النتائج والآثار الاستراتيجية لصد العدوان على غزة
لا
غرو، ليستمر الجدل حول عدوان «الجرف الصامد» على غزة، الذي حولته المقاومة الفلسطينية إلى معركة «العصف المأكول»، عما إذا كان يعد نصراً للمقاومة
الفلسطينية، خصوصاً حماس، مثلما يقر العالم، مقاومة وصهاينة، وغرباً وشرقاً؛ أو
هزيمة للمقاومة مثلما يصر نظام نتنياهو وصهاينة العرب.. فمثل هذه المعارك التي تبدو غير حاسمة قد يحلو للمنهزمين
تصويرها على غير ما جرت عليه، وسيكون بين أيديهم بعض الشواهد الضعيفة للتسويق
لادّعاءاتهم.. هذا ليس مهماً؛ فالذي يقيس المعارك
المفصلية بما يتراءى من خلال الميدان أمكنه أن يسبح بخيالاته متى وجد هذا مُرضياً!
الاستراتيجيات الكبرى، والتأملات العميقة،
تعلمنا غير هذا؛ فلقد توقف التاريخ مراراً على معارك لم تبدُ محسومة عند النظر
إليها بعدسات الميدان الخادعة، لكنها كانت حدية وقاطعة، ومثلت فرقاناً أو أخدوداً
يفصل مرحلة تاريخية عن أخرى، وكذلك كانت «العصف
المأكول».
إن المتأمل في معارك المسلمين العظمى، لا
سيما غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلت دولته، لا بل
قفزت بها من مرحلة لأخرى في بضع سنوات؛ ليدرك أن أكثر الغزوات تأثيراً كانت تلك
التي بدت أنها لم تختم بخاتمة بسيطة يدرك كنهها البسطاء، غير أنها عبرت بتلك
الدولة الفتية من نهر ضيق إلى بحر فسيح؛ فصلح الحديبية لم يكن غزوة بالأساس، لكنه
جسد تحولاً هائلاً في علاقة دولة النبي صلى الله عليه وسلم بقبائل
العرب قاطبة، وفتح آفاقاً واسعة لم توفرها بعض المعارك الحاسمات، وهو الذي سماه
القرآن «فتحاً مبيناً» من
دون غيره من الغزوات. وحمراء الأسد التي لم تشهد قتالاً إثر معركة
أحد، لكنها كانت شديدة التأثير، وأدركت قريش بعدها أنه يتعين عليها ألا تقاتل
المسلمين إلا وهي في تحالف قبلي (كالذي دأبت القوى الغربية
على تكوينه عند قتال المسلمين حتى اللحظة)،
ولم تعد تثق بذاتها من بعدها! وغزوة الخندق التي تلت
أحد انفضت دون سقوط قتلى كثيرين في صفوف المشركين، لكنها عُدت نقطة تغير حاسمة،
ليس في تفجير هذا الكم الهائل من المبشرات عن فتوحات بلاد كسرى وقيصر وغيرهما
فحسب، وإنما في تلك المقولة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم التي
بيّنت الحد الفاصل بين مرحلة وأخرى، فقد أخرج البخاري عن سليمان بن صرد قوله: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «الآن
نغزوهم ولا يغزونا»، فالذروة التي وصل إليها المشركون في الحشد
حينها كانت تعني أن تلك آخر أمانيهم، وقد صُدت، وبدأ التراجع يتبدى منذ ذلك الحين.
معركة ستالينجراد (1942 - 1943)،
معركة الأردين أو الثغرة (1944 - 1945) في
الحرب العالمية الثانية.. رغم قسوة الحرب إلا أن
معيار النصر والهزيمة لم تكن تحدده أعداد القتلى في هذا الطرف أو ذاك، (والتي
كانت فادحة في الطرفين)، وإنما مثله التحول
الاستراتيجي لسير معارك الحرب بالكلية من خلال تلك المحطتين المهمتين.. كذا،
على مر التاريخ.
