هم العدو فاحذرهم
«حدثت في العام الماضي ثورة إسلامية في
القطر التونسي لمنع المتجنّسين بالجنسية الفرنسية من دفن موتاهم بين المسلمين في
مقابرهم؛ لأنهم مرتدون عن الإسلام بما تقتضيه الجنسية الفرنسية من التزاوج
والتوارث بأحكام القانون الفرنسي المخالف لنصوص القرآن والسنة مما هو مجمع عليه
معلوم من الدين بالضرورة، فأرادت الحكومة الفرنسية الحامية إجبار المسلمين على
دفنهم في مقابرهم، وظَاهَرَها بعض المنافقين على هذا؛ فخاب سعيها، وعجزت قوتها عن
ذلك، وانتهى الأمر بإنشاء مقبرة خاصة بهؤلاء المرتدين المصرّين على كفرهم»[1].
هكذا هم المنافقون الذين مردوا على النفاق
يظاهرون ويناصرون إخوانهم الكفار والمرتدين في الحياة، وبعد الهلاك.
ومظاهرة أعداء الله ومناصرتهم كفر نفاق،
وخصلة شنيعة من خصال أهل النفاق.
قال الله تعالى: {بَشِّرِ
الْـمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً 138 الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 138-139].
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [المجادلة: 14].
وقال عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ} [المائدة: 52].
وبهذا يعلم أن النفاق الأكبر ليس محصوراً في
الأنواع الستة التي أوردها ابن تيمية، كما ظن بعضهم، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية
سردها على سبيل التمثيل والتوضيح للنفاق الأكبر، كما هو بيّن في قوله (فمن النفاق
ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود
بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو
المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله)[2].
فقد يكون النفاق الأكبر: مظاهرة المشركين ضد
المسلمين، وقد يكون استهزاءً بالله وآياته ورسوله، وتارة يكون إعراضاً عن حكم الله
ورسوله[3].
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً 60
وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً 61 فَكَيْفَ إذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 60-62].
قال ابن تيمية عن هذه الآيات: «ذم الله
المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون
إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله.. وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة
رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم، أو في
نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نوفق بين الدلائل الشرعية
والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات»[4].
وقال محمد رشيد رضا: «والآية ناطقة بأن من
صدّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً، لا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه
يكون منافقاً لا يعتدّ بما يزعمه من الإيمان»[5].
والحاصل أن النفاق الأكبر ليس مقتصراً على هذه الأنواع الستة والله أعلم.
ثم إن النفاق الأكبر «يوجد كثيراً في نحل
أهل البدع، لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل
النحل، ولهذا كانت الباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، ونحوهم من المنافقين
الزنادقة، منتسبة إلى الرافضة»[6].
ولأجل كثرة المنافقين، سواء في أهل الأهواء
أو غيرهم، قال ابن القيم: «كاد القرآن أن يكون كلّه في شأنهم، لكثرتهم على ظهر
الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في
الطرقات»[7].
ولأجل شناعة كيدهم، وعظم مكرهم، فهم أرباب
خداع وتلبيس، وأصحاب تذبذب وتلوّن؛ لأجل ذلك كله كان الحديث عن النفاق والمنافقين
في القرآن في 17 سورة مدنية من 30 سورة، واستغرق ذلك قرابة 840 آية، حتى قال ابن
القيّم - رحمه الله -: «كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم»[8].
وهؤلاء المنافقون طينتهم واحدة في القديم
والحديث، وسواء سمّوا زنادقة، أو باطنية، أو صهاينة؛ وضّحه سيد قطب - رحمه الله -
في قوله: «المنافقون والمنافقات من طينة واحدة، وطبيعة واحدة، المنافقون في كل
زمان وفي كل مكان تختلف أفعالهم وأقوالهم، لكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين
واحد؛ سوء الطويّة، ولؤم السريرة، والغمز والدسّ، والضعف عن المواجهة، والجبن عن
المصارحة»[9].
ولئن كانت طينة المنافقين واحدة، فإنهم
ليسوا سواءً، فهم يتفاوتون في المكر والخداع، ولؤم الطباع؛ ففيهم منافقون مردوا
على النفاق، ومنهم من صار منافقاً خالصاً، وهناك من يغلب نفاقه على إيمانه[10]،
فالنفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان يتبعض ويتشعب، فالإيمان بضع وستون شعبة.
ومن ذلك أن منافقي هذا الزمان أخبث من
المنافقين الأولين، فإن الأولين يخفون نفاقهم بخلاف المنافقين الذين جاؤوا من
بعدهم، فإنهم يجاهرون بنفاقهم وزندقتهم، كما جزم به الصحابي الجليل حذيفة بن
اليمان - رضي الله عنهما - والخبير بالمنافقين وأمين سرّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حيث قال: «المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن
هؤلاء يعلنون»[11].
ومعرفة المنافقين القدامى ثابتةٌ إذا تكلموا
ونطقوا، كما قال عز وجل: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَـحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، فمعرفتهم
متحققة في لحن الكلام، أما المنافقون المتأخرون فإنهم يُعرفون بصريح المقال
والفعال، وخبيث الكلام وشنيع الأعمال.
