التعليم الإسلامي في غرب إفريقيا خلال القرن 16م
لعبت المؤسسات والمعاهد التعليمية في
إفريقيا الغربية دوراً كبيراً في إثراء الحركة الفكرية، حيث اهتمت مملكة سنغاي[1] في
عهد الأسكيا محمد[2]، الذي لُقب بصديق العلم
والعلماء، بنشر العلم و تشجيع العلماء وطلاب العلم؛ فقد كانت مملكة سنغاي إلى حين
سقوطها من أكثر الممالك الإسلامية في إفريقيا الغربية تشرباً لمفاهيم الإسلام؛
ولهذا سجل لها المؤرخون اهتماماً بالغاً بالعلم، وكان ذلك كله مستمداً من توجيهات
الإسلام. ومن الملاحظ أنَّ المعلمين على اختلاف
طبقاتهم كانوا يحظون باحترام كبير، سواء من طرف الأهالي أو السلطة.
الوسائل التي ساعدت
على انتشار الثقافة العربية الإسلامية بغرب إفريقيا
انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في
إفريقيا الغربية بفضل ثلاث وسائل رئيسة، هي: طرق
القوافل التجارية، والتجار العرب المغاربة وتنظيماتهم، والدعاة والمبشرون الأفارقة. غير
أنَّ العامل الأهم في نظري الذي ساعد على انتشار الإسلام في تلك المنطقة، يعود إلى
الدين الإسلامي نفسه؛ فهو ذو نظام اجتماعي راقٍ يدعو إلى المساواة بين الناس، لا
يقيم وزناً لفوارق اللون والطبقة، وإنما الفارقة من خلال ما يفعله العبدُ من أعمال
صالحة؛ لذلك فإنَّ الدين الإسلامي كثيراً ما يوصف بأنَّه أكثر الأديان ديمقراطية،
يقول المولى عزَّ وجل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
ومنذ اكتمال مراحل التعريب وسيادة الدين
الإسلامي في مناطق المغرب العربي بالقرن الثاني الهجري/ الثامن
الميلادي؛ بدأت القبائل العربية تتوغل نحو الجنوب حتى وصلت إلى السودان الغربي (إفريقيا
الغربية)، ولم تقف الصحراء عائقاً دون تواصل الروابط
والصلات المتعددة، فقد كانت طرق ما وراء الصحراء ومسالكها ومنافذها من العوامل
المهمة التي ساعدت على تدفق المؤثرات العربية الإسلامية إلى مناطق إفريقيا الغربية.
وبدأت رقعة الإسلام في حالة انتشار مستمر،
لا سيما بعد سقوط مملكة غانة[3] الوثنية
عام
1076م، وما نجم عن المد القادم من الشمال
الإفريقي، وقيام ممالك إفريقية إسلامية بلغت تقدماً حضارياً ملحوظاً نتيجة
اعتناقها الإسلام[4].
ومثلما كانت طرق القوافل التجارية شرياناً
للمعاملات الاقتصادية بين مراكز الشمال الإفريقي وإفريقيا الغربية، فقد ظلت في
الوقت نفسه إشعاعاً للمؤثرات الثقافية؛ حيث أصبحت المحطات التجارية المنتشرة على
طول طرق القوافل التجارية عبر الصحراء، أماكن لاحتكاك الأفكار تأثيراً وتأثراً، وذلك
بفضل ما تقدمه للمسافرين من مأوى وسبل الراحة والاستجمام. كما
ازدهرت المراكز التجارية المهمة في إفريقيا الغربية من الناحيتين الاقتصادية
والثقافية، وأشهرها: كاو، وجني، وتنبكت.
وإلى جانب إنعاش المجالات الاقتصادية، فقد
لعب بعض المراكز في الشمال الإفريقي، مثل: طرابلس
وتلمسان ومراكش والقاهرة؛ دوراً بارزاً في نشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية
في إفريقيا الغربية، الأمر الذي يلفت نظر الباحثين إلى ظاهرة صلة التجارة بانتشار
الإسلام في تلك المناطق[5].
