ملحمة تحرير بغداد من الصفويين
جاء تولي السلطان مراد
الرابع - وهو
السلطان السابع عشر من سلاطين آل عثمان - مقاليد أمور دولة الخلافة العثمانية في ظروف حرجة جداً
كانت تمر بها هذه الدولة، وفي ظل أزمة خطيرة داخل البلاط العثماني نفسه، وهي
الأزمة التي وصلت أوجها في عهد السلطان مصطفى الأول، الذي خلع سنة
1617م لضعفه بعد ثلاثة
أشهر فقط من توليه الحكم، ليلي الخلافة من بعده ابن أخيه عثمان الثاني سنة
1618م، الذي لم يكن يبلغ
من العمر سوى 14 عاماً. وقد انتهت حياة هذا السلطان نهاية مؤسفة، فقد قتلته
الإنكشارية شنقاً سنة 1622م، وهو لم يتم 18 عاماً! وذلك عندما حاول إصلاح الجيش وتقليص نفوذ الإنكشارية،
والنهوض بالدولة. فخلفه
السلطان مصطفى الأول للمرة الثانية، بيد أنه لم يلبث حتى خلع في العام التالي
(1623م) بعد سبعة أشهر فقط من توليه السلطة، ليتولى عرش السلطنة
بدلاً منه السلطان مراد الرابع (ابن السلطان أحمد الأول)، والذي لم يكن عند توليه الخلافة قد تجاوز الثالثة عشرة
من عمره، فقد ولد هذا السلطان سنة 1612م، وهو موضوع حديثنا هاهنا.
الدولة العثمانية غداة
تولي مراد الرابع
ورث السلطان مراد الرابع دولة كبرى مترامية
الأطراف تمتد في القارات الثلاث، وإن لم تعد الدولة الأقوى في العالم كما كانت
عليه أيام السلطان سليمان القانوني (1566-1520م)،
وليس ذلك فحسب فقد كانت الدولة تتعرض، إذ ذاك، لأشد الحملات الصليبية عنفاً
وضراوة، ومن مختلف الاتجاهات؛ فالصليبية الروسية تضرب من جهة القوقاز، وإمبراطورية
النمسا تضرب في جهة البلقان، وحملات الإسبان الكاثوليك لم تنقطع على شمال أفريقيا،
والإنجليز والهولنديون يمدون نفوذهم في الهند ويعيثون فساداً في البحار الجنوبية
والخليج. وقد بلغ نفوذ الإنجليز ذروته مع حلولهم محل
البرتغاليين في الخليج بالتعاون مع الشاه عباس الصفوي، بعد أن تدهورت قوة البرتغال
وغربت شمس إمبراطوريتهم.
ناهيك عن السرطان الصفوي الشيعي في إيران،
والذي استفحل في جسد الأمة في هذه الفترة، بصورة لم يسبق لها مثيل، ففي هذا العهد
وهو عهد الشاه عباس الصفوي الملقب بعباس الكبير أو الأول (1628-1587م)،
والذي يعتبر أقوى الملوك الصفويين وأشرسهم وأكثرهم إفراطاً في التشيع وبغضاً
للتسنن، بلغت الإمبراطورية الصفوية ذروة عنفوانها ليس في القوة فحسب، وإنما أيضاً
في نعرة التعصب المذهبي، وفي تحديها للمسلمين السنة، وتحالفها مع القوى الصليبية
ضد الدولة العثمانية. بل إن الشاه عباس الصفوي لم يكتفِ بمجرد
التحالف مع القوى الصليبية، وإنما استقدم خبراء إنجليز لمساعدته في إدارة شؤون
دولته، وبخاصة الجيش، وكلف أحد دهاة الإنجليز ويدعى السير أنطوني شيرلي بالقيام
بسفارة إلى عواصم الدول الأوروبية، يطلب عقد التحالفات معها ضد العدو المشترك، وهو
«المسلمون
العثمانيون».
كما شهدت اليمن تمرداً مذهبياً من قبل
القبائل الزيدية بقيادة الإمام القاسم الذي أعلن دعوته في صفر سنة 1006هـ
الموافق سبتمبر 1597م، واستطاع أبناؤه في ظل تلك الظروف الصعبة
التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، أن ينفصلوا باليمن عن دولة الخلافة
العثمانية، وعن محيطها الإسلامي (السني) في
وقت لاحق، وقد استمر ذلك لمدة خمسين عاماً تقريباً (1676-1625م). وقد
تلاقت مصلحة أئمة الشيعة الزيدية في اليمن - إذ
ذاك -
مع مصلحة الإنجليز، الذين احتكروا تجارة البن في ميناء
المخاء، وتصديره إلى أنحاء العالم. وعلى حد تعبير أحد
القباطنة الإنجليز السياسيين فقد «نجح البريطانيون للغاية
في أعمالهم واستطاعوا أن يمارسوا نفوذاً أدبياً على أئمة صنعاء».
