• - الموافق2025/10/16م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اليوم التالي لنتنياهو.. سقوط سياسي أم إعادة إنتاج؟

فيما ترتفع أصوات في الغرب تدعو إلى مراجعة شاملة للدعم غير المشروط لإسرائيل، وإلى مساءلة قيادتها أمام المحاكم الدولية. بهذا المعنى، فإن اليوم التالي لنتنياهو ليس مجرد مسألة داخلية، بل هو عنوان لتحوّلٍ أوسع في الوعي العالمي تجاه الكيان نفسه.


في لحظةٍ تبدو وكأنها مفصلٌ جديد في تاريخ الصراع، يدخل المشهد الإسرائيلي مرحلة غامضة بعد أن قبلت حماس بخطةٍ دولية للسلام أُعيد تسويقها بوصفها مخرجًا من أتون الحرب، شهدت مدينة شرم الشيخ المصرية توقيع بنودها بحضور عدد من قادة العالم، بينما يراها الفلسطينيون استراحةً مؤقتة من آلة القتل الإسرائيلية التي لم تتوقف يومًا عن سحق الأبرياء في غزة. في هذه اللحظة المتوترة، يجد بنيامين نتنياهو نفسه أمام سؤالٍ وجوديّ: هل تكون هذه بداية سقوطه السياسي بعد أن انكشفت عوراته أمام الداخل الإسرائيلي والعالم، أم فرصةً أخيرة لإعادة إنتاج زعامته فوق أنقاض العدوان ومآسي المدنيين؟

الضغوط تتكاثر من كل صوب؛ شارعٌ إسرائيلي يغلي احتجاجًا على سياساته الكارثية، معارضةٌ تتأهب للانقضاض عليه، وشركاء غربيون ـ من واشنطن إلى العواصم الأوروبية ـ بدأوا يتعاملون معه كعبءٍ أكثر منه حليفًا. ومع ذلك، يواصل نتنياهو التمسك بخطابه الزائف عن الأمن والنصر، محاولًا التغطية على فشلٍ سياسيّ وعسكري هو الأعمق في تاريخ إسرائيل، بينما تتبدّى في الأفق ملامح مرحلةٍ جديدة قد تعيد رسم خريطة المنطقة، وتضع الاحتلال أمام محكمة التاريخ والشعوب معًا.

مأزق نتنياهو

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، واسم بنيامين نتنياهو يتردد في كل منبر، ليس بصفته "زعيمًا لإسرائيل" كما كان يطمح أن يُقدَّم، بل كرمزٍ لمرحلةٍ من العنف والجمود السياسي، وسقوط الأخلاق في قلب المشروع الصهيوني وفقًا لرؤية أنصار هذا المشروع. ومع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة الأمريكية التي قبلت بها حركة حماس، باعتبارها محاولة لتثبيت تهدئة إنسانية تفتح باب التفاوض حول ما بعد الحرب، يدخل نتنياهو أكثر مراحله حرجًا: مرحلة ما بعد الدم، حيث لا تكفي فزّاعة الأمن القومي لتبرير البقاء في الحكم، ولا تنقذه رواية الردع من اتهامات الداخل والخارج بأنه جرّ كيانه إلى حافة العزلة والانقسام.

منذ تولّيه الحكم، استثمر نتنياهو في صناعة الخوف، وجعل من اليمين المتطرف حاضنته السياسية، ومن استمرار الاحتلال وقودًا لبقائه. لكنه اليوم يواجه لحظة مختلفة، إذ يتكشّف للعالم أن الحرب على غزة لم تكن سوى وسيلة للهروب من مأزق داخليّ يهدد مستقبله السياسي والشخصي، لا سيما مع اقتراب المحاكمات المتعلقة بفساده، وعودة الشارع الإسرائيلي للاحتجاج بعنف ضد سياساته. السؤال الآن: هل هذه الحرب هي نهاية نتنياهو، أم أنها كعادته ستكون المسرح الذي يعيد فيه إنتاج نفسه؟

ضغوط داخلية

لم يعد الداخل الإسرائيلي كما كان قبل عامٍ واحد. فالمجتمع الذي طالما تغذّى على خطاب الأمن وجد نفسه اليوم منقسمًا على ذاته، بعد حربٍ خلّفت خسائر عسكرية غير مسبوقة، وأزمات اقتصادية وسياسية متراكمة. الاحتجاجات في شوارع تل أبيب والقدس لم تعد مجرد حراكٍ معارض، بل تحولت إلى صرخةٍ ضد البنية التي صنعها نتنياهو منذ سنوات: دولةٌ تدار على مقاس الزعيم، ومحكومة بعقدة الخوف من الآخر، ومعزولة عن محيطها الإقليمي والدولي.

