حين تحولت غزة إلى "فيتنام" الكيان الصهيوني
منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة
يوم السابع من الشهر السابع لهذا العام، أعلنت جملة أهداف له، أهمها: توجيه ضربة
قاسية لحركة حماس، وقف إطلاق الصواريخ، ضرب شبكة الأنفاق، واستعادة الهدوء لسكان
الجنوب الإسرائيلي، لكن مرور قرابة الشهر على هذا العدوان يحرم إسرائيل من التصريح
بتحقيق تلك الأهداف المعلنة، ونجاحها بتحقيق هدف آخر بقي طيّ الكتمان، متمثلاً في
ارتكاب مجازر بشرية بحق المدنيين الفلسطينيين، زادوا على 1800 شهيد معظمهم من
الأطفال والنساء والمسنين.
الإخفاق
الأمني
جاء الإخفاق الإسرائيلي في تحقيق تلك
الأهداف مستنداً إلى جملة من الأسباب: الذاتية والموضوعية، يمكن تركيزها فيما
واجهه الجيش الإسرائيلي من مقاومة عنيدة في غزة كبحت جماح تقدمه نحو القطاع، وقد
خرج عديد من التسريبات الإسرائيلية والتأكيدات الفلسطينية على ضراوة المقاومة على
مشارف غزة الشرقية.
وبعد مرور أيام قليلة على انطلاق العملية
البرية الإسرائيلية، شنّت أوساط إسرائيلية نافذة هجوماً سافراً على الحكومة؛ لأنّ
العمليّة العسكريّة ضدّ حماس في غزّة لم تُحقق أيّاً من أهدافها التي وضعها
المستوى السياسيّ؛ لأنّ الجيش لم يتمكّن من منع حماس من مواصلة إطلاق الصواريخ
باتجاه إسرائيل.
كما لم يستطع الجيش حلّ مشكلة الأنفاق التي
باتت تُشكّل خطراً استراتيجيّاً، ولأنّ الصواريخ ما زالت تتساقط على العمق
الإسرائيلي رغم العمليات العسكريّة للجيش، ولم يعد من المعقول أنْ تتمكّن منظمة
صغيرة جداً مثل حماس من إلحاق هذه الأضرار بإسرائيل.
إخفاق آخر واجه الجيش الإسرائيلي تمثل في
نقص المعلومات الاستخباريّة عما يمكن أن يواجهه حال اجتياح بري للقطاع؛ ولذلك جاءت
التحذيرات من مستويات قيادية عليا فيه من مغبة تعمق الجيش أكثر داخل المناطق
المكتظة في غزة، نظراً لمخاطر ذلك باحتمال خطف جنود.
كما أن حماس تنتظر الفرصة لاختطاف عدد من
الجنود والتلويح بهم كصورة النصر النهائية في الحرب، في ضوء أنّ حماس لديها تفوق
على المستوى الأرضي، وحولت أرض القطاع «مترو أنفاق» يختفي فيها مقاتلوها من مناطق
المواجهة، ويخرجون خلف خطوط القوات ليهاجموهم.
الملفت في الاعترافات الإسرائيلية بتهاوي
«الجرف الصامد»، وهو اسم العملية العسكرية؛ أنها جاءت على وقع استمرار مقاتلي حماس
بإطلاق النار والتسلل داخل المستوطنات، وقتل وإصابة العشرات من الجنود، ما يعني
أنّ الجيش لم يستعد بجديّة للحرب، وأنّ حماس فجرت «الفقاعة» في وجه إسرائيل،
وكبدتها خسائر فادحة من القوات العسكريّة والمدنيّة والبنى التحتيّة.
وكل ذلك يعني أنّ المعنى الاستراتيجي لما
يحدث هو أن السيادة الإسرائيلية قد انتُهكت، والجيش لا يعرف أن يُسكت النار التي
تُطلق على المستوطنات، وعدم القدرة على إحراز حسم واضح في معارك التماس، وأنّ قوة
إسرائيل الإقليميّة لم تنجح بالتغلب تغلباً حاسماً على حماس.
كما أن القتال المتواصل في غزة كشف مواضع
خلل مقلقة في الجيش الإسرائيلي بالاستعداد للمعركة وشكل إدارتها؛ لأنّ القيادة
العسكرية اعتادت استخدام قوة نار كبيرة لتنفيذ خطط عملياتيّة نموذجية ومتوقعة
مسبقاً، وهو ما لم ينجح في غزة هذه المرة رغم الكلفة البشرية الباهظة من الضحايا
الفلسطينيين؛ لأن الاستعداد للحرب أمام «عدو» مصمم وقليل الميزانيّة كحماس التي
طورت ردوداً على التفوق الجوي والاستخبارات المتطورة الإسرائيلية؛ منع الجيش من
الحيل والمفاجآت، واستند أساساً إلى سلاح الجو، في ظل إهماله القوات البريّة
والوحدات الخاصة.