بيد أن التحدي الأكبر الذي واجهه السلطان
مراد الرابع تمثل في تمرد قوات الإنكشارية في العاصمة إسطنبول نفسها، والتي كان
الفساد قد صار ينخر في داخلها وصارت عبئاً على دولة الخلافة. وهو
التحدي الذي أوشك أن يطيح به في مطلع خلافته، وهذا إلى جانب تمرد بعض حكام
الولايات وعلى رأسهم حاكم بغداد.
استيلاء الصفويين على
بغداد
وفي غضون ذلك لم يتردد الشاه عباس الصفوي،
وهو الداهية الخبيث الماكر المشبع بالحقد الطائفي، والطامح لنشر التشيع في العالم
الإسلامي، في استغلال الأزمة التي كان يمر بها السلطان مراد الرابع في المركز، أي
في إسطنبول، عاصمة دولة الخلافة العثمانية، وكذا في بعض الولايات، ومنها ولاية
بغداد، ورأى عباس أنها فرصته لضم بغداد والعراق إلى دولته، ولتوسيع حدود
إمبراطوريته على حساب الدولة العثمانية، وتقويض أركان هذه الدولة وضعضعتها من
الداخل، فعمل في بداية الأمر على دعم تمرد والي بغداد بكر صوباشي، ناقضاً بذلك
معاهدة كان قد أبرمها مع العثمانيين سنة 1618م. وعلاقة
الصفويين بالعثمانيين سلسلة من الغدر والخيانات والمؤامرات ونكث المواثيق والعهود،
لم يفعل مثلها حتى اليهود على طول تاريخهم. ولما
عجز الشاه عباس الصفوي عن استمالة حامية بغداد لإعلان الولاء له والتبعية لدولته
سلماً، وجه نحوها جحافل جيوشه الجرارة المجهزة بأحدث المدافع والعتاد، فقامت قواته
بمحاصرتها من جميع الاتجاهات، ومن ثم اقتحامها بعد معارك طاحنة، ليبدأ الصفويون
بعدها مرحلة جديدة من تصفية الحسابات مع المسلمين السنة، وكل ما يرمز لهم بصلة
تنفيساً عن أحقاد طائفية متوارثة وعن مظلوميات وهمية معشعشة في رؤوس الشيعة. «وروى
المؤرخ مرتضى نظمي زاده نقلاً عن والده الذي عاصر هذه الأحداث، أن القوات
الإيرانية فتكت بالكثير من السكان وأن من سلم من القتل لم يسلم من التعذيب، وأن
العديد منهم أرغموا على ترك بيوتهم ومغادرتها. وأن
الأمان الذي نودي به كان أماناً خادعاً، إذ تلا ذلك اضطهاد منظم». وشن
الشاه عباس الصفوي حملة واسعة لإرغام أهل بغداد على التشيع ولإذلال العشائر
السنية، وقتل الآلاف ممن رفضوا تغيير عقيدتهم، ولو في الظاهر، وأخذ أطفالهم
ونساءهم فباعهم كعبيد وإماء في أسواق النخاسة في إيران، وحول المدارس الدينية إلى
إسطبلات، وهدم مرقد أبي حنيفة، ومشهد عبدالقادر الجيلاني، وكان ينوي تطهير السنة
نهائياً من بغداد، ولكن الله لطف بعباده، وكانت محنة للمسلمين ما بعدها محنة. كما
تعرضت ولاية البصرة العثمانية، في غضون ذلك، لغزوات عنيفة من قبل الصفويين في السنوات (1624، 1625، 1629م). ولكنهم
فشلوا في الاستيلاء عليها، إلا أنهم نجحوا في إعادة السيطرة على أكثر الأقاليم
والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون في عهد السلطان سليمان القانوني. ورافق
هذه الحملات عودة الصفويين للعن الخلفاء الراشدين الثلاثة على المنابر، بعد أن كان
العثمانيون إبّان قوتهم، قد أرغموهم على ترك هذه العادة المشينة. كل
تلك الممارسات المستفزة والأعمال العدوانية كانت تحدث من قبل الصفويين في بغداد
وغيرها، والسلطان مراد الرابع لايزال يقاوم للخروج من أزمته الداخلية ومن الشرنقة
التي لفتها حوله الإنكشارية، ولفرض هيبته عليها.