المعارضة الإسرائيلية، التي بدت في البداية مترددة في توجيه النقد العلني أثناء الحرب، عادت اليوم ـ ورغم توقيع اتفاق وقف الحرب ـ لتتحدث بصوتٍ أعلى عن فشل القيادة، وتحمّل نتنياهو مسؤولية تمديد الصراع واستنزاف الجيش والاقتصاد والمجتمع معًا. كما أن المؤسسة الأمنية نفسها بدأت تُظهر تصدعاتٍ حقيقية في علاقتها مع رئيس الحكومة؛ فقيادات الجيش والاستخبارات تدرك أن السياسات المتخبطة أضرت بمكانة الجيش وسمعته، وأن استمرار الحرب لم يعد هدفًا يمكن تبريره عسكريًا أو أخلاقيًا.

 

للمرة الأولى منذ عقود، يتحدث الإعلام الغربي ـ الذي كان منحازًا تاريخيًا لإسرائيل ـ بلغةٍ مختلفة؛ لغة تشكك في السردية الرسمية، وتسلّط الضوء على جرائم الاحتلال بلا مواربة

يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد الإسرائيلي يعيش حالة اختناق حاد، حيث تراجعت الاستثمارات الأجنبية، وارتفعت معدلات البطالة في قطاعات التكنولوجيا والسياحة والبناء، بينما تتزايد أعباء الإنفاق العسكري الهائل. في هذا السياق، يُنظر إلى نتنياهو باعتباره المسؤول الأول عن الانهيار، والرجل الذي حوّل إسرائيل إلى رهينةٍ لمشروعه الشخصيّ.

ضغوط خارجية: تململ الحلفاء

في واشنطن، تتغير النبرة شيئًا فشيئًا. إدارة بايدن، التي كانت تُغدق على تل أبيب دعمًا سياسيًا وعسكريًا مطلقًا، لم تعد موجودة، وإدارة ترامب التي تسير على نفس المسار وجدت نفسها أمام ضغطٍ داخلي متزايد ورأي عام مغاير، بعد أن تحولت صور الدمار في غزة إلى مادةٍ أخلاقية تفضح النفاق الغربي في حديثه عن القيم وحقوق الإنسان. ومع بدء المرحلة الأولى من خطة ترامب الجديدة ـ التي يُراد منها إرساء مسارٍ سياسي ينهي الحرب عبر ترتيباتٍ اقتصادية وأمنية ـ أصبح واضحًا أن واشنطن لا تريد استمرار نتنياهو في قيادة هذا المسار، لأنه بات يمثل عبئًا على مصداقية الحلف الأمريكي في الشرق الأوسط.

أما في أوروبا، فقد عبّرت دول مثل فرنسا وإسبانيا وأيرلندا عن مواقف أكثر تشددًا تجاه سياسات إسرائيل في غزة، بينما وجدت دولٌ أخرى نفسها مجبرة على إعادة النظر في علاقاتها مع حكومة اليمين المتطرف. ورغم أن العواصم الأوروبية تحاول إعادة التوازن في علاقاتها مع تل أبيب، إلا أن الحرب تركت ندوبًا عميقة في الرأي العام الأوروبي، الذي يرى في إسرائيل اليوم دولةً مارقة تتصرف بمنطق الانتقام لا بمنطق القانون الدولي.

في المقابل، تعيش إسرائيل عزلةً دبلوماسية متزايدة داخل الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع الدولي. حتى الحلفاء العرب الذين انساقوا وراء مشاريع التطبيع يجدون أنفسهم اليوم في موقفٍ حرج أمام شعوبهم، بعدما أثبتت الحرب أن التطبيع لم يكن سوى ستارٍ لتكريس الاحتلال وتبرير الجرائم اليومية بحق الفلسطينيين.

مأزق الشرعية

على الصعيد القانوني، لا يزال نتنياهو يواجه ثلاث قضايا فساد مفتوحة، تشمل تلقي رشاوى، وخيانة الأمانة، وسوء استخدام السلطة. وعلى الرغم من أن هذه الملفات جُمّدت سياسيًا أثناء الحرب، فإنها ستعود بقوة في مرحلة ما بعدها، خصوصًا مع تصاعد المطالب الشعبية بإجراء انتخابات مبكرة. هذه الملفات تمثّل سيفًا مسلطًا على رقبته، وتضعه في موقفٍ لا يحسد عليه أمام القضاء والرأي العام.

عرف نتنياهو دائمًا كيف يستثمر الكارثة في بناء صورته، وكيف يحوّل الأزمات إلى فرصٍ للبقاء. في كل مرة يظن خصومه أنه انتهى، يعود بخطابٍ شعبويّ مشحون بالكراهية، يوظف الخوف من الفلسطينيين والإيرانيين، ويراهن على انقسام المجتمع الإسرائيلي. لكن هذه المرة مختلفة. فحججه القديمة فقدت بريقها، ووعوده الأمنية لم تعد تقنع أحدًا، حتى داخل اليمين المتطرف الذي بدأ يتململ من استمرار الفشل الميداني والضغوط الدولية.

