شركاء، وينكرون البعث والحساب وتلك آفتهم وجریمتهم..
قال تعالى: {وَإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: ٥]. وهؤلاء قد دفعهم جهلهم وغباؤهم إلى استعجال العقوبات؛ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْـحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْـمَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: ٦]؛ قال القرطبي: (قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْـحَسَنَةِ} أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب، قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية، وقيل: {قَبْلَ الْـحَسَنَةِ} أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. و {الْـمَثُلاتُ} العقوبات، الواحدة مثلة)؛ فهؤلاء قد جمعوا بين الكفر بالله وإنكار البعث؛ وسوء الخلق والإفساد فى الأرض؛ ففي وصفهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
ولا شك في أن هذه الطائفة ليست كالطائفة الأخرى المقابلة؛ أي: المستجیبة لربها، المقرة بتوحیده، المتصفة بصفات أهل الإیمان وحملة لواء التوحید؛ وفي وصفهم قال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْـمِيثَاقَ صلى الله عليه وسلم٠٢^صلى الله عليه وسلم) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْـحِسَابِ 21 وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْـحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 20 - ٢٢]، ولكل من الطائفتين دار وجزاء..
وقد ذكرت السورة جزاء وحال كل من الطائفتين كما في قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْـحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْـحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ} [الرعد: 18].
وقوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْـحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19].
تحدثت السورة عن بعض سنن الله في الكون وفي الخلق؛ وبيان ذلك فيما يلي:
السنة الأولى: سنة التغییر أو قانون الرقي والانحطاط: قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: ١١]: (وأساس هذه السنة أن التغییر منوط بالنفس ومدى التزامها وتمسكها بالأخلاق؛ فإذا تخلى الناس عن الأخلاق السيئة، وتمسكوا بالأخلاق العالیة والتزموا بها في أنفسهم كان العلو والرقي الحضاري، وكانت القیادة للأمة التي یتمسك أفرادها ونظامها بالأخلاق الأساسیة وأولها العدل، ومراعاة شؤون الخلق وتحقيق أمنهم ومصالحهم، ویعني ذلك أن التغییر والإصلاح لا بد أن یبدأ من الداخل؛ أي التغییر الداخلي؛ أي ما بالنفس وما بالمجتمع من أخلاق السوء؛ كالتفرق والتحاسد والتباغض، لتسود أخلاق التراحم والتحاب والتواد، ويعود الإخاء والتماسك والتوحد؛ عند ذلك ترقى الأمة وتكون لها الريادة والقيادة، أو تعود لها بعد ما سلبت منها!!..؛ وأما إذا ساد أصحاب النفوس المريضة، وعمت الأخلاق السیئة ورضي الناس بها، وفشا الظلم، وانتهكت المحرمات، وتواطأ الجميع على المنكرات؛ كان الانحطاط والسقوط الحضاري، وتحولت النعم إلى نقم؛ والأمن إلى خوف، والقوة إلى ضعف؛ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]».
السنة الثانیة: سنة البقاء للأنفع: فما كان فیه إفساد وإضرار بالناس، ويعوق سير الحياة ويتصادم مع الفطرة وقوانين الحياة؛ فإنه يتهاوى ويتلاشى، وما كان فيه نفع للبشریة ويتفق مع قوانين الحياة؛ فإنه يبقى ويدوم بل يسود بغض النظر عن الكفر والإیمان؛ قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْـحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، وفحوى هذه السنة أن الباطل قد یعلو أحیاناً ویظهر على الحق بل یطمسه لكن إلى حین، فالباطل هنا كالزبد یعلوا ویطفو- مؤقتاً - على سطح السیل الجارف، أو كالزبد الذي یطفو ویعلو على سطح المعدن المنصهر بالنار لتصفیته وتنقيته من العلائق والشوائب؛ وفي المثل الأول فإن ما ينفع وهو الماء يبقى ويمكث، وفي المثل الثاني فإن الذي يبقى ويمكث هو المعدن الصافى؛ وهما المثلان اللذان ضربهما الله تعالى:
المثل الأول: المثل المائي: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا}.
المثل الثاني: المثل الناري: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ}.. والمثلان في الباطل حینما یعلو حيناً، والحق حینما یخفت صوته حيناً؛ {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْـحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}؛ فالزبد لا نفع فیه؛ كالأنظمة المستبدة الظالمة، وكالحضارة المادیة الغربیة الداجلة الزائفة، فإنها لن تدوم طویلاً وهي آیلة إلى السقوط والانهیار، لأنها تصادمت مع الفطرة وقوانين الحياة، وقواعد العدل والإنصاف، كما قامت على تقدیس الشهوات وحب الذات ونهب الثروات، وعلى العلم المادي المتجرد من قيم الإنسانية، وعلى السياسة النفعية «البراجماتية» التي تحقق المطامع والنزوات على حساب المبادئ والقيم إن وجدت؛ حضارة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة بالفقیر ولا بالضعیف، وقد اختل عندها میزان العدل والعقل؛ فالمفكر - عندهم - كالسفیه في الرأي سواء وتلك «دیموقراطیتهم»، والغني - عندهم - یسحق الفقیر، وتلك حریتهم و «لیبرالیتهم» المتوحشة، ولا مكان للدین ولا أثر له فى الحیاة؛ وتلك «علمانیتهم» غير الدینیة، وقیمهم لا بد أن تسود بالقوة والقهر، ویتوحد الاقتصاد والفكر والثقافة فیما یسمونه بالنظام العالمي الجدید.. أو «العولمة» التي تقوم على الانتهازیة والخطف، فالبقاء عندهم للأسرع خطفاً أو للأكثر انتهازیة، أو لأصحاب الأنياب القوية؛ فقد جمعوا بین الكفر بنعم الله وظلم الضعفاء! وهما – معاً – من عوامل السقوط؛ ذلك لأن الله تعالى لا يعاقب على كفر الألوهية أو الربوبية فى الدنيا، وإنما يعاقب على كفر النعم وعلى الظلم وعلى الإفساد فى الأرض؛ لأن تلك الأفعال تعوق سير الحياة، وتعطل مصالح الخلق؛ ففي كفران النعم قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وفي الظلم؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، وفي الإفساد؛ قال تعالى في عقوبة بني إسرائيل لما أفسدوا فى الأرض مرتين: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨].