ومما لا شك فيه أنَّ مملكتي مالي وسنغاي لم
تصلا إلى ما وصلت إليه من عظمة وقوة إلا بعدما أضحى الإسلام عصب قوتها الروحية
والمادية، وصارت اللغة العربية لغة الكتابة الرسمية.
وقد كان التاجر المسلم داعية لدينه يجمع بين
نشر الدعوة الإسلامية وبيع سلعه، فالتجارة من طبيعتها أن تصل التاجر بصلة وثيقة
بمن يتعامل معهم، خاصة إن كان يتحلى بالصدق والأمانة والخلق الحسن، وهذه المُثل
الأخلاقية السامية كثيراً ما تتوافر لدى التاجر المسلم الذي سرعان ما يلفت إليه
الأنظار عند دخوله قرية وثنية، وذلك لكثرة وضوئه ونظافته، وانتظام أوقات صلاته
وعبادته. وقد جعلته هذه الصفات الحميدة، إضافة إلى
نظافة البدن والملبس؛ أهلاً لثقة الأهالي الوثنيين، وقدوة حسنة للاقتداء به
وتقليده[6].
ويذكر أنَّ دور التجار العرب لم يقتصر على
مجال التجارة والأنشطة الاقتصادية فحسب، بل تعداه إلى التبشير بالدين الإسلامي
وتعميق الصلات الثقافية بنشر اللغة العربية، وبناء المساجد والمدارس لتعليم القرآن. وهكذا
أضحى التجار العرب يقومون بمهمة الدعاة المسلمين، إلى جانب نشاطهم التجاري؛ فحملوا
معهم العقيدة الإسلامية والحضارة العربية.
فالدعاة، سواء أكانوا من العرب أم الوطنيين
الأفارقة، يعدون وسيلة من الوسائل التي ساعدت على ازدهار الحضارة العربية
الإسلامية، وقد كانوا يدعون الناس إلى الإسلام، ويفقهونهم في أمور دينهم، وذلك
لإلمامهم بأصول الدين والشريعة الإسلامية ومبادئها السامية؛ لذا حظي هؤلاء الدعاة
بتقدير الأهالي لهم، إذ أصبح كثير من قرى سنغاي في أيام الأسكيا محمد تضم كل منها
داراً لاستقبال هؤلاء المعلمين الفقهاء الذين كانوا يعاملون بأعظم مظاهر الاحترام[7].
ويلاحظ أنَّ معظم أولئك المعلمين قد درسوا
في المراكز الثقافية في الشمال الإفريقي ومصر، وتأهلوا للدعوة الإسلامية بين
الأهالي والتأثير فيهم.
وتطالعنا المصادر التاريخية أنَّ السلطان
الأسكيا الحاج محمد كان حريصاً على الاقتداء بالدعاة المسلمين، وعلى إرسال طلاب
العلم إلى تلك المنارات العربية الإسلامية في الشمال الإفريقي، مثل فاس والقاهرة
وطرابلس؛ لينهلوا من منابعها ويعودوا إلى أوطانهم ليسهموا بشكل أو بآخر في نشر
الإسلام بين ربوعها. وقد وجد الدعاة تشجيعاً كبيراً من الأسكيا
الحاج محمد ومن جهاته الرسمية، وفي ظل هذا التشجيع بدأ الدعاة والفقهاء والمحسنون
في تأسيس المدارس التي كانت قُبلة لأبناء المسلمين والوثنيين على حد سواء دون
تمييز، الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بنجاح باهر
بين أهالي إفريقيا الغربية. وأصبحت هذه المدارس
تتكاثر وتزدهر، حتى إنَّ بعضها أضحى مركز إشعاع حضاري يستقطب أبناء مملكة سنغاي
بصفة خاصة، وأبناء إفريقيا الغربية بصفة عامة، دون اعتبار لفارق الدين أو اللون[8].
