مساجد العراق حرب وجود وهوية
مَنْ
يتابع المشهد الدموي في الساحات العربية يستوقفه اتفاق الخصوم، على اختلاف
انتماءاتهم الدينية والسياسية، على استهداف المساجد ضمن حملاتهم العسكرية، ما يعكس
الحقد الديني والانتقام السياسي والتخبط العسكري الذي يعيشه خصوم الإسلام في حربهم
ضد المسلمين.
ففي الشام أصدرت الشبكة السورية لحقوق
الإنسان حصيلة استهداف قوات النظام السوري للمساجد خلال عامين ونصف العام لغاية
حزيران 2013، وكانت كالتالي:
استهداف 1451 مسجداً،
منها 348 تم تدميرها بشكل كامل.
قتل أكثر من 48 إماماً
وخطيباً، ستة منهم تم إعدامهم ميدانياً وبصورة وحشية.
وإذا انتقلنا إلى أرض الرباط المقدسة، نجد
أن مساجد فلسطين عموماً، وقطاع غزة بشكل خاص، نالت نصيباً كبيراً من الاستهداف
الصهيوني خلال حروبه الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني؛ ففي «حرب
الفرقان» عام 2008م
استهدف الاحتلال 100 مسجد، 45 منها
دمرت بشكل كلي، و55 بشكل جزئي. وأما
في حرب «حجارة سجيل» في 2012م،
فقد قصفت قوات الاحتلال 38 مسجداً، اثنان منها دمّرا
بشكل كامل. وفي العدوان الأخير: حرب
«العصف
المأكول» 2014، وصل عدد المساجد المتضررة من الحرب إلى
أكثر من 210 مساجد، تفاوتت الأضرار من كلية إلى جزئية. وبحسب
ما أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، فإن الحرب المتواصلة دمرت حتى
الآن أكثر من 60 مسجداً بشكل كلي، و150 مسجداً
بشكل جزئي.
وإذا تحدثنا عن حرب المساجد في العراق، فإن
الأرقام مهولة؛ ففي سنوات الاحتلال الأولى، وبحسب إحصائيات ديوان الوقف السني، فقد
تم الاعتداء على أكثر من 182 مسجداً، بعضها تم تدميره
بشكل كامل، واستشهد ما يقرب من 300 إمام وخطيب، واعتقل 1000 منهم.
ومع أحداث تفجير المرقدين في سامراء شباط 2006،
كانت حصيلة يومي الأربعاء والخميس 22 - 23 /2/ 2006؛
استشهاد أكثر من 1000 من الأئمة والخطباء والمصلين من أهل السنة،
وتهجير 1500 عائلة، والاعتداء على 168 مسجداً،
منها 38 أحرقت بالكامل، و5 دمرت
بالكامل نسفاً، و74 قصفت بالهاونات والصواريخ، و40 مسجداً
تم إغلاقها واحتلالها، وبعضها حُوّلت وقفيتها إلى ديوان الوقف الشيعي.
وكانت هذه الهجمات منظمة ومعداً لها مسبقاً
كما أكد ذلك تقرير لجنة مساعدة العراق التابعة للأمم المتحدة في 28 /2/ 2006،
إذ ذكر في إحدى فقراته حقيقة ما حدث، موثقاً للأعمال التي جرت، فجاء في الفقرة
السابعة: إن عشرات المساجد تعرضت لاعتداءات وتدمير
وتخريب، وكان العديد من أئمة المساجد من بين الذين تعرضوا للاغتيال، ومن الواضح أن
هذه الاعتداءات لم تكن عشوائية، بل العكس، فقد كشف عن وجود درجة عالية من التنظيم.
وبعد انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي من
العراق، بقيت حرب المساجد مستعرة، لا سيما مع انطلاق الحراك الشعبي السني الذي شهدته
المحافظات السنية المنتفضة عام 2012، وبحسب تقارير معدة من
قبل لجان الحراك الشعبي والوكالات الإخبارية، فإنه مع كل جمعة موحدة يتم استهداف
أكثر من ستة مساجد، كما حصل يوم 24 /4/ 2013؛
إذ دمرت قوات سوات ستة مساجد وعشرات البيوت في قرية “سليمان
بيك” التابعة
لقضاء طوز خورماتو في محافظة صلاح الدين، ضمن حملتها الأمنية على الدجيل وما حولها! وتشير
هذه التقارير إلى استهداف أكثر من 30 مسجداً في الرمادي، و28 مسجداً
في مدينة الفلوجة، و15 مسجداً في مدن حزام بغداد، و42 مسجداً
في بابل، لا سيما شمالها، و24 مسجداً في ديالى، ولعل
أشدها الجريمة النكراء التي قامت بها الميليشيات الشيعية يوم الجمعة 22 /8/ 2014 في
جامع مصعب بن عمير بقرية إمام ويس في محافظة ديالى، إذ فتحت نيران أسلحتها على
المصلين داخل المصلى وقتلت نحو 73 مصلياً، ومن قبلها
الجريمة التي ارتكبتها العناصر الأمنية والميليشيات الشيعية يوم الجمعة 17 /5/ 2013 باستهداف
جامع سارية في بعقوبة (60 كلم شمال شرقي بغداد)،
فتم قتل 41 مصلياً، وأصيب العشرات بجروح، في انفجار
عبوتين ناسفتين استهدفتا المصلين بعد خروجهم من المسجد، ثم أطلقت عليهم نيران من
القناصة.
وعلى أثر ذلك أعلن المجمع الفقهي العراقي
إغلاق مساجد العراق احتجاجاً على استهدافها والعلماء، كما أعلنت مديرية أوقاف
البصرة إغلاق مساجدها أكثر من مرة للسبب نفسه.