وكذا، نستطيع أن نضع المعايير القياسية
لنتائج المعركة في غزة؛ فالآثار التي تنعكس على غزة والكيان الصهيوني، والمحيطين
الإقليمي والدولي، ومدى التأثير بعيد المدى في المعركة؛ وهو ما يعنينا في حقيقة
الأمر، وللتقريب يمكن القول: صحيح أن الصهاينة قد
دخلوا الملاجئ بالملايين، لكنهم خرجوا منها الآن.. رحلوا
عن غلاف غزة، لكنهم يعودون بالجملة.. انكمش اقتصادهم، لكنه
يمكن أن يعاود.. تضررت السياحة مثلاً، غير أن الموسم القادم
قد يكون منتعشاً!
في المقابل، بوسعنا أن نتحدث عن غزة؛ فأهلها
عادوا للصيد والعمل والبناء وانفك الحصار شيئاً عنها، وما خسروه مادياً يمكن
تعويضه بدعم من هنا أو هناك.
لكن.. رصد
المكاسب الاستراتيجية وخسائرها، والتحولات، والتأثير بعيد المدى، أفقياً ورأسياً؛
هو المقصود من الحكم على نتيجة المعركة، وأهدافها، وانعكاساتها.
لنبدأ من البداية.. قطاع
محتل، مكتظ بالسكان، قاوم بالحجارة (أطفال وصبية وشباب غزة)،
ثم ببعض المسدسات (مرحلة القيادي القسامي عماد عقل ورفاقه)،
ثم التحول إلى العمليات الاستشهادية (مرحلة المهندس يحيى عياش
ورفاقه).. وهي مرحلة من الاختراق في العمق الفلسطيني (48)،
واستتبعها تضييق هائل على العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، واستبدال بعضها،
وبناء الجدار العازل، وتحييد الضفة، ثم الانسحاب الأحادي من غزة بالتزامن مع مرحلة
صناعة الصواريخ والقذائف المتوسطة، وجسدت فكرة الهجمات الصاروخية التي بدأت بدائية
جداً تجاسراً على عقبات الاختراق للجدار وللحواجز، ثم وضع إطار لإنشاء جيش صغير
واعد، وهو ما آلت إليه الأوضاع قبل العدوان الأخير على غزة.
وكل هذا يفضي إلى تقدم متصاعد في قدرة
المقاومة، لكن هذه القدرة قيست في الماضي على صعيدي الداخل والخارج؛ فالتطوير
العسكري والتكتيكي استلزم بناء جسور من العلاقات الإقليمية وضعت حركة حماس، أكبر
فصائل المقاومة الفلسطينية، في محور: إيران، سورية، و«حزب
الله»، ثم انسحبت الحركة كلية من العلاقة مع
سورية وأبقت على علاقات محدودة وفاترة مع إيران عقب اندلاع الثورة السورية،
وتحديداً حينما بدأت قوات بشار تستهدف الفلسطينيين في مخيم اليرموك السوري، وتزامن
هذا مع إقامة علاقة وثيقة مع إدارة الرئيس المصري محمد مرسي.. غير
أن كل هذه العلاقة قد تلاشت تقريباً حينما انتزعت السلطة من يد الرئيس ووضعت بيد
نظام لا يحمل أي ود للحركة الإسلامية الفلسطينية.
بدأ العدوان، ليس لأن ثمة حادثة أسر لجنود
صهاينة في الضفة الغربية، وإنما كانت طبول الحرب قد دقت في أول يوم تغيرت فيه
الأوضاع في مصر، وظن الكيان الصهيوني أن المقاومة الفلسطينية التي أوصد بوجهها 97 ٪
من الأنفاق التي كانت تربط بين غزة وسيناء، بحسب المعطيات الرسمية المصرية، لم تعد
قادرة على المواجهة، ووُضعت خطة كسر ظهر المقاومة وتسليم سلطة غزة الحقيقية فيها
إلى القيادي الفتحاوي السابق الموالي لـ «إسرائيل» محمد
دحلان، واعتبر حينها أن إنهاء حركة حماس مجرد وقت، حيث خنق الحصار نحو مليوني
فلسطيني فيها، وظُن أنهم سيدفعون بدورهم في اتجاه تحميل الحركة المقاومة مسؤولية
الاختناق الحاصل في غزة، غير أن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن الصهيونية.