وتجلت مظاهر الحضارة العربية الإسلامية في
سنغاي في عهد الأسكيا محمد وخلفائه، وترتب عليها تكوين حكومة ونظم إدارية متقدمة،
بحيث انتقلت من حياة المجتمعات القبلية المتفككة إلى مجتمع الدولة المركزية، وحدث
الامتزاج الكامل بين النظم العربية الإسلامية والأنماط الإفريقية المحلية، وتكوّن
عنصر جديد يوائم بين ما غرسه الإسلام من ثقافة عربية، وبين بعض الموروث من
التقاليد والأنماط الإفريقية؛ أي برزت الشخصية الإفريقية في إطار إسلامي.
والمعروف أنَّ ملوك الممالك الإفريقية
وسلاطينها درجوا على الخروج إلى الحج في مواكب حافلة تضم أعداداً كبيرة من
الأفارقة، وقد أسهمت هذه الرحلات الحجية في توطيد العلاقات التجارية والثقافية بين
الممالك الإفريقية وأقطار المغرب العربي ومصر والحجاز، كما ساعدت على التعريف بتلك
الممالك، ونتيجةً لذلك توافد إليها التجار والعلماء والفقهاء من شتى أرجاء العالم
العربي والإسلامي.
المراحل التعليمية
ومناهجها الدراسية
أولاً: مرحلة
التعليم الابتدائي (الكتاتيب):
قبل الحديث عن هذه المرحلة، تجب الإشارة إلى
أنَّ عملية التعليم تختلف جزئياً بين الأقطار الإسلامية، وقد أوضح العلامة ابن
خلدون ذلك في مقدمته عندما تحدث عن تعليم الأولاد واختلاف مذاهب الأمصار
الإسلامية، حيث قال: “إنَّ تعليم الأولاد للقرآن الكريم شعار من
شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ورجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب
من رسوخ في الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل
التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات... واختلفت
طرقهم في تعليم القرآن للأولاد باختلافهم، باعتبار ما ينشأ من ذلك التعليم من
الملكات”[9].
المهم في هذا الموضوع هو أنَّ أهل إفريقيا
الغربية جرت العادة عندهم على أنْ تقتصر الدراسة على حفظ القرآن الكريم، وتلاوته،
وتعليم العقائد والعبادات.
وتعد المرحلة الابتدائية أساسية للطلاب، حيث
يتزودون فيها بمعرفة مبادئ القراءة والكتابة. وعادة
ما تضم هذه المرحلة الطلاب صغار السن، بداية من سن الخامسة حتى مرحلة الصبا. وكانت
مدة بقاء الطالب فيها تراوح بين الخمسة والستة أعوام في المتوسط؛ يحفظ فيها أجزاء
من القرآن الكريم، ويتقن فن الكتابة والخط، ويلمّ بمبادئ اللغة العربية.. وكل
ذلك يتم عن طريق الكتابة على الألواح الخشبية. إنَّ
هذه المرحلة من التعليم تقوم بها الكتاتيب، وقد اختلفت مسمياتها في إفريقيا
الغربية باختلاف قبائلها؛ فقبيلة الولوف تطلق عليها اسم “دارا”،
وقبائل بلاد شنقيط (موريتانيا) يعرفونها
بـ “المحظرة”،
أما قبائل التكرور فيدعونها “ديا لجانتي”،
في حين تسمي قبائل أخرى معلم الكتاتيب “معالام”،
وهو تحريف للفظ معلم[10].
إنَّ هذه الكتاتيب منتشرة في معظم المدن
والقرى بإفريقيا الغربية، حيث يُدرّس معلموها الطلبة في مدارس ملحقة بالمساجد، حيث
كانت بجانب كل مسجد غرفة أو غرفتان للتدريس، وقد يتم التدريس في دور قريبة من
المسجد، أو حتى تحت ظلال الأشجار، كما كانت هناك نزل لإقامة الطلاب الذين يأتون من
أماكن بعيدة، إلا أنَّ المساجد ظلت بمنزلة المقر الرئيسي لتلقي العلم، إذ كانت
تعقدُ فيها حلقات الدراسة والمناقشة في المسائل الدينية[11].