شخصية السلطان مراد
الرابع
في الحقيقة إن السلطان مراد الرابع لم يكن
بذلك الضعف الذي تصوره عليه أعداؤه في الداخل والخارج، وذلك على الرغم من صغر سنه،
وإنما ظروف انتقال السلطة من خليفة إلى خليفة، وأيضاً النفوذ الواسع الذي باتت تتمتع
به الإنكشارية والذين هم من جاء به أصلاً إلى كرسي الخلافة، وكذلك بُعد الولايات
عن العاصمة ومقر الخلافة، فضلاً عن صعوبة المواصلات؛ كل هذه العوامل وغيرها كان
لها دور في صنع تلك الأزمة وتعقيدها. وقد امتاز السلطان مراد
الرابع بشخصيته القوية، وعزيمته الفولاذية، وبأن فيه مسحة من سلاطين آل عثمان
الكبار الذين نالوا شهرة مدوية وحققوا أمجاداً تاريخية لأمتهم، ولاسيما جده
السلطان مراد الأول (1389-1359م)،
صاحب الانتصارات الكبيرة على القوى الصليبية الأرثوذكسية وخاصة انتصاره الشهير في
كوسوفا سنة 1389م على الصرب وحلفائهم. ويذكر
المؤرخ المصري المعاصر سيد مصطفى سالم في كتابه الفتح العثماني الأول لليمن، أن «السلطان
مراد الرابع كان الومضة القوية الأخيرة في بيت آل عثمان، والذي أعاد بأعماله إلى
الأذهان عهد سلفه الكبير السلطان سليمان القانوني»،
فقد واجه تمرد الإنكشارية بحزم وضربهم بيد من حديد، مع تصفية قادتهم العصاة الذين
يقفون وراء هذا التمرد وعلى رأسهم المدعو خسرو باشا، وأعادها إلى ما كانت عليه من
انضباط في أيام السلطان سليمان القانوني، وفرض إرادته وهيبته على الجميع، وقام
بجهود جبارة لإصلاح الخلل الداخلي الذي أصاب مؤسسات الدولة، وأعاد الأمور إلى
نصابها الصحيح، كما أعاد هيبة الدولة إلى ما كانت عليه من قبل في نظر
الإمبراطوريتين النمساوية والروسية. وقد برهن بكل ذلك على أنه
المعيد الحقيقي للصحة والحياة والقوة في جسم دولته، وذلك بمساعدة أمه وبعض
المخلصين من رجال الدولة. وفي عهده تم سحق ثورة
الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني في جبل لبنان. وكان
السلطان مراد الرابع إلى جانب ذلك مولعاً بالشعر، وكان يوقع قصائده باسم «مرادي» و«شاه
مراد».
محاولتان فاشلتان
لتحرير بغداد
وكانت بغداد منذ أن تم تحريرها من الاحتلال
الصفوي الشيعي في عهد السلطان سليمان القانوني سنة 1534م،
تعتبر خطاً أحمر لدى سلاطين آل عثمان، نظراً لكونها قاعدة كبرى من قواعد الإسلام
من جهة، ولما تمثله من قيمة رمزية لدى المسلمين السنة كعاصمة لدولة الخلافة
العباسية من جهة ثانية، ولكونها من جهة ثالثة تحتضن جامع الإمام أبي حنيفة النعمان
بن ثابت رضي الله عنه، الذي كان مذهبه هو المذهب الرسمي للخلافة العثمانية. ولهذه
الأسباب وغيرها فقد وضع السلطان مراد الرابع تحرير بغداد من الصفويين في سلم
أولوياته. ولذلك بادر، حتى قبل أن تستقر الأمور في
إسطنبول، بإرسال جيش لتحريرها، بقيادة الصدر الأعظم (رئيس
الوزراء) حافظ أحمد باشا، فكان حصار بغداد الأول سنة 1625م،
الذي استمر لمدة تسعة أشهر متواصلة، ولكنه انتهى بالفشل وبانسحاب الجيش العثماني
من تحت أسوارها بسبب نفاد ذخائره وأقواته وعدم توفره على مدافع كافية. مع
تحصن العدو الصفوي وراء الأسوار وخلف أبراج قلعة المدينة الحصينة، واستخدامه
للعامة كدروع بشرية.