ولم يقتصر الاستهداف على مساجد أهل السنة في
العراق، وإنما تم استهداف ديوان الوقف السني المسؤول عن إدارتها، إذ صرح أحد
المسؤولين في الوقف: نحن مهددون، حتى إننا لم نذهب إلى الدوام
بعدما تلقينا تهديدات بمهاجمة مقر عملنا في بغداد. وأكد
أنه تم استهداف أكثر من عشرة مساجد في بغداد وحدها خلال شهر واحد.
إنّ هذا الاستهداف دفع بعض المحللين
السياسيين في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، إلى تأكيد هذه الحرب بقوله: الرعب
يتسلل إلى النفوس، وشبح الحرب يسيطر على المشهد العراقي، إنها حرب على المساجد. بل
دفع منظمات دولية، منها منظمة حقوق الإنسان، إلى التحذير من إبادة طائفية تحدث في
العراق كما قال جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
في المنظمة: «توحي التقارير عن عمليات القتل التي تنفذها
الميليشيات على مرأى من قوات الأمن، بوجود نمط من القتل الطائفي الذي يبدو أن
الحكومة تجيزه. وطالبت بإدراج الجرائم الوحشية وانتهاكات
حقوق الإنسان في العراق على لائحة جرائم الإبادة الجماعية في تقاريرها، منها تقرير
النصف الأول من هذا العام.
والسؤال الذي نضعه أمام هذه المنظمات: متى
ستحاسبون من توثقون جرائمه ضد أماكن العبادة؟ ومتى ستفعّلون الفقرة (أ) من
القاعدة 40 من قواعد القانون الدولي الإنساني التي تنص
على: يحظر
الاستيلاء على المؤسسات المخصصة لأغراض دينية، أو تدميرها، أو الإضرار بها بصورة
متعمدة؟
إنّ استهداف المساجد يعد خطوة عسكرية ضمن
معركة شاملة تهدف إلى النيل من معنويات المسلمين، وإلى تحجيم وجودهم وتحييده، ومسخ
هويتهم الإسلامية التي اعتنقوها منذ أن فتحت هذه البلدان على أيدي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
وله أبعاد دينية وسياسية وعسكرية، وقد صرح بذلك من يتولى هذه العمليات، فقد برر
قادة الأجهزة الأمنية في جلسة لهم بمجلس النواب استهداف المساجد وأهلها، كما نقلت
صحيفة البرلمان في عددها الصادر يوم 6 /7/ 2005،
ما قاله وزير الدفاع - آنذاك - حول
استهداف المساجد: إننا أمام معسكرات حربية ينبغي مهاجمتها لا
أمام مساجد. وقال النائب السابق إياد جمال الدين: إن
المساجد السنية أشبه بمساجد ضرار. وأكد هذه العبارة عضو
الائتلاف الشيعي جلال الصغير في خطبته في جامع براثا مقر ديوان الوقف الشيعي. وقال
حبيب الياسري: المساجد التابعة لهيئة علماء الكفر، هذه
المساجد يجب أن تهدم ولا يجب التراجع عن هذا الأمر ومن دون مراعاة أو محاباة،
والحرم العسكري الشريف يجب أن يسترد من أيدي النواصب، وأهمية استرداده تفوق أهمية
استرداد القدس. وهذا ما أكده حازم الأعرجي من أن قتل هؤلاء - يقصد
علماء السنة وأئمتهم - لا يحتاج إلى فتيا أو سؤال.
إن هذه التصريحات تعبّر عن حقيقة الصراع،
ليس على أرض العراق، وإنما في المنطقة العربية. وإن
هذا الاستهداف مخطط رُسمت أصوله في مثلث أقطاب الصراع في المنطقة العربية (الصهيونية
والصليبية والصفوية)، وعلى قادة الأمة أن يقدروا لهذا الأمر
قدره، ولا يتخلوا عن أهل السنة في العراق أمام مواجهة هذا التحدي.
لقد تنبّه علماء أهل السنة إلى هذا المخطط،
وصرحوا في بيانات استنكارهم ذلك، وحذروا المسلمين والعالم من التغاضي عن هذه
الجرائم، فقد استنكر المجمع الفقهي العراقي في بيانه المرقم 35 جريمة
مجزرة جامع مصعب بن عمير في قرية الإمام ويس بمحافظة ديالى، وعدّها جريمة حرابة ضد
الإنسانية وحلقة في سلسلة جرائم الإبادة الجماعية ذات البعد الطائفي. كما
عدتها هيئة علماء المسلمين في بيانها المرقم 1016 جريمة
سادية تقع ضمن حملات التطهير الطائفي التي تجري ضد مكون معين برعاية حكومية. لكن
يقظتهم لهذا الأمر لا تكفي لمنعه، والمخطط يواجه بمخطط أشد منه أو مثله، وحرب
المساجد في المنطقة حرب دولية إقليمية اجتمع على تنفيذها وإدارتها خصوم العالمين
العربي والإسلامي.
وأخيراً: نعود كما بدأنا إلى أرض فلسطين لندرك دوافع استهداف
مساجد المسلمين، فيوجزها لنا وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة حسن
الصيفي، بقوله: إن
استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمساجد يعتبر محاربة للدين الإسلامي ومحاولة لطمسه
ومحو تاريخه. ويضيف: إن استهداف المساجد وتدميرها يعد سياسة ممنهجة لا مبرر
لها سوى التعبير عن بشاعة الاحتلال وممارساته، ومحاولته منع إقامة الشعائر الدينية
في بيوت الله.
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.