فتقدير الموقف أن المقاومة لم تطلب الحرب، و«إسرائيل» وضعت
بنكاً بأهدافها، يشمل تجريد حماس والفصائل الأخرى من السلاح، وتسليم السلطة لإدارة
موالية للكيان الصهيوني، وربط فك الحصار بغياب الحركة الإسلامية، وتدمير جميع
الأنفاق التي تصل ما بين غزة وفلسطين 48 ويتم من خلالها عمل كمائن
للجيش الغاصب؛ فكانت النتيجة:
نقل المعركة إلى الداخل الصهيوني، وتهديد
مطار بن جوريون وموانئ الكيان، ووضع 5.5 مليون «إسرائيلي» في
الملاجئ.
قتل عدد أكبر بكثير من جنود النخبة الصهيونية
مما وضعت تقديره القيادة العسكرية الصهيونية للمعركة.
الإخفاق في تدمير الأنفاق، والفشل في تسليم
سلاح المقاومة، والعجز عن استهداف قيادة وكوادر وجنود الأجنحة العسكرية، والقيادات
السياسية، وتعويض ذلك بقتل عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين وتهديم بيوتهم.
هرولة «إسرائيل» منذ
وقت مبكر من حرب طويلة امتدت لأكثر من خمسين يوماً لطلب التهدئة مقابل بقاء الوضع
على ما كان عليه من حصار وغيره.
تم التوصل إلى اتفاق في القاهرة يقضي بفتح
المعابر وإعادة الإعمار ويتجاوز عن فكرة تسليم سلاح المقاومة ويتراجع في مجالي
مسافة الصيد وفكرة بناء ميناء تحت إشراف دولي وإعادة بناء مطار غزة، ويتجاهل مصير
جنديين صهيونيين مفقودين حتى الآن.
وهذه أبرز النتائج المعروفة للمعركة، غير
أن النتائج الاستراتيجية تتجاوز هذا بكثير، بما يمكن رصده فيما يلي:
فرضت حركة حماس نفسها كقوة سياسية وعسكرية
معترف بها ضمنياً تحت طائلة القوة الردعية التي باتت تمتلكها، وبهذه القوة أملت
إرادتها على جميع أعدائها وخصومها، وجعلت الضمانة الحقيقية لأي اتفاق مع الكيان
الصهيوني لأول مرة هو السلاح، ضاربة عرض الحائط بأي اعتبار لأي ضمان دولي أو
إقليمي. وعززت من هذا عبر سلسلة هجماتها البرية
والصاروخية، والإعلامية، والتقنية، التي أبقت الكيان في موضع تلقي رد الفعل، ومن
ثم لم تعد «إسرائيل» متمتعة
بهامش واسع من المناورة، والقدرة على نقض عهودها مثلما كان الحال في السابق. ويؤكد
ذلك ما قاله القيادي الحمساوي، وزير الخارجية السابق، د. محمود
الزهار، من أن حركته ستبني الميناء والمطار، وإن هددا فستقصف مطار وموانئ «إسرائيل».
اهتزت صورة الكيان الصهيوني لأول مرة في
العالم كـ «دولة» تعترف
بها معظم الدول، وسحبت من رصيدها الوظيفي، لا من سمعتها فحسب، بحيث يمكننا القول: «إن
اليهود يعودون الآن من بعد معركة غزة في الطريق العكسي تماماً الذي سلكوه كأصحاب
عقيدة وسلوك منبوذين في أوروبا قبل الثورة الفرنسية وصولاً إلى صيرورتهم دولة
محورية في المنطقة تحتفظ بعلاقات دافئة مع كل العواصم الغربية، القهقرى إلى معاودة
السلوك شيئاً فشيئاً إلى حالة الأمة المنبوذة سياسياً وأخلاقياً»،
وهذا بالطبع لم تحققه حرب غزة بشكل كامل، وإنما أدارت ظهر «إسرائيل» لعكس
طريق تنفذها، وحضورها المؤثر، وهذا ليس أثراً آنياً، بل ممتداً ما دامت موازين
القوى قائمة كما هي أو زادت لمصلحة الفلسطينيين. ونحن
نرى شعوباً أصبحت تنظر باحتقار للصهاينة كمواطني بعض دول أمريكا الجنوبية، وقطاعات
شعبية في أوروبا، وبدرجة أقل في الولايات المتحدة ذاتها.
