الانتخابات العراقية والتشتت السني
محطة أخرى من محطات التاريخ السياسي لعراق
ما بعد الاحتلال، وهي مع الأسف الشديد شهدت تردد العرب السنة في اتخاذ قرار موحد
من الوقوف فيها أو تجاوزها، وتحديد المحطة المناسبة لاستقرارهم. ويبدو أن هناك
تشابهاً بين ظروف انتخابات مطلع العام 2005 التي قاطعها العرب السنة بسبب أحداث
الفلوجة الثانية، واليوم الأنبار وديالى وحزام بغداد في بعض أجزائه؛ تتعرض لحرب
عسكرية متكاملة، لكنها غير متكافئة، وهو ما يراد له أن يتكرر مرة أخرى.
ولو عدنا إلى تحليل تطلعات العرب السنة،
لوجدنا أن الهدف العام الذي تسعى إليه القوى السنية في العراق، هو الحفاظ على
الهوية واستقرار العراق، بشكل متلازم، لكنها اختلفت أو لم تتفق على آليات تحقيق
ذلك.
فمنهم من يرى أن سبيل ذلك هو العملية
السياسية على ما فيها وما يصاحبها من خروقات وإجحاف متعمَّد من تهميش وإقصاء وتزوير،
متأملين أن تزول هذه السلبيات بمرور الدورات الانتخابية، وهذا بطبيعة الحال يمثل
توجهات الكيانات السياسية المشاركة في العملية.
ومنهم من يرى أن تحقيق ذلك الهدف يكون عبر
ثورة شعبية، ورغم انطلاقتها إلا أنها بقيت حبيسة المحافظات الست المنتفضة، وفي
إطار اعتصام لا يتجاوز ساحاته مكاناً ويوم الجمعة زماناً، وتعاني قياداته إهمال
الحكومة في تلبية مطالبها المشروعة، بل تحريضها على إنهائه ولو ببحر من الدماء،
كما عبّر رئيس الوزراء المالكي.
ومنهم من يرى أن تحقيق ذلك لا يكون إلا
بإقامة إقليم سني ولو بصورة مرحلية، فالمعطيات تؤشر إلى صعوبة التعايش في ظل
سياسات التهميش والإقصاء، بل الاجتثاث العام.
في حين يعوّل آخرون على ثورة مسلحة تحت
قاعدة "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، وما ثورة العشائر التي
انطلقت في محافظة الأنبار إلا برهان على ذلك، لكن تعثرها في دائرة انطلاقتها أعطى
مسوغاً للتشكيك في نجاحها في هذه المرحلة.
إن هذا الانقسام لدى العرب السنة في تحديد
آلية التغيير، ألقى بظلاله على موقف قواه السياسية، حتى الدينية، من عملية
الانتخابات البرلمانية التي شهدها العراق أواخر شهر أبريل المنصرم.
فالشيخ أحمد حسن الطه، رئيس المجمع الفقهي
العراقي، أصدر بياناً عدّ فيه المشاركة في الانتخابات من وسائل الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، مع اعترافه ضمنيّاً بـ «أن هذه العملية السياسية يشوبها كثير من
الخلل والمفاسد وعليها كثير من الملاحظات، إلا أنه لا ينبغي تركها لمن لا خلاق له
ولا أمانة»، في إشارة لصاحب الولاية الثالثة. وعدّ الطه أن الانتخابات وسيلة متاحة
للتغيير ولا تتعارض مع وسائل أخرى تسعى جاهدة إلى الحفاظ على الوجود والهوية،
مؤكداً ضرورة اختيار الأمين والمخلص.
وذهب مجلس علماء العراق والمفتي الشيخ رافع
الرفاعي وبعض كبار علماء العراق في الخارج؛ إلى وجوب المشاركة فيها، فقد طالب
المجلس الذي يترأسه الشيخ محمود العاني عقب اجتماعٍ لأمانته العامة وفروعه في
المحافظات العراقية؛ أهل السنة بالنفير العام «لنصرة المظلومين وإحداث التغيير من
خلال المشاركة الفعّالة في الانتخابات لإثبات هويتهم ووجودهم وتحصيل حقوقهم».
ومن جهته، أصدر الحراك الشعبي السني في
العراق بياناً أكد فيه ضرورة المشاركة الفاعلة والجادة في الانتخابات بعد «إجماع»
علماء أهل السنة ومؤسساتهم العلمية والإفتائية على ضرورة المشاركة فيها، محذراً من
انتخاب من وصفهم بـ (سنة المالكي) الذين وقفوا في صفه ومعسكره وحكومته، وكذلك
النفعيين والفاسدين والمتقلبين.
