• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التدرج في الدرس التربوي من خلال الخطاب القرآني

التدرج في الدرس التربوي من خلال الخطاب القرآني


التدرج سنة كونية تشمل كل موضوعات حياة الإنسان المادية والمعنوية، لاسيما ما يتعلق بالتدرج في الخطاب؛ ذلك لأن مقتضى المقام ومراعاة أحوال المخاطَب النفسية والفكرية والعقلية كل ذلك يفرض على الخطاب المؤثر أن يلتزم منهجًا في التبليغ يتسم بهذه السمة التي تأخذ شرعيتها من القرآن الكريم، لذلك نجد من أساليب القرآن الكريم في مخاطبة البشر نزوله مفرقًا منجمًا بحسب الأحداث والوقائع، ليتحقق فيه مبدأ السهولة في الأخذ، واليسارة في الامتثال.

ولما كان الخطاب التربوي من جنس الخطاب القرآني، كان من باب اللزوم العقلي أن يتسم هذا الخطاب بما اتسم به الخطاب القرآني من التدرج المنهجي على مستوى البيان الدعوي في مجال التربية والسلوك، ومن هنا كان كشف أغوار هذا الموضوع في غاية الأهمية، لما له من اتصال وثيق بمنظومة التربية التي تعد أساس بناء الفرد والمجتمع في الإسلام.

الخطاب التربوي وعلاقته بمبدأ التدرج:

عندما نقف عند عتبات موضوعات التربية، نستشعر معنى ألصق بها من غيرها، ذلك المعنى هو النمو والزيادة، ولا غرابة في هذا الشعور إذا علمنا أن الأصل اللغوي لهذه المادة يحمل ذلك المعنى، يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: ٥]، «فالتربية هي إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام»[1]، فهي عملية يمكن من خلالها الوصول بالإنسان جسمًا وروحًا إلى أقصى درجات الكمال، وذلك من خلال الكشف عن القوة الكامنة فيه، والعمل على تنميتها وتوجيهها وترقيتها لأقصى درجات الاستفادة منها.

 هذا المعنى يطلعنا على خيوط الربط بين التربية ومبدأ التدرج، ذلك لأن النماء والزيادة متصلان غاية الاتصال بهذا المبدأ، كما أن التربية عملية ذات أشواط مرتبة ترتيبًا منطقيًّا مترابطًا تتصل حلقاته في انسجام بديع وترتيب تصاعدي مقصود، لتشكل في الأخير سلمًا يرقى بالإنسان إلى بناء ذاته بناء متكاملًا على كل المستويات.

وإذا كانت ماهية التربية بهذه الصورة، فإن الخطاب حولها لابد أن ينساق مساقها لينسجم مع رسالتها البنائية، ويتصل بمنهجها في ربط السابق باللاحق، من أجل تشييد بنيان متكامل يؤدي وظيفته، ولذلك كان الخطاب التربوي في القرآن الكريم خطابًا تدريجيًّا يتناسب ومتطلبات منظومة التربية في العصر النبوي وفي كل عصر، فلم يكن من اليسير أن ينقل القرآن الكريم أهل الجزيرة العربية مما هم عليه من انحراف أخلاقي وفوضى إنسانية إلى مجتمع تتكامل فيه أصول التربية الإسلامية الحميدة، ومن هنا كان إعمال منهج التدرج في التشريع التربوي ضرورة منهجية فرضتها الطبيعة الرسالية لهذا الدين، ومراعاة مقتضى حال الطرف الثاني في عملية الإرسال.

سيمات تدرج الخطاب التربوي في القرآن الكريم:

عندنا نتحدث عن الخطاب القرآني في بناء منظومة التربية الإسلامية، فإننا نستدعي بالضرورة الحديث عن آليات الخطاب التربوي في القرآن الكريم، وعن منظومة الأخلاق في الإسلام عمومًا، وغيرها من المواضيع المتصلة بأصول التربية الإسلامية في الوحي، لكننا في هذا السياق نهدف إلى تسليط الضوء على منهج التدرج في الخطاب التربوي القرآني، لنستدعي أهم الوسائل التي شكلت هذا المنهج في القرآن الكريم، وجعلته ضرورة تربوية في حد ذاته.