وعن مكانة المعلم وتكريمه كان أهالي إفريقيا
الغربية، خاصة مملكة سنغاي، يجزون العطاء للمعلمين، وعندما يصل الطفل إلى إجادة
جزء لا بأس به من القرآن الكريم، يقوم والده بتقديم هدية معينة للمعلم. ومن
بين أساليب التعليم لديهم: إعطاء راحة أسبوعية
للطلبة، يقول الرحالة الحسن الوزان: “ولهؤلاء الأطفال شأن طلاب
المعاهد، يومان في الأسبوع للراحة لا يكون في أثنائها تعليم ولا دراسة”[12].
أما عن منهج الدراسة لهذه المرحلة، فتطالعنا
المصادر المحلية أنَّ الطابع المغربي هو السمة الأساسية لهذه المناهج، وذلك نتيجة
العلاقات والصلات الثقافية التي ظلت تربط إفريقيا الغربية بالشمال الإفريقي منذ
القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وقد
وضحت معالم هذا المنهج المغربي في الأسلوب والكتابة والخط[13].
وفي بداية الأمر كان التعليم في هذه المرحلة
مقتصراً على الفقهاء والدعاة القادمين من الشمال الإفريقي، لكن سرعان ما تكوّنت
طبقة مثقفة من الوطنيين الأفارقة تولت مهمة التعليم، خاصة في مملكة سنغاي، وكان
أغلبهم من الفقهاء الذين أتقنوا اللغة العربية، التي هي لغة الدين والثقافة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى أقطار العالم
الإسلامي في العصور الوسطى، فإنَّ إفريقيا الغربية لم تكن تعرف مرحلة التعليم
الثانوي التي تؤهل الطالب للالتحاق بالتعليم الجامعي، فكان على الطالب بعد اجتيازه
بنجاح مرحلة التعليم الابتدائي أن يواصل نفسه بنفسه في إطار دراسة حرة غير نظامية
ترتكز على حضور حلقات دراسية كانت تعقد في مسجد المدينة على أيدي بعض المدرسين
والعلماء الأكفاء، المتخصصين في علوم الحديث والتفسير، والفقه، والتاريخ، والسيرة
النبوية، والعلوم العربية والدينية، والمنطق، وغيرها.
ثانياً:
مرحلة التعليم العالي:
تختلف هذه المرحلة كثيراً عن مرحلة التعليم
السابقة لها، فهي تعادل ما يُطلق عليه في يومنا هذا المرحلة الجامعية. والدراسة
في هذه المرحلة تتميز بالتعمق في القضايا، والخوض في المسائل التفصيلية والشروح
الدقيقة التي ضمتها بعض أمهات المؤلفات الكبيرة التي عرفها المسلمون في ذلك الوقت. ومن
أشهر المساجد التي اهتمت بالمرحلة العالية: مسجد
سنكري. وتحدثنا بعض المصادر التاريخية أنَّ الأسكيا
الحاج محمد كان يخصص أوقافاً لتنفق على الطلاب المتفرغين للعلم والدراسة[14].
وكان التعليم في جامعة سنكري يشمل المناهج
الدراسية التي كانت تتضمن: التوحيد، والتفسير،
والحديث، والفقه، والعلوم العقلية، وغيرها من المعارف التي كانت تشكل في الوقت
ذاته الدعائم الأساسية للعلوم الإسلامية. وقد اشتهرت جامعة تنبكت
بتدريس المذهب المالكي، الذي كان يقوم بتعليمه علماء ضالعون في مادته، سواء من
الإفريقيين أو الزائرين من أساتذة القاهرة وفاس، الذين كانوا يأتون لإلقاء الدروس
على الطلاب الذين يفدون على هذه الجامعة من كل مكان من مناطق إفريقيا الغربية
المجاورة.
