الصهيانة يتجهون نحو تهدئة مع حماس في غزة
ما زال وقف إطلاق النار بين حماس والكيان الصهيوني منذ أواخر أغسطس 2014م، يحافظ
على استقرار نسبي، بعد انتهاء حرب الـ50 يومًا على غزة، ولم تسجل خروقات كبيرة بين
الجانبين، باستثناء حوادث نادرة كان آخرها يوم 27 مايو الماضي، حيث تبادل
الفلسطينيون والصهاينة إلقاء عدة صواريخ، بسبب خلافات بعض المجموعات المسلحة مع
حماس، دون أن تسفر هذه الصواريخ عن إصابات في أي من الجانبين.
وتستبعد الأوساط الصهيونية، لاسيما العسكرية منها، أن يشن الجيش حربًا جديدة على
غزة بسبب إقدام بعض المجموعات الصغيرة على إطلاق عدة قذائف صاروخية، لأنه لا يمكن
للجيش كسر قواعد اللعبة مع حماس، وخوض حرب أخرى في قطاع غزة.
فحماس، من وجهة النظر الصهيونية، تبذل جهودًا كبيرة من أجل بسط الاستقرار في غزة،
برغم أن الكيان الصهيوني لا يزال يعتبر حماس المسؤولة عن استتباب الهدوء، وضبط
الأمن في القطاع، وفي الوقت نفسه يقوم الجيش بتحسين أداء المنظومات الدفاعية بغية
التصدي لإطلاق النار، والتهديد الناجم عن الأنفاق والتسلل.
الكيان الصهيوني يعلم جيدًا، لاسيما قيادة الجيش والمخابرات، أن هدف إطلاق الصواريخ
الأخيرة من قطاع غزة هو إشعال النار بين تل أبيب وحماس، وأن الأفراد الذين يطلقون
هذه الصواريخ يتوقعون، ويرغبون، أن يقوم الكيان الصهيوني بمهاجمة حماس، لينفذ بذلك
ما يطمحون إليه، بحيث يبدو الوضع معقدًا.
تعقيد الوضع في غزة، يتلخص في أن الكيان الصهيوني يريد بقاء حماس تنظيمًا ضعيفًا
غير متضخم، لكنه من جهة أخرى يريدها قوية بما يكفي كي تحافظ على الهدوء في غزة،
لمصلحة مشتركة، وهذا ما لا يعيب الحركة، التي تتفقد حاجيات الفلسطينيين، وتلملم
جراحاتهم، وتضمد أوجاعهم.
المثير أنه في ظل هذه الرغبة العسكرية الصهيونية في الهدوء وتثبيت وقف إطلاق النار،
فإن هناك أكثر من 82% من الصهاينة يتوقعون نشوب جولة جديدة من القتال مع الفصائل في
قطاع غزة، بالتزامن مع بعض الدعوات المتناثرة هنا وهناك بشن حرب جديدة على قطاع غزة
الصيف المقبل، لأن قوة حماس تزداد، وتقوم بإعادة بناء البنى التحتية، والأنفاق
الهجومية، دون أن يمنعها أحد من ذلك.
لكن هذه الدعوات الصهيونية، على قلتها، تتجاهل اعتراف عدد من القادة العسكريين
الصهاينة أن جيشهم تلقى دروسًا قاسيةً في معركته في غزة صيف العام الماضي، وينظر
لنتائج الحرب الأخيرة على أنها درس كان على الجيش تعلمه سلفًا، لأنه لم يكن مستعدًا
للتأقلم مع تهديد الأنفاق.
على كل الأحوال، يرى الكيان الصهيوني في الصواريخ التي تطلق عليه من غزة أنها لا
تأتي في الغالب في إطار إستراتيجية حماس والفصائل الفلسطينية، وإنما في نطاق
التنفيس عن مشاكل داخلية في غزة، وبرغم استمرار الخطاب الصهيوني المتشدد، إلا أن
الرد على هذه الصواريخ المنطلقة من غزة صار أشد ميلًا لكبح النفس منه إلى التصعيد،
وهذا يعود للرغبة في تجنب صراع مع غزة، لن يخرج الكيان الصهيوني مستفيدًا منه، حتى
لو ألحق بالقطاع أشد الضرر.
الرد الصهيوني على إطلاق الصواريخ من غزة يرمز بشكل كبير للسياسة الجديدة تجاه حماس
التي وصفت بأنها «عناق واحتواء» بدلًا من «المواجهة العسكرية»، ويبدو الكيان
الصهيوني اليوم كأنه الجهة الوحيدة في العالم التي تعمل من أجل الحفاظ على الهدوء
في غزة، ويسمح لمندوبين من عدد من دول العالم بالتوسط بينه وبين حماس، وهو ما يجعل
غالبية القيادة العسكرية والأمنية في وزارة الدفاع يبدون تقديرات بأن الصيف الحالي
لن يشهد مواجهة واسعة، لكن الغارات الصهيونية ستتواصل على مواقع فارغة وأراضٍ
مفتوحة، غايتها إشعار المستوطنين في غلاف غزة بالرد، أكثر من الرد فعلًا.