أكثر من ذلك، فقد كشفت الاشتباكات العسكرية
مع مقاتلي حماس عن إخفاق استخباري باكتشاف منظومة القيادة والتحكم لديها، والعثور
على أمكنة قادتها، فكتائب القسّام ما زالت تواصل التحكم في قواتها، وإطلاق
الصواريخ على إسرائيل، والهجوم على القوات المتوغلة على مشارف غزة. وفي ظل غياب
المعطيات الاستخبارية اختار الجيش استخدام النيران الكثيفة ضد المناطق المأهولة،
وتعريض المدنيين الفلسطينيين للقتل والتشريد.
القوات
الخاصة
بدأت تطرح في إسرائيل أسئلة خطيرة أمام قادة
الجيش تحاول تفسير الإخفاق العسكري أمام حماس في غزة، مثل: ماذا علمتم وماذا لم
تعلموا؟ وماذا فعلتم وماذا لم تفعلوا؟ وهل كان ينبغي الانتظار 10 أيام حتى بدء
العملية البريّة، أم كان يُفضل السبق ودخول غزة؟ وأي من القصف وإطلاق القذائف أجدى
على تنفيذ المهمة، وأيّهما أضرّ بها؟ وهل أخطار المستقبل كامنة في الأنفاق أم
القذائف الصاروخيّة؟ ما دفع للقول بأنه بعد انتهاء الحرب سيضطر مراقب الدولة في
إسرائيل إلى فحص سلوك المجلس الوزاري الأمني المصغر أثناء القتال.
ولعل الشواهد الإسرائيلية على الإخفاق
الميداني في غزة لا تقتصر على اعترافات الجنرالات وشهادات الجنود، بل وصلت ذروتها
إلى الحلبة السياسية والدعوات المتتالية إلى عدم الثقة بما تقوله النخب السياسيّة
والعسكريّة والمعلقون بشأن تقدير قوة حماس؛ لأنهم ضللوا الرأي العام الإسرائيلي من
خلال الانطلاق من افتراضات مضللة بشأن الحركة وقدراتها، وحاولوا إقناع الجمهور بأن
حماس ضعيفة، وهي من ثم غير معنية وغير قادرة على فتح مواجهة مع إسرائيل.
لكن المواجهات الضارية في غزة بيّنت أنها
تقديرات غير دقيقة وغير واقعية البتة، واتضح خلال أيام الحرب الجارية حالياً أن أياماً
كثيرة مرت دون أن تتمكن إسرائيل من معالجة التهديدات القادمة من غزة، وأنّ مزاعمها
تأتي للتغطية على فشلها الاستخباري وعدم تمكنها من الحصول على معلومات أمنية
تمكنها من المس بمنصات إطلاق الصواريخ وهيئات القيادة والتحكم التابعة لكتائب
القسّام؛ ولذلك يبدو بشكل واضح أن قائمة الإنجازات التي حققتها حماس تبدو أكبر مما
حققته إسرائيل.
أكثر من ذلك، فإن مسار الحرب في غزة دلّل
على أنّ المنطق الذي تتبعه حماس أثبت نجاعته، وفقاً لما نقله جنود إسرائيليون
نقلوا للعلاج في المشافي الإسرائيلية؛ لأنّ الساسة والعسكر هذه المرة انطلقوا في
تخطيطهم للحرب من نتائج المواجهات السابقة مع حماس، مع غياب عنصر الإبداع في
التفكير العسكري كما يعكسه مسار الحرب الدائرة حين صدمت حماس قيادة الجيش
بمفاجآتها العسكرية، ولا يبدو الجنرالات قادرين على تتبع هذه المفاجآت.
ولعل أكثر ما لفت الانتباه في التعليقات
الإسرائيلية على ضراوة عمليات القتال في غزة وتصدي المقاومة للجيش الإسرائيلي؛ أن
إسرائيل افتقرت في هذه الحرب إلى قيادة حقيقية قوية وحازمة لها رصيد وقوة دعم
داخلية وتحظى بثقة واسعة في الساحة الدولية، لكنها افتقرت إلى كل هذه المزايا؛
ولذلك فإن الردع الإسرائيلي يتعرض هذه الأيام لضربة تلو أخرى، وإسرائيل تنجر من
حالة سيئة لأسوأ، والعمليّة العسكريّة تتحول بسرعة لحالة من الفضيحة القوميّة.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.