أما فيما يخص المنهج الدراسي المتبع في هذه
المرحلة، فهو تدريس المواد بشكل تخصصي وتفصيل واسع، إضافة إلى الاستعانة بالكتب
نفسها التي كانت تدرس في مؤسسات التعليم العالي بالمغرب العربي، الأمر الذي يعكس
مدى تأثير المؤلفات المغربية في الحياة الثقافية والفكرية في إفريقيا الغربية؛
ومنها كتب القاضي عياض، وسحنون، وشروح ابن القاسم، وكتب المغيلي، وموطأ الإمام
مالك، وغيرها.. وهي كتب كان العلماء يقومون بتدريسها، شرحاً
وتعليقاً، سواء عن طريق المشافهة أو عن طريق الكتابة، إضافة إلى تدريس الحديث
النبوي الشريف.
ولما كان أغلب طلاب جامعة تنبكت من غير
العرب، وجب العناية بدراسة اللغة العربية، ومن أجل هذا كانت مادة اللغة العربية من
المواد المهمة التي تُدرّس في جامعتها. ومن أشهر الكتب التي كانت
تدرس في النحو: ألفية ابن مالك، والخزرجي. أما
فترة الدراسة فلم تكن محددة بزمن معين، بل كانت مشروطة بانتهاء الطلاب من استيعاب
عدد معلوم من كتب الحديث والفقه والمنطق والنحو؛ فمثلاً يذكر لنا مؤرخ تنبكت عبد
الرحمن السعدي “أنَّ الطلبة كانوا يقضون أكثر من ثلاث سنوات
في قراءة موطأ الإمام مالك وغيره من الكتب”[15].
ثالثاً:
التعليم المهني (الحرفي):
رغم قلة انتشار هذا النوع من التعليم
واقتصاره على مهمة الخياطة وبعض المهن الحرفية الأخرى؛ كصناعة السيوف والحراب؛
فإنَّ التدريس في هذا النوع كان يتولاه معلمون متخصصون عُرفوا بـ “الشيوخ
الرؤساء”، حيث كان التدريس والعمل يتم في بيوت وفي
مقر عمل شيوخ المهنة. وقد ذكر المؤرخ محمود كعت أنه يوجد في مدينة
تنبكت وحدها 26 بيتاً من بيوت الخياطين، ولكل بيت من تلك
البيوت شيخ معلم، وقد بلغ تلاميذهم ما بين 75 إلى 100 تلميذ[16].
الإجازات:
إن شهادة التخرج أو الإجازة هي إقرار
الأستاذ بأهلية الطالب بعد تحصيله التام لفن من الفنون، ويقع النطق بذلك الإقرار
أو يحرر على ورقة تدفع للطالب المتخرج. ووجدت في الواقع ثلاث
درجات للإجازة، هي: شهادة السماع، وتعني أن الطالب تتبّع أقوال
العالم وحفظها. وشهادة العرض، أي سرد الطالب على أستاذه مع
استذكاره النصوص ومعرفته شروحها. ثم الإجازة الكاملة، وهي
أن يصل الطالب إلى المرحلة التي يستطيع معها ذكر الأسانيد وإرجاعها لمصدرها الأول
وذكر الفوارق في الروايات بعد الإلمام بفن معين من الفنون.
وقد تتعدد المواضيع التي يتقنها الطالب
ويكثر أساتذته فيها جميعاً، لكن الإجازة لا تعطى إلا في أحوال نادرة، أي عندما
يتأكد المدرس أن الطالب متمكن من مادة أو من إتقانها إتقاناً تاماً، ويلاحظ
مواظبته على تلك المادة واهتمامه بها، وأيضاً عندما يطمئن الأستاذ إلى بلوغ الطالب
مرحلة التعليق والمناقشة والاجتهاد، وقد يكون على المجاز أن يلقي درساً بمحضر
أستاذه لتحصل لديه القناعة بالحكم الذي سيصدره والشهادة التي سيشهد بها[17].