هذا لا يعني أن هناك بوليصة تأمين متوفرة بعدم تصاعد الرد الصهيوني على ما يسمى
بـ«تنقيط الصواريخ» مؤخرًا، لأنه قد يصبح أمرًا غير محتمل، ولا يهم الصهاينة إن كان
بعض المسلحين في تنازع مع حماس أم لا، لأن حماس في نظرهم هي الجهة المسؤولة، كما
تقول بنفسها، وملزمة بوقف الإطلاقات وفرض الهدوء، والكيان الصهيوني يسعى لتحقيق صفر
إطلاقات، لأن الحركة لم تغير أيديولوجيتها ضد الكيان الصهيوني، ولا هدفها بإزالته.
تجاوز الضربة:
تدور نقاشات داخلية في أوساط حماس، عن تحركات القسام العسكرية الأخيرة التي تهدف
لتسهيل جمع المعلومات الاستخبارية عن مواقع جيش الكيان الصهيوني خلف حدود غزة،
وزيادة منسوب الجرأة على المواجهة لدى مقاتلي حماس، وتسهيل تسيير دوريات لكتائب
القسام على الحدود مقابل الدوريات الصهيونية، وتثبيت ثكنات عسكرية إلكترونية
لمراقبة الحدود.
كما أن تعبيد الطريق الحدودي يهدف لحماية القطاع من أي اختراق صهيوني، وشل حركة
التواصل بين العملاء والمخابرات الصهيونية، وتدريب مقاتلي القسام كوحدات جيوش
نظامية استعدادًا لمعركة تخوضها مستقبلًا كجيش فلسطيني بمواجهة الجيش الصهيوني.
وتناولت النقاشات التي شهدتها حركة حماس أن كتائب عز الدين القسام بهذه التحركات
تسعى لإنهاء واقعي للحزام الأمني الذي يفرضه الجيش الصهيوني شرق غزة، ويمنع
الاقتراب منه على مسافة
300
متر، وتأمين المزارعين الفلسطينيين في أراضيهم، وتسهيل حفر الأنفاق، وحماية مواقع
الحفر من أقرب نقطة للحدود اختصارًا للوقت والجهد.
هذه التحركات العسكرية لم تعلق عليها كتائب القسام رسميًّا، بل التزمت الصمت، فيما
تحدث عنه بعض القادة السياسيين لحماس، بأن الطريق الحدودي لكتائب القسام هو
الانقضاض على الجيش الصهيوني عندما تكون الفرصة مواتية، كما أن التحركات العسكرية
لكتائب القسام تحقق الردع مع الكيان الصهيوني، وترسل رسالة بأن غزة عصية على
احتلالها مجددًا، وأن كتائب القسام عبر حراكها الميداني الأخير تعني جاهزيتها لأي
جولة قادمة مع الكيان الصهيوني.
وأضافت أن التحركات العسكرية الأخيرة لحماس على حدود غزة، تندرج في سياق مفهوم هدنة
طويلة الأمد مع الكيان الصهيوني، ويخدم وجود دولة منفصلة في غزة، لأن هدف الطريق
الحدودي تسهيل مهمة حراسة الهدنة، وباتت حماس في هذه الحالة تأخذ وظيفة الجيش الذي
يحرس الحدود، معتبرة تحويل الشارع الجديد الحدودي ليكون بمثابة خط هدنة، تأكيدًا
لمشروع دويلة غزة.
أخيرًا..
بغض النظر عن طبيعة التحركات العسكرية الأخيرة لحماس على حدود غزة، لكنها ترسخ
فعليًّا لواقع جديد في القطاع، سواء باتجاه تثبيت وجود حماس كقوة عسكرية تعافت من
الضربات الأخيرة خلال حرب غزة في صيف
2014،
في مواجهة الكيان الصهيوني، وهو ما يعني بدء العد التنازلي للمواجهة القادمة، على
اعتبار أن جيش الكيان الصهيوني قد لا يسمح بوجود مقاتلي حماس على بعد مئات الأمتار
أمامه، لأنها رسالة يعد من الصعب عليه استيعابها.
وربما أن هذه التحركات العسكرية لحماس مقدمة لتهدئة طويلة الأمد مع الكيان الصهيوني
في غزة، تحاول حماس من خلالها ضبط الوضع الأمني في القطاع وعلى حدوده، والمحافظة
على حالة من الهدوء والاستقرار الداخلي، في محاولة منها لتسهيل إعادة الإعمار، ورفع
الحصار، ومنح الفلسطينيين فرصة التقاط الأنفاس بعد ثلاث حروب حرقت الأخضر واليابس،
وهي تهدئة تحظى بقبول شعبي فلسطيني كبير.
وفي ضوء هذين الاحتمالين، تشير الأوضاع الميدانية والأمنية في غزة إلى أن حماس
ذاهبة باتجاه ترسيخ التهدئة، وتثبيت الهدوء، برغم بعض الخروقات، وهو ما شهده القطاع
في الأيام الأولى من يونيو الماضي، حين قصف الكيان الصهيوني عددًا من أهداف حماس
ردًا على إطلاق صواريخ بعض المجموعات المسلحة، وحماس من جهتها التزمت الصمت، ولم
ترد، رغبة منها في عدم تصعيد الموقف العسكري.
:: مجلة البيان العدد 338 شوال 1436هـ، يوليو - أغسطس 2015م.