1 - القرآن المكي والمنظومة التربوية:

ارتبطت المنظومة التربوية ارتباطًا وثيقًا بالمنهج القرآني في التشريع، وإذا كان القرآن الكريم قد راعى عامل الزمان والمكان والإنسان في تنزلاته الأخيرة[2]، فإن مبادئ التربية الإسلامية - من ضمن ما استوعبه النص القرآني - قد انتظمت على النسق نفسه، ليتسنى لنا الحديث عن التشريع التربوي في القرآن الكريم خلال المرحلة المكية والمدنية، وعن مكونات الخطاب التربوي في القرآن الكريم خلال العهدين المكي والمدني.

وإذا أردنا رصد موضوعات التربية في الخطاب المكي، فإننا سنقف على معطيات تربوية شكلت تشريعًا أخلاقيًّا وإيمانيًّا يتناسب وطبيعة المجتمع المكي، سواء على مستوى البنية الإنسانية أو على مستوى الفطرة العقائدية التي نسجت خيوطها في عمق المجتمع الجاهلي، ومن هنا واستجابة لمبدأ التدرج في الخطاب، لا يمكننا الحديث في هذه الفترة عن منظومة التربية الإسلامية وأصولها وجزئياتها، لأنها لم تكتمل صورتها إلا في الفترة المدنية، لكننا نتحدث هنا عن معالم التربية الإسلامية من خلال الخطاب القرآني.

فباستقرائنا لخطابات الوحي التربوية خلال الفترة المكية، يمكن أن نأطرها ضمن محورين أساسيين شكلا مَعلَميْ التربية الإسلامية وأسسها الكبيرة، وهما التربية العقائدية، والتربية التفكيرية.

أ - التربية العقائدية:

إذا كان الاعتقاد هو الإيمان والتصديق الجازم بالأمور التي تطمئن إليها القلوب، فإنه من الضروري أن يؤثر على سلوكيات الفرد في حياته، لأنه لا يمكن أن نفصل بين ما يدين به الفرد من ديانة أو عقيدة، وبين السلوك الذي يصدر عنه، فإننا ندرك جليًّا أن السلوك انعكاسات للمعتقدات.

ومن هنا يمكن أن نصف علاقة العقيدة بالسلوك بأنها علاقة الأصل بالفرع، ولذلك نجد الخطاب القرآني في الفترة المكية قد أولى عنايته الكبيرة بأمور العقيدة، تصحيحًا وتأصيلًا، لأن العقيدة أساس التربية والشريعة[3]، فعندما شاب الضلالُ واتباعُ الهوى والأنفس ومعتقدات الجاهلية، انحرفت بذلك منظومة القيم واختلت وحدة المجتمع، ولذلك كان تركيز الخطاب التربوي في القرآن الكريم في البداية على تصحيح العقيدة، وشحن القلوب بمبدأ التوحيد، لينتقل الخطاب القرآني بعدها إلى معالجة قضايا الشريعة والمنهج، وهو انتقال بمنزلة التحول من الكل إلى الجزء، فصلاح التفكير والتعبير والتدبير رهين بصلاح التوحيد، ولذلك جاء القرآن الكريم ليرسم لنا منهجًا يقوم على التدرج في استصلاح منظومة التربية والقيم، على سلم العقيدة والشريعة والمنهج.

ب - التربية التفكيرية:

التربية التفكيرية عملية تهدف إلى تشغيل ملكة التعقل وإحيائها في النفوس، وذلك بغية بناء عقل إسلامي يتنافى ومبادئ التقليد الموجه، ولذلك كان اهتمام خطاب القرآن المكي ببناء مفاهيم العقيدة الإسلامية باعتبارها مفاهيم مقاصدية ضرورية، دون أن يغفل أساليب الإقناع والوصول إلى الحقائق، فبقدر الإيمان بالوسائل يكون الإيمان بالمقاصد، وبقدر صلاح الوسائل يكون صلاح المقاصد، ولهذا كان تركيز الخطاب القرآني على تريبة الناس على منهج التعقل والتفكر والتدبر في الموضوعات العقدية والأخلاقية التي جاء بها هذا الدين، ونبذ التقليد والتبعية.

إن التركيز على تربية التفكير البشري من شأنها أن تنتج لنا قناعات سليمة، نذكر منها على سبيل البيان:

نقل الفكر الإنساني من التفكير المجرد إلى التفكير العملي الواقعي المرتبط بالحياة.