ولا تعطى الإجازة أو ينطق بها لأكثر من شخص
واحد، فلم تكن شهادة جماعية، وقد يضم مجلس علمي مجموعة من الطلبة ويحصل كل واحد
منهم على إجازة في فن مستقل متمايز، ثم يبقى طالباً عادياً في فن أو فنون أخرى،
ويحضر بانتظام حلقات أستاذه فيها.
وتتضمن الإجازة المكتوبة تصريحاً من المدرس
بأنه حضر عليه مواد متعددة لكنه برع في مادة خاصة، ولذلك فهو يجيزه في جميع ما يحوز
له إن كانت للمدرس كتب من تأليفه، وما يحوز له من غيره إن كان الكتاب من وضع شخص
آخر[18]. ومما يدل على مدى تحري
الأساتذة وحرصهم على الإنصاف ما جاء في إجازة أحمد بابا عن أستاذه محمد بن محمود
بغيغ[19]، وما تضمنته إجازته على
يد أحمد المقري في مصنفات الأحاديث النبوية الستة بعد أن رواها كلها بالسند
السوداني المتصل بروايات واضعي تلك المصنفات، وقد كتبت تلك الإجازة بمراكش في 15 ربيع
الآخر عام 1010 للهجري/ 13 أكتوبر 1601م.
ولقد تشابهت الإجازات بين إفريقيا الغربية
والمغرب بفضل الاتصال بين علمائهما، وبصفة خاصة بعد عودة علماء السودان المهجرين
إلى وطنهم، ويمكن من مراجعة تراجم علماء تنبكت وفقهاء المالكية السودانيين أن نميز
بين نوعين من الإجازات التي أعطيت لبعض المتخرجين: إجازات
خاصة تهم فناً أو عدة فنون متحدة الموضوع، وإجازات عامة تشمل فنوناً وعلوماً
متباينة، ويقع النص على كل نوع في نص الإجازة نفسها، ومن أمثلة النوع الأول: الإجازات
القرآنية والحديثية، وكان يراعى فيها الاحتياط في قراءة النص والمعرفة التامة
بالقراءات السبع واختلاف الروايات الحديثية. أما
الإجازات العامة فتقتضي ختم عدة مواد على النحو الذي يؤهل المجاز لرواية العلم عنه
والقدرة على تبليغه للآخرين، ولم يكن ذلك متأتياً إلا لمن لزم المجالس العلمية
لسنوات طويلة قد تشمل جانباً كبيراً من حياة الطالب.
الخاتمة
في ختام هذا البحث نجد أنَّنا توصلنا إلى
عدد من النتائج والملاحظات المهمة نجملها في النقاط التالية:
يلاحظ أنَّ الإسلام انتشر بمنطقة إفريقيا
الغربية بطرق سلمية بعيدة عن منطق الحرب والصراعات.
ما كان أيضاً لهذا الدين الحنيف أنْ يستمرَّ
ويصمُدَ، بل يتوطَّد ويتجَذَّر طيلةَ القرون الماضية، لولا أنَّ الأفارقة أنفسَهم،
على اختلاف أعراقهم وقومياتهم، أقبلوا عليه بمحض إرادتهم ورغبتهم، وأحاطوه
بحبِّهم، ونَصَروه بسيوفهم، وأسكَنُوه في أعماق قلوبهم وجوارحهم، حتى أصبح مرجعية
وقدوة لهم في جميع أعمالهم وسلوكهم.
لعب التجار والدعاة المسلمون دوراً كبيراً
في تعريف الإفريقيين بالآداب الإسلامية، وقواعد الدين، وتنظيم المجتمع على أسس
جديدة مبنية على العدل والمساواة.