ظل الحديث عن احتمالية زوال «إسرائيل» خجولاً
ومحدود المجال، وقاصراً على تمنيات ما قد ينظر إليهم كحالمين، لكن حرب غزة نقلت
التفكير في احتمالية زوال هذا الكيان بالكلية إلى المراكز البحثية الرئيسة وأروقة
الساسة ومفكريها الكبار، وخرج العديد من التقارير تتحدث عن هذه الاحتمالية، بما
يجعل «إسرائيل» تنتقل
تدريجياً، ولو في الحس غير الشعوري، من «الدولة الوظيفية» إلى
الطريق إلى «الدولة الفاشلة»؛
فببساطة لم يعد الأوروبيون يعتبرون تل أبيب عاصمة كعواصمهم، وإنما مدينة مهددة
تختلف جذرياً عن مدنهم، بما يوسع من هوة هذا الفارق الأمني، لتبقى «إسرائيل» حالة
وليست «دولة مستقرة» في
تقديرهم، وهذا ينعكس بدوره على دورها الوظيفي، وتقدير قدرتها على الصمود، وهيبتها،
وتأثيرها في السياسة العالمية، تدريجياً بالطبع.
وضعت الحرب قضية الهجرة العكسية على سلم
أولويات التحديات التي تواجه الكيان الصهيوني؛ فأكثر ما يقلق المخططين
الاستراتيجيين الصهاينة اليوم، هو أن ما حصل من تململ تتعدد مستوياته وجغرافيته
وآثاره بين المغتصبين الصهاينة يزداد بشكل كبير في كيان يعد نفسه «ديمقراطياً»،
لا سيما فيما يسمى غلاف غزة، ولا يمكنه في المقابل أن يمنع هجرة عكسية أو يحبس
المهاجرين لو أرادوا! ومن ثم؛ فإنه قد يفاجأ يوماً ما بمن يحزمون
حقائبهم كراهية لـ «أرض المعاد» ولا
يستطيع مع ذلك أن يحد من هجرتهم إلا عبر إعلام سقيم، سرعان ما يتبين عوار أكاذيبه.
أحبطت حرب غزة عملية نقل العقيدة القتالية
التي نجح الغرب في تجييرها بعيداً عن الكيان الصهيوني عند بعض الجيوش العربية، إلى
الشعوب ذاتها؛ فلقد كانت بيادق الرماية جاهزة لقصف فكرة التحرر والمقاومة
الفلسطينية، متخذة من حركات وفصائل المقاومة الإسلامية هدفاً لها؛ فإذا العملية
تلقى استهجاناً واسعاً من كثير من المثقفين، لا سيما في مواقع التواصل، ما نجم عنه
تراجع قد لا يكون تكتيكياً فحسب مع نجاح المقاومة في الصمود وفرض إرادتها، ومن ثم
وضعت القضية الفلسطينية مجدداً في قلب الاهتمام، ولم تفلح محاولة مصادرتها لحساب
مشكلات داخلية وخارجية أخرى قد كان يظن فاعلوها أنها القاضية والحاسمة في تغيير
الهوية الأصيلة لشعوب المنطقة، تمهيداً لتطبيع واسع النطاق للعلاقات العربية
الصهيونية كان قد أعد له أن يحصل، وسبقته إشارات لا تكاد تخطئها العين، وتصريحات،
ومقابلات، تجهزت أنظمتها لإطلاق قطار التدجين الكامل للشعوب تحت الوصاية
الصهيونية، لكن هذا توقف وبدا أنه سيؤجل لمدة طويلة ريثما تكون «إسرائيل» جاهزة
لتغيير وجه غزة، وهو ما لا يبدو في الأفق بعد «العصف
المأكول».