وفي سنة 1629م،
عاد السلطان فأرسل حملة عسكرية ثانية بقيادة الصدر الأعظم الجديد، خسرو باشا، وكان
الحصار الثاني لبغداد والذي استمر أربعين يوماً، ولكنه انتهى بالفشل أيضاً، نظراً
لتبدد جهوده قبل ذلك في معاركه ضد الصفويين في إيران نفسها، وعلى مدى شهور عدة،
وكان تكرار الفشل على هذا النحو يعني فشلاً لسياسة السلطان نفسه، لذلك ارتفعت
الأصوات المعارضة في داخل إسطنبول لسياسة السلطان، والمنددة به، والمشككة في
قدراته والمطالبة من ثَم بتنحيه عن الخلافة، وأصبحت سمعة السلطان على المحك،
لاسيما مع تكرار وصول الوفود من بغداد إلى عاصمة الخلافة والمطالبة بالنجدة بصورة
ملحة، مع شرح فضائح الصفويين وأعمالهم الإجرامية فيها.
مراد الرابع يخرج
بنفسه لتحرير بغداد
أمام ذلك كله، وجد السلطان مراد الرابع أنه
لا أمل في كبح جماح الشيعة الصفويين، وتحرير بغداد من سيطرتهم، إلا إذا تولى هو
بنفسه قيادة الجيش والحرب ضدهم، ومن ثَم التخطيط لهذه المعركة الكبيرة «معركة
تحرير بغداد»، فكان ذلك. وكان
حصار بغداد الثالث والأكبر على الإطلاق سنة 1638م
والذي أشرف عليه السلطان بنفسه، وكانت معركة رهيبة من أكبر المعارك في تاريخ
الإسلام والعالم. لاسيما أن القتال لم يقتصر على بغداد
ومحيطها فقط وإنما اتسع ليشمل حدود الدولة العثمانية مع الصفويين وخاصة حدود
العراق مع إيران. وقد استمات فيها الصفويون - الذين
قدرت قواتهم داخل بغداد نفسها بحوالي أربعين ألف مقاتل - إلى
أبعد مدى، وذلك في سبيل الاحتفاظ ببغداد والعراق، والأهم من ذلك لكسر عزيمة
السلطان وهزيمته بما يمثله ذلك من نصر معنوي للشيعة على السنة يعيد إليهم بعضاً من
سمعتهم التي تمرغت بالتراب، جراء هزائمهم السابقة على أيدي العثمانيين وخصوصاً
هزيمتهم الكبرى في معركة جالديران سنة 1514م، على يد السلطان سليم
الأول (1520-1512م)،
والتي حطمت قوة الشاه إسماعيل الصفوي، وأيضاً يحقق لهم الدعاية فيما يتعلق
بالكرامات وأرواح أئمة أهل البيت التي تتقمصهم، والتي تحفل بها كتبهم وأساطيرهم،
لكن السلطان مراد الرابع واصل حصاره لبغداد وتضييق الخناق على القوات الصفوية
المتحصنة بداخلها، وفي الوقت نفسه وضع الترتيبات اللازمة للحيلولة دون وصول إي
إمدادات إليها، بل دون اقتراب القوات الصفوية من حدود العراق.
واشتد الهجوم على جميع مواقع القوات
الصفوية القائمة عند أبواب بغداد الأربعة. ورفض السلطان طلباً لعقد الصلح تقدم به
الشاه صفي الأول عن طريق مبعوث خاص. وقد تواصل القتال الضاري بين الطرفين أربعين
يوماً، استطاع الجيش العثماني خلالها أن يخترق دفاعات الصفويين، وأن يجبر قادتهم
على الاستسلام، بعد أن أسقط في أيديهم وتبخرت أحلامهم وتكبدوا خسائر جسيمة، ولاذ
بالفرار من كتبت له النجاة منهم. فدخل السلطان مراد الرابع بغداد على رأس جيشه
ظافراً مكللاً بأكاليل الغار، وذلك في 18 شعبان 1048هـ الموافق 25 ديسمبر 1638م،
بعد أن استمرت في أيدي الصفويين لمدة 15 عاماً، وكان اليوم الذي دخل فيه بغداد
يوماً مشهوداً في تاريخ العثمانيين بشكل خاص وتاريخ الإسلام بشكل عام، ويشبه إلى
حد كبير اليوم الذي دخلها فيه جده السلطان سليمان القانوني غداة تحريرها من
الصفويين ذاتهم قبل ذلك بحوالي قرن وتحديداً عام 1534م. وبهذا الفتح المبين عادت
سيادة العثمانيين على العراق على ما كانت عليه من قبل، وظلت بعدها بأيديهم حتى
هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى (1918-1914م)، صحيح أن الصفويين عادوا بعد ذلك
لمحاولة احتلالها، ولكنها كانت عصية عليهم، حتى دخلتها مليشياتهم عام 2003م على
ظهور الدبابات الأمريكية.
:: مجلة البيان العدد 330 صفر 1436هـ، نوفمبر
2014م.