أدت المراكز الثقافية الإسلامية دوراً
كبيراً في ربط الفكر الديني العربي بالحضارات الإفريقية، وسار ذلك الربط في نطاق
التأثير المتبادل دون حدوث نكسات أو أي مظهر للرفض من طرف الأفارقة، الذين أصبح ما
تعلموه جزءاً من كيانهم الخاص، وهذا ما أطلقنا عليه “المدرسة
الإفريقية”.
حظي التعليم الإسلامي في إفريقيا الغربية
باعتبار كبير من طرف السلطة والشعب، بالنظر لما كان يُتيح لطالبه مكانة مرموقة في
المجتمع بعد تحصيله، ولارتباطه بالمقومات الدينية، ولِما كان يتمتع به العالم من
تقدير من الحكام وتقديس من العامة.
مرَّ التعليم الإسلامي بمنطقة الدراسة بثلاث
مراحل، هي: مرحلة التعليم الابتدائي، ومرحلة التعليم
العالي، ومرحلة التعليم المهني.
أما بخصوص منهج الدراسة لمراحل التعليم
الإسلامي، فكان مغربي السمات نسبةً للعلاقات التاريخية والثقافية التي ظلت تربط
إفريقيا الغربية بالشمال الإفريقي منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي
عشر ميلادي. وقد وضحت معالم هذا المنهج المغربي في
الأسلوب والكتابة والخط.
فيما يتعلق بنظام “الإجازات” أو
الشهادات، فقد كان الأستاذ كلما رأى من أحد طلبته تمكناً كافياً في مادة من المواد
التي درسها الطالب على يديه، يقوم بإعطائه إجازة بخط يديه، مراعياً بدقة مدى
الكفاءة التي يكون الطالب قد حصل عليها.
وأخيراً وليس آخِراً، من حق القارئ هنا أنْ
يتساءل عن واقع التعليم الإسلامي في إفريقيا الغربية خلال الفترة الاستعمارية، أي
القرنين 19 و20م؟ وعن أهم الصعوبات
والعراقيل التي واجهته؟ وتلك إشكاليات نتمنى أنْ تُتاح لنا محاولة الإجابة عنها في
بحث قادم إن شاء الله.
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
[1] مملكة سنغاي: تأسست هذه المملكة في القرن السابع الميلادي
من قبل قبائل سنغاي المقيمة على وادي النيجر بين بوريم وساي. دخلها الإسلام في
القرن الحادي عشر الميلادي على يد المرابطين على المرجح، ولقب أمراؤها بـ
«زا» حتى سنة 1335م، ثم بـ «سني». وكانت عاصمتهم كوكيا على نهر النيجر الأدنى، ثم
انتقلت إلى كاغ. وقد حكمت مملكة سنغاي عائلة ضياء التي يظن أنها من منطقة طرابلس
حتى سنة 1335م، حيث أعقبتها أسرة سني. وعرفت هذه المملكة ذروة مجدها وتوسعها في
عهد أسرة الأسكيا التي امتدت حدودها إلى المغرب الأقصى تقريباً، وشملت مناجم الملح
في تغازة، وكانت أراضيها شرقاً تشمل بلاد الحوسا وتتصل بأراضي سلطنة
برنو. سقطت هذه المملكة نتيجة هذا الصراع بعد الحملات التي وجهها أحمد
المنصور السعدي أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وذلك في إطار الرغبة في الاستيلاء
على مصادر ثروة المنطقة، والتي كانت منذ القديم مصدر تزاحم بين قبائل ودول
المنطقة.