أعادت عملية «العصف
المأكول» الضفة الغربية إلى الواجهة مجدداً، سواء على
صعيد التمهيد لانتفاضة عاصفة قادمة، أو سياسياً عن طريق المصالحة وبناء موقف
فلسطيني متزن نوعاً ما بين طموحات ساسة دايتون الموالين للكيان الصهيوني،
والمنسقين الأمنيين معه، والكابحين للمقاومة في الضفة، من جهة، واستحقاقات ما بعد
حرب غزة من جهة المقاومة في غزة. وهذا التحول لا يمكن
تأطيره ظرفياً، بل ما نراه هو عين التغير من فكرة تثوير أهالي غزة ضد المقاومة
وحركاتها، عبر استنساخ فكرة «التمرد» الشعبي
من دول أخرى لتعبيد الطريق لـ «ثورة» ضد
المقاومة وسياستها في غزة إلى الجانب الآخر في الضفة الغربية، حيث الناتج هو فرض
روح المقاومة على الضفة بدلاً من تصدير «الهدوء» مع
الكيان الصهيوني إلى غزة، وازدياد الضغوط على ساسة المقاطعة في رام الله للوفاء
باستحقاق المصالحة الفلسطينية، والعبور بالقضية إلى صُعد سياسية دولية جديدة؛
كفكرة إعلان الدولة الفلسطينية ونحوها. والواقع أن حركة حماس
تحديداً نجحت ببراعة في استثمار الصراع بين فريقي محمود عباس ومحمد دحلان لحشر
الأول في زاوية المصالحة وتوظيفها ضد الكيان الصهيوني.
نقل الحرب من غزة إلى كافة المدن الفلسطينية
المحتلة منذ 1948، واستخدام تكتيك الأنفاق الذي تمكّن من
تحييد سلاح الجو، والمدفعية، ضد العسكريين الغزاويين من أجنحة الفصائل الفلسطينية،
ومنع استهداف ساسة الحركات الفلسطينية الإسلامية، والنجاح المتكرر في صناعة
الكمائن وعمليات الاختراق خلف ظهر العدو، وتطوير مجموعات القناصة، وتطوير المقاومة
البحرية، وسلاح الضفادع البشرية، وإطلاق طائرات من دون طيار، وشن الحرب النفسية
والإعلامية؛ وكلها أديرت بنحو جعل تأثيرها قاصماً للعسكرية الصهيونية، وجعلها بحق
تتجرح مرارة هزيمة مفصلية، إذ المسألة تتجاوز مجرد إلحاق هزيمة بعدو، وإنما في قتل
فكرة توسعه، ووأد أحلام استمراره، وتلطيخ سمعته، وإضعاف هيمنته، وتحييد تفوقه.. ولن
يكون من قبيل المبالغة القول إن «معركة غزة الأخيرة سيكون
لها أثرها العسكري المفصلي في المستقبل، وسيمكن تأريخ مرحلة عسكرية بها، كونها
تمكنت من تحييد سلاح الطيران الذي وضع اختراعه الغرب ثم الكيان الصهيوني في مكانة
عسكرية لا تطال من بعد الحرب العالمية الأولى؛ فكما هي قد صنعت تأريخاً جديداً
للحروب؛ فتحييد هذا السلاح سيضع تأريخاً أحدث له».. ولقد
وضع مصطلح الاشتباك «من المسافة صفر» عنواناً
حديثاً جداً لأسلوب يعود بالحروب لأيامها الأولى، زمن المبارزة والتضارب بالسيوف
والمدى، فرغم أن الاشتباك من المسافات القصيرة ليس جديداً، فاستخدامه عن نطاق واسع
هنا، واستخدامه في وقف زحف الجيوش والآليات والأسلحة الثقيلة هو الجديد
والاستراتيجي الذي يطيش بحسابات عسكرية تقليدية.