السنة الثالثة: سنة تغيير الأقدار بالأعمال الصالحة أو الفاسدة قال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]: أي العلاقة بين قوانين القدر الكوني والقدر الشرعي؛ فإذا خضع الناس لقوانين الله الشرعية أخضع الله لهم القوانين الكونية؛ فالاستغفار - مثلاً - جعله الله سبباً لنزول المطر والمدد من الله؛ كما في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا 10 يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا 11 وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]، كما أن الإيمان بالله والتقوى جعلهما الله سبباً لمجيء البركات من السماء والأرض؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، وهناك من الأعمال الفاسدة ما يجلب المصائب والبلايا؛ قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15 - 17].. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد البلاء إلا الدعاء، وأن بعض الأعمال الصالحة كصلة الرحم وتقوى الله عز وجل تطيل العمر وتباركه، كما أن بعض المعاصي تجلب الغضب وتمنع الرزق؛ وفي تفسير قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]؛ یقول ابن كثیر: (إن الأقدار ینسخ الله ما یشاء منها، ویثبت منها ما یشاء، ویستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد من حدیث ثوبان؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لیحرم الرزق بالذنب یصیبه، ولا یرد القدر إلا الدعاء، ولا یزید في العمر إلا البر). وفي صحیح مسلم من حدیث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن یبسط علیه رزقه أو ینسأ له في أثره فلیصل رحمه) (برقم 2557)، ویقول القرطبي- بعد ما ذكر أقوالاً؛ منها: أنها في الناسخ والمنسوخ؛ أي یبدل الله من القرآن ما یشاء فینسخه، ویثبت ما یشاء فلا یبدله.. وقیل: یغفر ما یشاء من الذنوب، ویترك ما یشاء فلا یغفره. وقیل یمحو ما یشاء من دیوان الحفظة ما لیس فیه ثواب ولا عقاب، ویثبت ما فیه ثواب وعقاب -.. قال: “یروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان یطوف بالبیت وهو یبكي ویقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فیها وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فیهم وإن كنت كتبتني في الأشقیاء فامحني من الأشقیاء واكتبني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.. قیل لابن عباس لما روى الحدیث الصحیح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن یمد الله في عمره وأجله ویبسط له في رزقه فلیتق الله ولیصل رحمه»؛ فإن قیل: كیف یزداد في العمر والأجل؟ قال: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: ٢]، فالأجل الأول أجل العبد من حین ولادته إلى حین موته، والأجل الثاني - یعني المسمى عنده - من حین وفاته إلى یوم یلقاه في البرزخ لا یعلمه إلا الله فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنیا ما شاء فیزیده في أجل البرزخ فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزیادة والنقصان لقوله تعالى {إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]، فتوافق الخبر والآیة وهذه زیادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ في اختیار حبر الأمة والله أعلم، وقال مجاهد: (یحكم الله أمر السنة في رمضان فیمحو ما یشاء ویثبت ما یشاء إلا الحیاة والموت والشقاء والسعادة)..، ولابن القیم رحمه الله تعالى كلام نفیس فى مسألة القدر أثبته هنا لفائدته وأهمیته؛ في كتابه القيم «مدارج السالكین»؛ الصواب فى المسألة: دفع القدر بالقدر؛ فیقول: (وراكب هذا البحر فى سفینة الأمر، وظیفته مصادمة أمواج القدر، ومعارضتها بعضها ببعض، وإلا هلك؛ فیرد القدر بالقدر.. ولا تتم مصالح العباد فى معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض فكیف في معادهم؟ والله تعالى أمر أن تدفع السیئة - وهي من قدره – بالحسنة - وهى من قدره -، وكذلك الجوع من قدره؛ وأمر بدفعه بالأكل الذي هو من قدره، ولو استسلم العبد لقدر الجوع مع قدرته على دفعه بقدر الأكل حتى مات؛ مات عاصیاً.. وقد أفصح النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى كل الإفصاح؛ إذ قالوا: یا رسول الله، أرأیت أدویة نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقي بها؛ هل ترد من قدر الله شیئاً؟ قال:” هي من قدر الله”) الحدیث صححه الترمذي برقم (2065).. وإذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام طرقوه بقدر الله.. أفیحل للمسلمین الاستسلام للقدر، وترك دفعه بقدر مثله وهو الجهاد الذي یدفعون به قدر الله بقدره.. وكذلك إذا قدرت علیك المعصیة، وفعلتها بالقدر؛ فادفع موجبها بالتوبة النصوح؛ وهي من القدر.. (1/179) المكتب الثقافي للنشر والتوزیع.
:: مجلة البيان العدد 339 ذو القعدة 1436هـ، أغسطس - سبتمبر 2015م.