تناقضات الحداثة
تُمثِّل الحداثة إشكالية في حقل الدراسات النقدية والأدبية
على السواء؛ لِـمَا تحمله من تناقضات جذرية في بنيتها المعرفية، وخلفيتها
الثقافية، بالإضافة إلى التغيرات الدلالية التي تطرأ عليها بشكل متلاحق وسريع،
(فهي حركة قلقة لا يَقَر لها قرار)[1]
تعيش في صيرورة دائمة، وتجدُّد مستمر، فضلاً عمَّا تحتويه من اتجاهات متباينة،
ورؤىً متناقضة، تؤدي إلى (انسحاب لفظة (الحداثة) على الشيء ونقيضه في الوقت ذاته)[2].
وثمة إجماع من النقاد على أن
التناقض هو السمة الرئيسة، والخصيصة المميزة للحداثة، ومن ثَمَّ يرى معظم النقاد
أن ليس هناك حداثة واحدة بل حداثات متعددة، وهذه الحداثات (تختلف فيما بينها أكثر
مما تتفق)[3].
ومن أبرز صور التناقض التي
انبثقت من تباين تيارات الحداثة بل تضاربها، موقف الحداثة من الماضي (التراث)؛ فقد
وصل الأمر في الحداثة إلى تضارب مواقفها نحو الماضي:
من موقف رافض تمام الرفض،
ويمثله المستقبليون الإيطاليون، القائلون بأن الماضي خانق ولا بد من قذفه من فوق
سفينة الحداثة، والدعوة إلى قطيعة معرفية مع هذا التراث.
إلى موقف على النقيض من ذلك
يقف؛ يدعو إلى العودة في حنين للماضي ونبذ الجديد بما فيه من خراب ودمار، كموقف
إليوت، مثلاً. (وتتدرج قوة الدعوة لربط الحديث بالقديم في الواقع من الدعوة
الهادئة القائلة بأن الحداثة في جوهرها استمرار للرومانسية وعودة واضحة لها، إلى
القول بلا مواربة بأن الانفصــال التام من القديم - من نوع الانفصال الذي ينادي به
المستقبليون - يعني فقدان الجذور والضياع الكامل)[4].
وهناك موقف حداثي آخر يرى أن
الحداثة قد تقبل الماضي وتنظر إليه بَيْدَ أنها (لا تنظر إليه إلا بعين الحاضر
الحامل شرط التحول)[5]،
وهذا يعني أن الحداثة تقوم بعملية إعادة قراءة الماضي حاملة معها آليات التأويل
والتحديث، فتقلب الماضي وتحوِّله إلى حداثة يختلط فيها فكر الحاضر مع فكر الماضي،
فيصبح ما يصمد منه مزيجاً ودليـلاً علـى مشـروعية الحداثة نفسـها، وما لم يصمد منه
لا تتــردد الحداثة في بتره، ووضعه في سلة التقليدي والأحادي المخــالف للتعــددية
التــي هــي أبرز سمة من سمات الحداثة.
يجب الإشارة هنا إلى أن
الحاضر ليس بأفضل حالاً من الماضي؛ إذ يجب على الإنسان الحداثي أن ينظر إلى الواقع
نظرة ريبة وشك، أو قُلْ: نظرة نقد وفحص؛ فإما أن يقطع صلته بالحاضر، وإما أن تقوم
هذه الصلة على نوع من نقد الواقع وكشفه؛ (لأن رفض الواقع يتخذ في بعض وجوهه طابع
النقد (نقد هذا الواقع) برفض سلبياته وأمراضه وانحرافاته، وبكشف ما فيه من تناقض
ومخفي ومنسي ومسكوت عنه وغير مفكَّر فيه)[6].
كما نلفت النظر هنا إلى أن
الحداثة لا تعني ما قد يتبادر إلى الذهن لدى بعضهم بأنها الأخذ بكل جديد ورفض لكل
قديم، بل هي على عكس ذلك؛ إذ إنها في وجهٍ من وجوهها المتعددة، وفي تيار من
تياراتها المتباينة هي أخذ بالقديم ورفض للجديد تأكيداً لمقولة تريلنغ بأن
(الحداثة: هي العداء الكامل للحضارة)[7].
وما تناقضات الحداثة إلا
انعكـاس لتناقضـات المجتمعـات الغربية، وما فيها من تزعزع للقيم الإنسانية
والأُطُر الأخلاقية السامية التي أصابت الحضارة الغربية في مقتلٍ، بيد أن من العجيب
أن ينبهر الأديب العربي المعاصر بهذه الحداثة (فيفقد ثقته بنفسه وبثقافته وأصالته،
ويُهرَع لاهثاً في مختلف الاتجاهات ليقتفي أثر أخر البدع أو الموضات في الغرب
فيقلدها؛ سواء عن معرفة أم جهل)[8]،
ويتقمص أدوار المشاهير من الآداب الأجنبية ويأتي بحداثة زائفة (لا جوهرية) ليس لها
جذور متأصلة في العقلية العربية، ولا تتناسب مع الظروف الحضارية التي تمر بهـــا
الأقطـــار العربية، فتكون القطيعة الأبدية بين المبدع والمتلقي.
[1] رايموند ويليامز: طرائق الحداثة ضد
المتوائمين الجدد، ترجمة فاروق عبد القادر، عالم المعرفة، الكويت، يونيو1999م، ص
68.
[2] د. عبد
العزيز حمودة: الحداثة والمسرح العربي، مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد الثاني،
المجلد الحادي والعشرون، 1993م، ص 45.
[3] د. عبد
العزيز حمودة: المرايا المقعرة، عالم المعرفة، الكويت، أغسطس 2001، ص51.
[4] د. عبد
العزيز حمودة: الحداثة و المسرح العربي، ص 48.
[5] د. عبد
الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة العوامل والمظاهر وآليات التأويل،
عالم المعرفة، الكويت، مارس2002، ص 125.
[6] المصدر
السابق، ص84.
[7] د. عبد
العزيز حمودة: الحداثة والمسرح العربي، ص 50.
[8] محمد
مصطفى بدوي: قضية الحداثة، ومسائل أخرى في النقد الأدبي، دار شرقيات للنشر
والتوزيع، القاهرة، ط أولى، 1999م، ص22.