ويضاف إلى هذا بعض الانعكاسات والآثار
الاستراتيجية الإقليمية والدولية التي حققتها حرب «العصف
المأكول»، منها:
تعزيز الصمود وخيار الحسم في مناطق أخرى؛
كسورية والعراق وليبيا، والملاحظ في هذا الصدد أن اتجاه الثوار في ليبيا إلى الحسم
وكبح طموحات ميليشيات القذافيين وغيرهم، قد حصل بالتزامن مع العدوان على غزة، ولقد
رأى الثوار أن تلك لحظة مفصلية لا يمكن للغرب فيها أن يتدخل إلا حالما يغلق ملف
الحرب التي طالت بدورها أكثر من المتوقع، ما أفسح المجال لعملية فجر ليبيا. وفي
نقطة أخرى شجعت حرب غزة الثورة السورية على تحقيق مزيد من الانتصارات، كان أحد
أبرز تأثيراتها على الكيان الصهيوني هذين الخبرين الفاجعين في يوم واحد، حيث جاءت
الأنباء بأن بعض الفصائل السورية تمكنت مع السيطرة على معبر القنيطرة الحدودي مع
الكيان الصهيوني في وقت كان الغزاويون يحتفلون فيه بالنصر، فلقد تأجلت كل
سيناريوهات الحرب أو المصالحة أو التفكيك ونحوها في سورية والعراق ريثما ينقشع
غبار حرب غزة، وقد زال عن ميدان نصر يعزز خيار الصمود والمقاومة، فوصلت الرسالة
إلى كل فصيل مقاوم للاحتلال الطائفي في المنطقة. ويلاحظ
أن انتصار المقاومة قد أحدث حراكاً فكرياً كبيراً بين الشباب، وأوجد نوعاً من
التحولات الفكرية في أوساطهم.
إلى أقصى الشمال، لوحظ أن موقف روسيا من
الحرب كان غامضاً بعض الشيء؛ فقد سعى إعلامها إلى مهاجمة العدو الصهيوني والتركيز
على الجوانب الإنسانية في غزة بما قد يفهم منه أنه ترجمة لرغبة الكرملين في
الإفادة من الحرب على غزة في تمرير العدوان على أوكرانيا، وهو ما قد تم تصعيده
إبان الحرب وإثرها، حتى أعلن رئيس أوكرانيا بعد أيام من انتهاء الحرب أن بلاده
تتعرض لغزو روسي لم يبد حلف الناتو قادراً على مواجهته، لا سيما مع إخفاق الغرب في
غزة وسورية والعراق وليبيا في توجيه الدفة نحو ترتيباته الخاصة للمنطقة، حيث فرضت
المقاومة الفلسطينية وشقيقاتها أجندتها الخاصة، أو على الأقل أوجدت موضع قدم لها
بين اللاعبين الرئيسيين في المنطقة العربية.
أسهم نجاح المقاومة في عملية العصف المأكول
في إعادة ترتيب بلورات العلاقات الخليجية/ الخليجية،
استناداً إلى المعطيات التي فرضها هذا النجاح.
عززت نتائج المعركة في غزة مكانة الحلف الذي
تقوده تركيا في منطقة ما يعرف بالشرق الأوسط، وأسهمت في تقليل نفوذ إيران قياساً
بتركيا، التي اعتبرت نفسها خرجت منتصرة من هذه الحرب، ونزعت إلى استغلال دعم غزة
في البناء والإعمار في تأكيد حضور تركيا بالداخل العربي والإسلامي، وهو ما يبدو أن
تركيا تسعى إليه في المرحلة المقبلة.
وإذا كانت كل هذه النتائج والآثار وغيرها
مما قد يعد أقل أهمية قد أفرزتها معركة العصف المأكول؛ فإن الأخطر فيها أن فكرة
تدمير الكيان الغاصب بالكلية، وإزالته من المنطقة؛ لم تعد مجرد خيال أو حتى «دروشة» تنتاب
بعض الحالمين في عالمنا الإسلامي، ولا هي في المقابل تكهنات تنسب لهذا الحاخام
اليهودي أو ذاك، وإنما صارت لدى الطرفين محتملة بل متوقعة لدى كثيرين حد العقيدة،
وحد ربطها بزمن محدد هو 2022 أو ما حوله، وهو تاريخ
يتزامن مع مرور قرن على إلغاء الخلافة العثمانية، وهو ما يؤمن البعض أنها ربما
عادت في التوقيت ذاته.. ومن يدري؟! فالأحلام
حينما تصبح أهدافاً فإن نسبة تحققها ترتفع كثيراً، وإمكانية ذلك تغدو أكبر من ذي
قبل.
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
:: ملف
خاص بعنوان "غزة تقاوم"