توجيه العقل الإنساني في عملية فهم الواقع الديني والاجتماعي، من أجل بناء قناعات إسلامية في العقيدة والأخلاق.

تجديد الملكة العاقلة في النفوس من أجل نقل الإنسان من بوتقة التقليد إلى آفاق واسعة في التفكر والتأمل والتدبر.

ربط دائرة العاطفة بدائرة المعرفة لبناء عقل إسلامي يؤطره دستور القرآن.

2 - القرآن المدني والمنظومة التربوية:

بعد أن حقق القرآن الكريم الأسس التي يجب أن يبنى عليها صلاح الأفراد في العهد المكي، والقائمة على التربية العقدية والتربية التفكيرية، وبعد أن غرس ذلك في قوام الأفراد، انتقل الخطاب القرآني في العهد المدني من الحديث عن هذه الأسس إلى الحديث عن فروعها وما يتصل بها من وسائل تربوية تفصيلية تنسحب على مجالات متعددة من حياة الإنسان، وذلك بحسب منهج التدرج في بناء الواقع التربوي الإسلامي المتين.

وإذا كان الخطاب التربوي المكي قد اتسم بالفردية في التبليغ، فإن الخطاب المدني قد بنى على ذلك ليوسع دائرة البلاغ، حيث صار خطابًا جماعيًّا يسعى إلى بناء الوحدة الإسلامية وتشكيل مفهوم الأمة أو مفهوم الدولة، وذلك لأن وراء نجاح كل فكر جديد الجماعة أو الأمة التي تجمعها وحدة الدين واللغة والغاية، فصار الأمر بالاعتصام والاجتماع وتوحيد الصف وعدم الخروج على الإمام صار هذا كله السمة التي تصبغ الخطاب المدني قرآنًا كان أو سنة.

وقد توسل خطاب الوحي لتحقيق مقصد بناء الوحدة الإسلامية أو الدولة الإسلامية بمجموعة من الوسائل التي لها اتصال كبير بتحقيق هذا الغرض التربوي السامي، وفيما يلي محاولة لعرض صورة نموذجية لهذا الترابط المتين بين ما هو وسيلة وما هو غاية.

أ - المنظومة التشريعية في العهد المدني وأثرها التربوي:

الشريعة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وهذا المفهوم الواسع للشريعة من شأنه أن يخرجها عن معناها الضيق المقتصر على الشعائر الدينية المفروضة[4]، لتشمل بذلك كل تصرفات الإنسان في حياته؛ ذلك لأن الخطاب الرباني خطاب شامل كافٍ في تأطير حركة الإنسان في الحياة، وهذا ملاحظ من خلال النظر السديد في آي القرآن الكريم والسنة النبوية، والخطاب المدني عرف عنه أنه خطاب عالج جزئيات حياة الإنسان، ليوسع بذلك دائرة التشريعات، القمينة بتربية الجيل الإسلامي تربية متوازنة وشاملة.

لقد أحدث لنا هذا الإسلام تكاملًا تربويًّا لم يصل إليه أي تنظيم فكري أو كيان فلسفي، فقد أظهرت لنا العبادات من الآثار التربوية الإسلامية ما يعجز الإنسان عن حصرها، فإن الناظر في العبادات يلحظ جليًّا أبعادها الروحية والبنائية والاقتصادية وغيرها؛ فإذا كانت الصلاة تسهم في تهذيب حياة المسلم اليومية، فإن الصيام يسعى إلى تنظيم البنية الغذائية والروحية لحياة المسلم السنوية، في حين نجد الزكاة تسهم في تدبير حياة الإنسان الاقتصادية وتوطيد الروابط الاجتماعية للأمة الإسلامية كلها، وجميع هذه العبادات وغيرها تسعى إلى تربية الإنسان المسلم على العبودية الخالصة لله تعالى.

وهنا نشير إلى أن شمولية خطاب التشريع لكل فقرات حياة الإنسان لها دور كبير في توحيد الفكر البشري في تلك المرحلة، لينساق مساق خطاب الأمة الذي كان يتمثله النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت العبادة بذلك المفهوم الشامل، فإنها تعني تربية الأمة على ما يحفظ قوامها ويضمن وجودها ويسهم في تحقيق عالميتها.

