• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صعود المقاومة وسقوط المشروع الصهيوني

صعود المقاومة وسقوط المشروع الصهيوني


كانت أفعال اليهود القبيحة، من الجرأة على الله والعداء لرسله، ومن التبديل والتحريف، ومن الغدر والخيانة وإثارة الحروب، سببًا في لعنهم؛ ولهذا فقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وتلك هي القاعدة، وأما الاستثناء فهو العلو المؤقت، وله سببان كما جاء في قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْـمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]؛ قال الإمام الطبري: «وأما الحبل فإنه السبب الذى يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده...»، وقال الإمام القرطبي: «{إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ؛ أَيْ لَكِنَّهُمْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} يَعْنِي الذِّمَّةَ الَّتِي لَهُمْ»؛ فكان الحبل أو السبب الأول أن يعقدوا معاهدة لا من أجل أن يعيشوا مع الناس في سلام، لكن من أجل أن يعدوا العدة للانقضاض وفرض أهدافهم وتحقيق أحلامهم.. وقد يكون هذا الحبل هو سنة الله تعالى فيهم كما في قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: ٤-٦]، فمع كل علو وفساد يسلط الله تعالى عليهم من يردعهم ويردهم إلى أصل مذلتهم ومسكنتهم المضروبة عليهم... وأما الحبل الثاني {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ}، فهو إما فعل المسلمين وإما فعل حلفاء اليهود وعملائهم، وبيان ذلك فيما يلى..

أولًا: فعل المسلمين:

فقد كان ضرب الذلة والمسكنة تكليفًا كلف الله به المسلمين حسب قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ أي عن قوة منكم، و{صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون؛ فإذا ترك المسلمون هذا التكليف علا اليهود، وقد يكون هذا الحبل في ترك المسلمين لدينهم وتبديلهم لشريعة ربهم كما هو الحال، إذ استبدلوا الشريعة الإسلامية بالقوانين الغربية، وعطلوا فريضة الجهاد وتثقفوا بثقافة (أو سخافة) السلام أي «الاستسلام» للأمر الواقع! كما أن كثيرًا منهم وافقوا اليهود ووادّوهم أكثر من موافقتهم ومودّتهم لأهل عقيدتهم! حتى سمعنا من يتمنى أن ينتصر اليهود ويوفّقوا في إبادة المقاومة، وسمعنا عن التنسيقات الأمنية والعسكرية التي تحقق «أمن إسرائيل»! والسير في ركاب المجتمع الدولي أحادي التوجه والذى يكيل بمكيالين ويرى بعين واحدة.. وتلك أفعال تستجلب غضب الله وتستنزل العقوبة؛ فكانت تلك العقوبة هي تسليط الظلمة وعربدة الفاسقين والمفسدين وتحكم أحفاد القردة والخنازير وعلوهم على المسلمين.

ثانيًا: فعل حلفاء اليهود وعملائهم:

 لقد نجح اليهود وخرافهم الضالة (جاء في إنجيل متى الإصحاح 15: «لم أرسل إلّا إلى خراف بني إسرائيل الضالّة) في تسخير المجتمع الدولي والمنظمات العالمية لخدمة مصالحهم ومخططاتهم، وجر العالم بأسره إلى هاوية سحيقة ومستنقع آسن؛ وسارت وسائل اليهود تعمل وتدمر، وأساليبهم الدنيئة تحقق أهدافها.. أمم متحدة على الإسلام.. دول عظمى أعلنت حربًا صليبية على المسلمين.. عالم بلا قيم نبيلة.. هوة سحيقة بين شماله وجنوبه.. لا مكان فيه للعجزة ولا للضعفاء.. قهر للشعوب الفقيرة.. حضارة شذوذ وغطرسة وظلم... لكن أخطر ما في الأمر هو هذا التحالف الدولي المعلن ضد أي توجه أو كيان إسلامي حتى لو كان في خندق الدفاع عن أطفاله ونسائه وشيوخه، فضلًا عن أرضه ولقمة عيشه. إن حلفاء اليهود وعملاءهم مكّنوا لدولة الاحتلال الصهيوني وساهموا في علوها «المؤقت» الذى لاحت في الأفق بوادر سقوطه وتآكل قوته وانهيار دولته!! والدليل على ذلك ما يلى:

1- افتضاح منظومة المواثيق والمنظمات الدولية:

فقد تواطأت القوى الدولية على مساندة المحتل الظالم والتي ساهمت في إنشائه وتوطيد أركانه، والتي أعانته وأيدته في عدوانه، ووضعته في موضع المعتدى عليه، وأحقيته في الدفاع عن نفسه حتى لو أدى ذلك إلى تعمد قتل مئات بل الآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء على مرأى ومسمع من العالم المتحضر! والعجيب أنه لما قتل طفل «إسرائيلي» واحد - بدون قصد - قام حلفاء يهود ولم يقعدوا وتحركوا لوقف القتال! إن التخلي عن قيم العدل والإنصاف ينذر بالانهيار ويقرب ساعة الهلاك؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، لقد أقرت المواثيق والمنظمات الدولية حق الإنسان في الحياة وفى الطعام والشراب، وفى التعليم والعلاج، كما أقرت حقه في العبادة واحترام أماكن العبادة، وقررت حماية المدنيين.. ورأينا تلك المنظمات تقف صامتة بل راضية عن حصار فئة قليلة حوصرت سبع سنوات، ومُنعت عنها متطلبات الحياة الضرورية، وكان سبب الرضا أن المحاصرين مسلمون! كما رأينا ضرب وهدم المساجد على من فيها من المدنيين؛ وكان سبب الرضا أن المصلين مسلمون!

2- الكشف عن الوجه القبيح للديمقراطية:

 وظهر ذلك في ازدواج المعايير والكيل بمكيالين، فقد صار ما يسمى بـ«حق الشعوب في تقرير مصيرها» شعارًا أجوف، كما تهاوت المبادئ أمام طغيان المصالح، وقد بات واضحًا أنه ليس من حق الشعوب الإسلامية أن تختار نظام حكمها، أو أن تحكم نفسها، وأن النظام العلماني هو السبيل الوحيد والفرض الأكيد عليها شاءت أم أبت، و«أنياب الديمقراطية» لمن أبى! ولقد أدى ذلك إلى انفصام وانقسام داخل الشعوب والمجتمعات؛ فقد ظهر في المجتمعات الغربية من يناهض الحرب على غزة ويتظاهر من أجل وقف العدوان ويطالب الحكومات بالسعي لوقف إطلاق النار (في ظل انشغال المجتمعات العربية بقضاياها الداخلية)، كما ظهر في الداخل الصهيوني من لا يؤيد الحرب على الفلسطينيين وسياسة ضرب المدنيين، ومنهم من نادى بأن تحذو «إسرائيل» حذو مصر في مسألة تدمير الأنفاق حرصًا على المدنيين! وأنه لا داعى لضرب المنشآت والمستشفيات، فالحرب في نظر كثير من «الإسرائيليين» بلا جدوى بل قد أوجدت حالة من عدم الأمان ما أدى إلى تزايد عدد الهاربين من صواريخ المقاومة سواء في المخابئ أو خارج الكيان الصهيوني.. أما الشعوب العربية فقد أصيبت بخيبة أمل أمام صمت الحكومات وعجزها وغيابها عن تلك الأحداث الجسام.

3- صحوة المقاومة:

إن الكبت والحصار يولد الانفجار، وإن الحاجة تولد الاختراع، وإن الشعور بالظلم يولد ثورة في النفس، وإذا ثارت النفس فإنها لا تبالى بالموت ويكون الموت خيراً لها من الحياة، لقد سئم الفلسطينيون سياسة المفاوضات وتعبوا من دفع عجلة السلام والجلوس على موائد الحوار؛ وملّوا أسلوب المراوغة مع علمهم بطبائع اليهود النكدة وكيف يتعاملون مع غيرهم (الجوييم أو الأميين)، كما فقدوا الثقة والأمل في المجتمع الدولي الواقع تحت تأثير الآلة الإعلامية الصهيونية؛ فتحتم عليهم خيار المقاومة حتى لم يعد خيارًا بل صار فرضًا لازمًا ومسارًا جازمًا لا محيد عنه اضطرارًا وإجبارًا، وأصبح لسان حالهم ومقالهم: بالمقاومة نكون وبغيرها لن نكون، وأن سلاح المقاومة خارج نطاق المفاوضات.. إن صحوة المقاومة إنما هي تفعيل لسنة المدافعة، وهى الطريق الوحيد لقهر الاحتلال وتحرير الأرض المغتصبة؛ خصوصًا إذا تسلحت هذه المقاومة بسلاح العقيدة والإيمان بالله تعالى؛ فإنه بالإيمان بالله عز وجل وبالعقيدة الراسخة وبالثقة في وعد الله ونصره وباليقين في سننه وحكمه وحكمته؛ تتنزل أسباب النصر ويتحقق الوعد الحق؛ ومن تلك الأسباب والسنن ما يلى:

1- نزول الملائكة للقتال مع المؤمنين (ساعة أن يكونوا مؤمنين) وإلقاء الرعب في قلوب العدو: قال تعالى: {بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْـمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؛ قال القرطبي: «وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ لَتَسْكِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ مُجَاهِدِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ عَسْكَرٍ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ... وَقَالَ الْحَسَنُ: فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ آلَافٍ رِدْءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ القيامة...)، وعِنْدَ أَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (3/304) وَالبخارِيِّ في «صَحِيْحِهِ» (335)، وَمُسْلِمٍ (521) كلهُمْ مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أُعْطِيْتُ خَمْسًا لمْ يُعْطهُنَّ أَحَدٌ قبْلِي: نصِرْتُ باِلرُّعْبِ مَسِيْرَة َ شَهْرٍ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا، فأَيمَا رَجُل ٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكتْهُ الصَّلاةُ فليصَلِّ، وَأُحِلتْ لِيَ الغنائِمُ، وَلمْ تحِلَّ لأَحَدٍ قبْلِي، وَأُعْطِيْتُ الشَّفاعَة َ، وَكانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلىَ قوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلىَ النّاسِ عَامَّة».

2- الانتصار للمظلومين وإجابة دعوتهم: فإن الله تعالى حرم الظلم والعدوان، ويسقط دولة الظلم، ويعاقب الظالمين في الدنيا قبل الآخرة؛ وتلك سنته سبحانه؛ فالظلم سبب لزوال الأمم ونزول النقم وسقوط الحضارات والدول؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، وقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِـمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: ١١]، وفي الترمذي عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ، الإِمَامُ العَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»، برقم 2717 (صحيح لغيره)؛ فكم من ثكلى فقدت عيالها وكم من أرامل فقدن أزواجهن قد تضرعن إلى الله وجأرن بالدعاء؛ فلن يفلت الظالمون ومن عاونهم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].

3- وعد الله بنصر الفئة «المؤمنة» حتى لو كانت قليلة: قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]؛ فقد قتل داود عليه السلام جالوت، ونصر الله تعالى الفئة القليلة المؤمنة الصابرة، وتغيرت موازين القوى (كما تغيرت في غزوة بدر)، ولم تنفع جالوت عدته ولا قوته؛ ليتأكد لنا أن قوة الردع الصهيونية يمكن أن تتهاوى إذا ثبت أهل الحق وصبروا وصابروا امتثالًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

4- سنة التداول الحضاري، وقانون البقاء للأنفع: إن سنة التداول الحضاري خادمة ومحققة لسنة البقاء للأنفع (أي الأنفع للبشرية عامة مؤمنها وكافرها)؛ أما سنة التداول الحضاري فقد قال تعالى: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [آل عمران: 140]؛ قال القرطبي «{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} قِيلَ: هَذَا فِي الْحَرْبِ، تَكُونُ مَرَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَنْصُرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ، وَمَرَّةً لِلْكَافِرِينَ إِذَا عَصَى الْمُؤْمِنُونَ لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيُمَحِّصَ ذُنُوبَهُمْ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْصُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. وَقِيلَ: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} مِنْ فَرَحٍ وَغَمٍّ وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَالدَّوْلَةُ الْكَرَّةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ علينا ... ويوم نساء ويوم نسر»، وقال ابن كثير: «{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أَيْ نُدِيلُ عَلَيْكُمُ الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي مِثْلِ هَذَا لِنَرَى مَنْ يَصْبِرُ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} يَعْنِي يُقْتَلُونَ فِي سَبِيلِهِ وَيَبْذُلُونَ مُهَجَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ»؛  فهذه السنة تقرر أن الكرة مرة لأهل الإيمان ومرة لأهل الكفر، وأن الدولة والتمكين إنما هي تداول بين حضارات؛ وأن المنظم لذلك هو مدى الالتزام بقواعد العدل والإنصاف؛ وهو من مقومات الحياة واستمرارها حتى يأتي وعد الله وينقضي أمر الدنيا؛ لهذا كان البقاء للأنفع؛ قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْـحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17]؛ فما ينفع الناس يمكث ويبقى، وأما ما يعطل سير الحياة ويكدر معايش الناس يضمحل ويتلاشى، وقد قال الله العزيز الحكيم: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ١]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، {إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْـمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْـجِبَالُ 46 فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم: 46، 47].

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.

أعلى