وهذا التقرير يقودنا إلى مسألة مهمة، وهي:
هل يقال عن الشخص أنه منافق إذا أظهر علامات النفاق؟
أجاب عن ذلك الشيخ سليمان بن عبد الله بن
محمد بن عبدالوهاب – رحمهم الله - بقوله: «من ظهرت من علامات النفاق الدالة عليه
كارتداده عند التخريب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا لو
نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض
الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها
علامات للنفاق، وصفات المنافقين؛ فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه، وتسميته منافقاً»[12].
لقد أمر الله تعالى بجهاد المنافقين والغلظة
عليهم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ} [التوبة: 73].
ومجاهدتهم تحتاج إلى جهد وعناء، وتضحية
وإعداد، وشدة مراس، وقوة حجاج؛ فالمنافقون يتظاهرون بالإصلاح وهم المفسدون، وهم
أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب تلبيس وتلوّن، ويتكلمون بفصيح الخطاب، وبديع البيان،
فلربما انخدع بهم الفئام من العامة والخاصة، فأصغوا إلى قولهم، واستجابوا لهم، قال
تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: ٧٤]، أي
مستجيبون لهم.
وعن عمران بن حصين – رضي الله عنهما - قال:
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان»[13].
قال المناوي في التيسير: «كل منافق عليم
اللسان: أي عالم للعلم منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة،
مغر الناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام»[14].
إن مجاهدة المنافقين بعلم وبصيرة، ومجالدتهم
بالحجة والبرهان؛ تعقبها تهافت النفاق، واندثار أهله، ومثال ذلك أن الخليفة
العباسي القادر بالله كتب سنة 402هـ محضراً يكشف حقيقة الباطنية للمنافقين، ويهتك
أستار العبيديين الذين حكموا مصر والمغرب - آنذاك - واستفحل نفوذهم، وانتشرت
دعوتهم.. ففي هذا المحضر: بيان أن الحاكم العبيدي وأسلافه زنادقة منافقون، يستحلون
الخمور، ويسبّون الأنبياء، ويلعنون السلف الصالح[15].
لقد فضح هذا المحضر هؤلاء الزنادقة، حتى
اضطر الحاكم العبيدي في سنة 403هـ – وهي السنة التي تلت كتابة المحضر - إلى إظهار
منع الناس من سبّ الصحابة - رضي الله عنهم - ومعاقبة من يفعل ذلك[16]!
ومما يجدر التنبيه إليه في آخر هذه السطور،
أن أئمة السلف كابن المبارك ومالك وأحمد وغيرهم، يطلقون لفظ «الزنادقة» على
المنافقين، ويقرّرون أن النفاق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فيمن
بعده[17].
وليس هذا عدولاً منهم عن لفظ «النفاق» الذي
ورد ذمه في نصوص الوحيين، فالسلف لم ينكروا الألفاظ المستجدة لأجل حدوث ألفاظها،
فلا مشاحة في الاصطلاح، وإنما لأجل اشتمالها على باطل وضلال، ولفظ الزندقة عمّ
وانتشر وظهر واستفحل في زمانهم، وسلفنا الأوائل يفقهون مراد الشارع، ويدركون
الواقع، وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يمنع من ذلك[18]،
فأطلقه السلف مع التبيين والتوضيح، فصار «الزنديق» هو المنافق الذي يظهر الإسلام
ويبطن الكفر، لا سيما أن المرجئة يزعمون أن لا نفاق[19]!
فإظهار الإسلام وإبطان الكفر واقع مشاهد مكرور عبر العصور، سواء سمّي نفاقاً أو
زندقة، وسواء أثبتنا وجود النفاق والمنافقين في الماضي والمستقبل - كما عليه أهل
السنة والجماعة -، أو أُنكر وقوع النفاق بعد عهد النبوة - كما عليه المرجئة -
والله أعلم.
أعاذنا الله من النفاق، ومنَّ علينا
بحلاوة الإيمان.
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
[1] حكاه العلامة محمد رشيد رضا في
فتاويه 6/2540، وهذه الحادثة وقعت
سنة
1933م.
[2] مجموع الفتاوى 28/434.
[3] ينظر: المنافقون
في القرآن لعبد العزيز الحميدي، والفتاوى الفقهية لحسن اليوبي ص 230.
[4] مجموع الفتاوى 12/340،339 = باختصار.
[5] تفسير المنار 5/ 227.
[6] الفتاوى لابن تيمية 28/ 435.
[7] مدارج السالكين 1/ 358.
[8] مدارج السالكين 1/ 347.
[9] في ظلال القرآن 3/ 1673.
[10] ينظر: الإيمان
لابن تيمية ص 199، 257، 268.
[11] أخرجه الفريابي في صفة المنافق (53).
[12] الدرر السنية 7/80،79.
[13] أخرجه الطبراني 18/237،
والبيهقي في الشعب 2/161، وصححه الألباني في الجامع الصغير.
[14] التيسير 1/52.
[15] ينظر: المنتظم
لابن الجوزي 15/82، البداية لابن كثير 11/345.
[16] ينظر: اتعاظ
الحنفا 2/98.
[17] ينظر: الزنادقة
لسعد العريفي 1/57.
[18] ينظر: بيان
تلبيس الجهمية لابن تيمية 3/47.
[19] السنة للخلال 5/72،
وصفة النفاق للغريابي (93).