وتشدّد في هذا الاتجاه الشيخ الدكتور أحمد
الكبيسي، إذ جعل المشاركة في الانتخابات فرض عين كالصلاة والصوم.
في المقابل، أصدرت هيئة علماء المسلمين
بياناً بشأن الانتخابات أكدت فيه أنه «لن يكون هناك تغيير حقيقي، خصوصاً أن
العراقيين جربوها سابقاً ولم تعطِ حلاً، وستبقى الوجوه ذاتها وبالأداء السلبي
الكارثي نفسه، وستسوء أسباب الحياة أكثر»، مشيرة إلى أنه «ﻻ جدوى من هذه اﻻنتخابات
التي جُربت بقوانين المحاصصة الطائفية، ولم يبقَ أمام الشعب سوى انتزاع حقوقه
بالقوة وتغيير قوانينها».
وشدد في هذا الجانب الشيخ الدكتور عبد الملك
السعدي في فتاوى متعددة، ومنها: تحريم المشاركة على المنتخِب والمنتخَب.
وكانت رؤية التيار السلفي أن ما أُخذ بالقوة
لا يرجع إلا بالقوة، وهذه مقدمة مسلَّمة عند جميع العقلاء، وهذا أمر قد أدركه
الشيعة وعملوا على وفقه منذ البداية، وكذلك الكرد؛ لذا فإن حقوق أهل السنة لن تُرد
بغير القوة، ومن أراد خوض غمار السياسة من أهل السنة مع هؤلاء القتلة، فعليه أن
يتخذ قوة حقيقية تسند وجوده على الأرض وتدعم موقفه وقراراته السياسية، فهو بهذا
على الأقل يأخذ بأسباب السياسة، ويعمل كما يعمل خصومه السياسيون، هذا فضلاً عن
اختيار الأشخاص المناسبين، وبخاصة من جرب منهم من قبل، ويبقى توفيق الله لمن أخلص
وصدق النية والعمل، وإلا فالحفاظ على كرامته أولى من خوض وَحْلِ الإهانة والذلة مع
هؤلاء.
وإزاء ذلك يمكن أن نرسم صورة لرؤية العرب
السنة إزاء الانتخابات وما يتبعها، ومنها:
كان موقف السنة دائماً متأرجحاً متذبذباً
بشأن المشاركة بصورة كلية أو جزئية، وربما ترجح في ضوء المعطيات الأولية للصراع
المسلح في الأنبار؛ لذا لم يباشر ائتلاف «متحدون للإصلاح» إطلاق حملته إلا في وقت
متأخر. من جانبه أرسل صالح المطلك، زعيم القائمة العربية التي تمثل الشق العلماني
للعرب السنة، رسالة إلى المؤسسات الدينية يطلب منها إعلان مقاطعة الانتخابات في ظل
المعوقات التي تضعها حكومة المالكي لمنع أو تقليل مشاركة العرب السنة، لا سيما في
المناطق المختلطة.
رغم دعوات المشاركة التي اشتد أوارها قبل
الانتخابات بأيام قلائل، فإن الشعور السائد لدى العرب السنة أن نتيجة الانتخابات
محسومة سلفاً والحصص محددة، إلا ما شاء الله.
لن يترك الأمريكان والإيرانيون بصيص أمل
لأهل السنة في الحصول على شيء من الحقوق لمجرد ذهابهم إلى صناديق الاقتراع، وما زال
هناك كثير من التفاهمات بين الطرفين، وكل طرف يريد أن يخرج رابحاً من الساحة
العراقية؛ فالأمريكان يريدون تعويض ما لحقهم من خسائر وفشل مشروعهم بسبب المقاومة
العراقية الباسلة، والإيرانيون يريدون إتمام مشروعهم الصفوي بأي ثمن؛ لذا فإن من
أراد من أهل السنة دخول المعترك يلزمه التفاهم مع أحد الطرفين أو كليهما إن أمكنه
ذلك! وكفى بهذا الوصف سوءاً ومقتاً لهذه العملية التي توصف بأنها عملية سياسية
ديمقراطية، تحت قصف المدافع والطائرات، وفيضانات أغرقت مدناً بأسرها، والقادم منها
أدهى وأمر.