ب - المنظومة الأخلاقية في العهد المدني:

إذا كان القرآن المكي قد تضمن الفضائل الأخلاقية التي تعتبر أساس التربية الأخلاقية الشاملة، فإن القرآن المدني لم ينفصل عن هذا المسار الذي رسمه خطاب الوحي في المرحلة المكية، وذلك من حيث الأصل، وإن كان قد وسع نطاق البحث في منظومة الأخلاق الإسلامية، نظير ما يتسم به الفقه الإسلامي في علاقته بأصول الفقه ومقاصد الشريعة، وقد فرض هذا الأسلوب في معالجة قضايا التربية مبدأ التدرج الذي جاء به هذا الدين الحنيف.

ولذلك لم يقف التشريع القرآني في مجال التربية على الأخلاق النبيلة عند حدود الأصول الأخلاقية والاعتقادية التي رسمها القرآن المكي، بل تعدى ذلك إلى قضايا جزئية في منظومة التربية والمعاملات الإنسانية النبيلة، فرسم في أبواب العلاقات الزوجية آدابًا وأخلاقًا تضمن مبدأ البناء والتنمية في مجتمع الزوجية، كما أرشد إلى تربية الأولاد على المبادئ والقيم الإسلامية الرفيعة، والحث على العلم والتعلم، بل تجاوز هذا كله في محاولة لتوسيع دائرة المجتمع الإسلامي الفاعل وتنظيمه، ليؤصل لأخلاقيات الجوار، وأدبيات الاجتماع الإنساني، من أجل بناء العمران البشري والحضاري لهذه الأمة التي تمتد خيوطها إلى عمق التاريخ.

ت - التربية العقلية في العهد المدني:

 التفكير ضرورة إنسانية، بل هو ملكة امتاز بها الإنسان عن غيره من أصناف المخلوقات، وهذه قضية كلية اتفقت عليها كل المدارس الحضارية منذ اليونان، لذلك نجد القرآن الكريم دعا إلى التفكير، واتخذ من أجل تحقيق هذه الغاية وهي بناء الشخصية الإسلامية المفكرة وسائلَ عديدة ومختلفة.

فقد دعا خطاب الوحي في العهد المكي إلى هذه الغاية وجعلها من أولوياته، لكن سنة التدرج في الخطاب فرضت على الخطاب المكي أن يقف عند أمر الناس بتصحيح الاعتقاد بإعمال الفكر في المعتقدات، وذلك لأن العقيدة هي القاعدة الأولى التي يبنى عليها باقي المبادئ التشريعية والتربوية، والإيمان بالأصول هو إيمان بما يبنى عليها بالضرورة، لكننا عندما ننتقل إلى المرحلة المدنية وننظر في سمياء الخطاب القرآني في قضاياها، فإننا نقف على توسع كبير في مجال الدعوة إلى التفكير والتفكر، فقد رغب القرآن المدني في النظر في الكون والمخلوقات والأفكار وسنن الحياة، ولا غرابة في ذلك ما دام مقتضى المقام ومراعاة الحال يتناسبان وهذا الأسلوب في الدعوة.

من هنا يمكن أن نخلص إلى أن التربية بناء متماسك، بل هي منظومة تنسجم فيها كل القضايا العقدية والفكرية والأخلاقية، وهو ما جعل الخطاب القرآني ينهج أسلوب التدرج في تحليل قضاياها وتربية المجتمع على مبادئها، إيمانًا منه بأن التدرج في التشريع أصل من أصول عملية البلاغ، وبناء عليه ينبغي أن نجدد النظر في مناهجنا التربوية، بل في مدارسنا التربوية التي شابها ضمور كبير على مستوى النتائج العملية في الواقع التربوي، بعدما بالغت في التحليل النظري لقضايا التربية، فقسمت وفرعت ونظرت وقارنت، دون أن يكون لكل هذا أثر فعلي على مستوى منظومة التربية داخل المجتمع.

 

googleplayappstore

 

:: مجلة البيان العدد  334 جمادى الآخرة  1436هـ، مارس – إبريل 2015م.


[1] مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني، كتاب الراء.

[2] الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/244، مركز الدراسات القرآنية، السعودية.

[3] مكة والمدينة في الجاهلية، أحمد إبراهيم الشريف، 1/210، دار الفكر العربي.

[4] كتاب التعريفات للجرجاني ص133، مكتبة لبنان.

أعلى