لكن الخطر الحقيقي لا يأتي فقط من المحاكم، بل من فقدان الشرعية الأخلاقية. فالعالم يرى اليوم صور الأطفال تحت الركام، والمدن التي سويت بالأرض، والمجازر التي باتت موثقة بدقة، وكلها تُسجَّل في ذاكرةٍ جماعية لا تسقط بالتقادم. لم يعد بالإمكان ترويج الرواية الإسرائيلية القديمة عن محاربة الإرهاب في وجه حركةٍ مقاومةٍ تدافع عن أرضها. إنّ نتنياهو لم يعد يحارب حماس فحسب، بل يحارب فكرة الحرية ذاتها، ويحاول كسر إرادة شعبٍ قرر أن يعيش بكرامة رغم الحصار والموت. الحرب الأخيرة لم تفضح نتنياهو وحده، بل كشفت الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني كله. للمرة الأولى منذ عقود، يتحدث الإعلام الغربي ـ الذي كان منحازًا تاريخيًا لإسرائيل ـ بلغةٍ مختلفة؛ لغة تشكك في السردية الرسمية، وتسلّط الضوء على جرائم الاحتلال بلا مواربة، لم يعد الإعلام الغربي يتحدث عن دفاعٍ عن النفس، بل عن تدميرٍ ممنهج وعقابٍ جماعي.

حماس والمشهد الجديد

قبول حماس بخطةٍ دولية للتهدئة لا يعني استسلامًا، بل هو خطوة تكتيكية تحافظ بها المقاومة على حضورها السياسي والوطني، وتمنح غزة فرصةً لالتقاط أنفاسها بعد عامين من العدوان الوحشي. لقد خرجت حماس من الحرب رغم كل الدمار وهي ما زالت تمثل الصوت الوطني الجامع للفلسطينيين، بل إنها اليوم تحظى بتعاطفٍ دوليٍ متنامٍ بعد أن كشفت الحرب طبيعة الاحتلال العدوانية، وأسقطت الأقنعة عمن كانوا يدّعون الوساطة والنزاهة.

في المقابل، يحاول نتنياهو تصوير أي تفاهمٍ أو تهدئةٍ على أنه انتصارٌ أمني، لكنه في الحقيقة انتصارٌ لفظيّ لا أكثر. فكل بندٍ في الخطة الأمريكية يمثل قيدًا جديدًا على سياساته، وكل تنازلٍ إنسانيّ يقدّمه سيكون بمثابة اعترافٍ ضمني بفشله في إخضاع غزة أو إنهاء المقاومة. إنّه رجلٌ يفاوض من موقع العجز، لا من موقع القوة، ويحاول التمسك بخيوط زعامته عبر افتعال بطولاتٍ رمزية تخفي خلفها هزيمةً استراتيجية.

ومع أن بعض المراقبين يرون أن نتنياهو قد يستغل أي انفراج سياسي ليقدّم نفسه مجددًا كـ "زعيم المرحلة الانتقالية"، إلا أن الواقع يشير إلى أن رصيده الشعبي آخذ في التآكل. استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت تراجعًا حادًا في شعبيته، وازديادًا في التأييد لخصومه داخل المعسكر اليميني ذاته. لقد تحوّل من رمزٍ للقوة إلى عبءٍ سياسيّ يخشاه الجميع، حتى أقرب حلفائه في الائتلاف، فيما ترتفع أصوات في أوروبا وأمريكا تدعو إلى مراجعة شاملة للدعم غير المشروط لإسرائيل، وإلى مساءلة قيادتها أمام المحاكم الدولية. بهذا المعنى، فإن اليوم التالي لنتنياهو ليس مجرد مسألة داخلية إسرائيلية، بل هو عنوان لتحوّلٍ أوسع في الوعي العالمي تجاه الكيان نفسه.

ما بعد نتنياهو

ليس من المبالغة القول إنّ إسرائيل بعد هذه الحرب لن تكون كما قبلها. فمهما حاول نتنياهو إنقاذ نفسه، فإن مرحلة ما بعد غزة ستفرض واقعًا جديدًا: إعادة تشكيل التحالفات الداخلية، وفتح الباب أمام قيادةٍ سياسية تحاول تلميع صورةٍ فقدت بريقها أمام العالم. لكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن الأزمة أعمق من شخص نتنياهو؛ إنها أزمة مشروعٍ قام على الاحتلال والتمييز، ولن يستقر ما دام الشعب الفلسطيني محرومًا من حقه في الحرية والاستقلال.

إنّ اليوم التالي لنتنياهو قد يكون بداية النهاية لرجلٍ بنى مجده على الدم، لكنه قد يكون أيضًا اختبارًا لضمير العالم، ومدى استعداده لقول الحقيقة بلا مواربة: لا يمكن أن يكون السلام مع القتلة، ولا يمكن لرجل غارقٍ في الفساد والدم أن يصنع مستقبلًا لشعبٍ يعيش على أنقاض الآخرين. فالتاريخ لا يرحم، والشعوب ـ مهما تأخرت ـ تعرف كيف تُسقط الطغاة، ولو بعد حين.

أعلى