ومما عمق هذا الشعور هي النتائج الأولية
التي تظهر تباعاً، وتعلن انحسار رغبة التغيير الذي تشدّق به السياسيون في حملاتهم
الانتخابية، وحلم به البسطاء الذين ذاقوا الويل في ولايتي المالكي.
النتائج السياسية المتوقعة للانتخابات
هناك عبارة بدأت تأخذ حيّزاً في التصريحات
الإعلامية، وهي أن الحكومة القادمة إما أن تشكل في أيام أو في سنة، بل قد تصل إلى
إعادة الانتخابات. وبغض النظر عن هذه التصريحات فإن السيناريوهات المتوقعة بعد
الإعلان النهائي لنتائج الانتخابات العراقية، هي:
أن يفوز المالكي وائتلافه وينجح في تكوين
الكتلة الكبيرة ويمضي في تشكيل حكومة الأغلبية السياسية، لا سيما مع فوز بعض
المرشحين المندرجين تحت عنوان «سنة المالكي» أو «أذناب المالكي» في القوائم
الأخرى.
أن يفوز المالكي وائتلافه، لكنه يفشل في
تكوين الكتلة الكبيرة، وينجح الائتلاف الشيعي في تكوينها، ويمضي في تشكيل الحكومة
بعيداً عن المالكي تحت مبدأ تغيير الحاكم لا تغيير الحكم. وقد يكون من كتلة
المواطن أو التيار الصدري أو مرشح تسوية مستقل (مثل: جعفر الصدر أو إياد علاوي)،
مع تغيير في صلاحيات الرئاسات الثلاث وعائدية قيادة القوات المسلحة.
أن تقوم الكيانات السنية والكردية بتكوين
الكتلة الكبيرة مع الائتلاف الوطني بعيداً عن ائتلاف دولة القانون أو عن المالكي
نفسه، وهذا أمر بدأ يضعف في ضوء النتائج الأولية، لكنه يقوى عند الحديث عن مرشح
تسوية لرئاسة الحكومة القادمة وبالتغييرات المقترحة السابقة نفسها.
ويبقى السؤال: ما المواقف المتوقعة من قبل
الكيانات السنية تجاه هذه السيناريوهات السابقة، لا سيما الأول والثاني؟
ومن جانبه، صرَّح أسامة النجيفي، رئيس
ائتلاف «متحدون للإصلاح»، لا سيما عند تصويته؛ أنه لدى «متحدون» خط أحمر على
المالكي في الحصول على الولاية الثالثة، فكان رد حسن السنيد، مرشح ائتلاف دولة
القانون، أن باب التحالف مفتوح أمام الجميع ما عدا ائتلاف «متحدون».
ونحن نقرأ تصريح النجيفي ضمن أجواء ارتفاع
صوت التغيير حتى لدى المرجعية في النجف وبعض أعضاء ائتلاف دولة القانون، مع إشارات
إعلامية من مصادر أمريكية وإيرانية بعدم الرغبة في دعم تجديد الولاية للمالكي مرة
ثالثة، وقبل ذلك التزام «متحدون للإصلاح» أمام المؤسسات الشرعية، وفي مقدمتها
المجمع الفقهي العراقي؛ بالإصرار والثبات على مسألة عدم الموافقة على تولي المالكي
ولاية ثالثة، لكن ما مدى ثباتهم على هذا الأمر في ظل الضغوطات التي تواجههم،
ومنها:
وجود شخصيات بل كيانات قلقة في ائتلاف
«متحدون»، فضلاً عن الكتل السنية الأخرى، ومنها العربية والوطنية، (وهناك تسريبات
عن بعض قادة «متحدون» بأن المالكي هو أفضل الشخصيات المرشحة، مثل: أحمد الجلبي
وباقر جبر صولاغ).
احتمالية تغيّر موقف الإدارة الأمريكية
وإيران من تحفّظها على ترشح المالكي لولاية ثالثة.
فتح ملفات أمنية ضد أبرز شخصيات ائتلاف
«متحدون» وغيرها.
تطور المشهد الأمني بشكل سلبي، ما يربك
الساحة العراقية والإقليمية تمهيداً لتنفيذ قانون السلامة الوطنية وإن لم يقر في
البرلمان المنتهية ولايته.
إن المستقبل القريب ضبابي وفيه دخان،
والساحة العراقية حبلى بالمفاجآت، لكن حتى الآن نراها مفاجآت مؤلمة، ويأتي في
مقدمتها توسع زاوية التشتت والتمزق بين العرب السنة في العراق.
:: مجلة البيان العدد 324 شعبان 1435هـ، يونيو 2014م.