[2]
الأسكيا محمد (1493ــ 1528م): هو أول ملوك آل أسكيا ومؤسس حُكم دولتهم، تولى
السلطة سنة 898هـ/1493م بعد الإطاحة بسني بارو، آخر ملوك أسرة سني. وأشار المؤرخ
محمود كعت إلى أنَّ هذا السلطان كان جليل القدر بين أهله، كما كانت له من المناقب
وحسن السياسة والرفق بالرعية والتلطف بالمساكين ما لا يحصى، ولا يوجد له مثيل لا
من قبل ولا من بعد. وأجمعت أغلب المصادر على حنكته وقدرته على إقامة تنظيمات
إدارية جيدة، إلى أن أصيب بالعمى وعزله ابنه أسكيا موسى، وتولى الحُكم محله، وبعد
الإطاحة به دخلت مملكة سنغاي منعطفاً جديداً تميز بالصراع المرير بين الأمراء حول
الحُكم، لهذا انتشرت في صفوفهم الحرب والفتن، وهو ما أدى إلى انهيار كل ما بناه
هذا السلطان. راجع: محمود كعت، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وآكابر
الناس، الطبعة الأولى ( باريس: ميزونوف، 1981)، ص 59.
[3]
إن مملكة غانة القديمة كانت تشغل المنطقة الواقعة عند الطرف الجنوبي من الصحراء
الكبرى إلى الشمال مباشرة من أعالي نهري السنغال والنيجر، فهي تبعد نحو خمسمائة
ميل إلى الشمال الغربي من أقرب نقطة عند حدود دولة غانة الحديثة التي اتخذت اسمها
منها بوصفها أعرق ممالك السودان. إن المعلومات المتوافرة لدينا عن مملكة غانة
القديمة التي بلغت أوجها في القرن العاشر الميلادي، مستمدة مما كتبه الجغرافيون
العرب، خصوصاً ابن حوقل والبكري. وكان اسم غانة يُطلق على الملوك وكذلك على البلاد
وعاصمتها. وقد اندثرت مدينة غانة، إلا أن الحفريات الأخيرة اهتدت إلى موقع الحي
الإسلامي منها في كمبي – صالح (جنوب موريتانيا)، وعثر فيه على حجارة عليها كتابات
عربية تتضمن آيات من القرآن الكريم. وكان رخاء مملكة غانة يقوم بالدرجة الأولى على
سيطرتها على تجارة الذهب، ولذلك عُرفت ببلاد الذهب.
راجع:
أبو القاسم محمد بن علي، صورة الأرض، (بيروت: مكتبة دار الحياة، 1979)، ص 96.
[4]
جميلة محمد التكيتك، مملكة سنغاي الإسلامية في عهد الأسكيا محمد الكبير 1493ــ
1528م، ( طرابلس: منشورات مركز جهاد الليبيين، 1998)، ص 157.
[5]
التكيتك، ص 157.
[6]
توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين
وآخرون، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1970)، ص 391.
[7]
حسن إبراهيم حسن، انتشار الإسلام في القاهرة الإفريقية، الطبعة الثانية، (القاهرة:
مكتبة النهضة المصرية، 1963)، ص 213.
[8]
التكيتك، ص 159.
[9]
عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، (القاهرة: دار الشعب للنشر والتوزيع، د.ت)، ص 505.
[10]
الحسن الوزان، (المعروف بليون الإفريقي)، وصف إفريقيا، ترجمة عن الفرنسية محمد حجي
ومحمد الأخضر، الجزء الثاني، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1983)، ص 263.
[11]
التكيتك، ص 168.
[12]
الوزان، ص 264.
[13]
أبي العباس أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، الجزء الخامس، (القاهرة:
المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1963)، ص 296.
[14]
التكيتك، ص 147.
[15]
عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ترجمة أوكتاف، هوداس، (باريس : ميزونوف، 1981)،
ص 46.
[16]
كعت، تاريخ الفتاش، ص 180.
[17]
عبد القادر زبادية، «القرن 16 وحركة التعليم في تنبكتو مركز التبادل الثقافي الأول
مع العرب»، المؤرخ العربي، العدد 14، (1980)، ص 224.
[18]
إن أول إجازة قرأنا عنها هي التي نالها العالم محمد بابا بن محمد الأمين المختار
من الفقيه السوداني عبدالله بن أحمد بوريو، وكانت حول كتابي الشفا والبخاري.
[19]
هو نجل الفقيه محمود بن أبي بكر بغيغ الونكري قاضي مدينة جيني (1523- 1593م).