الأمر الآن مختلف لوجود 6 دول نووية ضمن التحالفات المحتمل أن تشارك في الحرب. ونحن أمام حرب يبدو أنها ستشمل الغرب كله في مواجهة 3 دول فقط هي روسيا والصين وكوريا الشمالية
تلفّ غيوم الحرب العالمية الثالثة مختلف أرجاء العالم. وانتقل الشعور بالخطر من
النُّخَب إلى الجمهور العام في كثيرٍ من المجتمعات بعدما صدرت تهديدات من قيادات
عليا في الدول الكبرى بشأن استخدام الأسلحة النووية.
وتحدَّث كبار الساسة في العالم صراحةً عن احتمالات اندلاع الحرب العالمية. منهم مَن
حذَّر، ومنهم من قال: إنه سيحاول مَنْع اندلاعها. والبعض منهم -يتوقَّع أن يكونوا
طرفًا فيها-، طالبوا جيوش بلادهم بالاستعداد لحرب شاملة. وصدرت تقارير وتقديرات حول
الزمن المتوقع لاندلاع تلك الحرب، فقيل: ثلاث سنوات، وقيل خمس سنوات.
وإذا كان رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان هو صاحب صيحة التحذير الأولى من احتمال
وقوع تلك الكارثة الإنسانية -ضمن رؤيته لدور أوروبا والأطلسي في الحرب الأوكرانية-؛
فالأهم أن الرئيس الروسي بوتين -وهو المعنيّ الأول باحتمال اندلاع تلك الحرب-، قال:
إنه يشعر بالقلق من أن العالم يتَّجه نحو الحرب العالمية الثالثة. وأما الرئيس
الأمريكي ترامب فقال: إن الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة جدًّا، لكنّه سيمنعها.
أما الرئيس الصيني فقد طالَب جيشه علانيةً بالاستعداد للحرب بشكل شامل.
وكما هو معلوم، فإن شرارة تلك الحرب يمكن أن تندلع إذا قررت الصين غزو تايوان، وفق
إجماع الخبراء. وهناك مَن تحدَّث عن أن العالم دَخَل فعليًّا أتون تلك الحرب، وأنه
فات الأوان لوقف دوران محركاتها.
وهناك مَن يصف ما جرى ويجري في الشرق الأوسط وأوكرانيا بأنها حروب تجري ضمن مخططات
-أو هي مقدمات-، لتلك الحرب. والأمر لم يَعُد مجرد أحاديث وتصريحات وتقديرات؛ إذ
جرت وتجري خطوات عملية تؤكد هذا الاندفاع نحو الحرب، أو نحو تصعيد القدرات العسكرية
استعدادًا للحرب.
لقد شهد العالم خلال السنوات الأخيرة زيادات غير مسبوقة في مخصصات ميزانيات الجيوش
والصناعات العسكرية، كما بات محققًا تصاعد سباق التسلح الذي بات يُتَابع كانتصارات
تكنولوجية للدول على تكنولوجيات الأخرى، وهو ما يُوضَع ضمن خانة الاستعدادات للحرب.
والأخطر أن الدول باتت تتحشّد مع بعضها البعض، وتُشكّل تحالفات ضد دول وتحالفات
أخرى، وأن جيوش الدول الكبرى باتت تُجري مناورات عسكرية مشتركة مع الدول الأقرب
لها. وهي تطوُّرات جرت في مختلف أنحاء العالم.
لقد شهدت أوروبا توقيع اتفاقيات لمدّ مظلة الحماية النووية من الدول النووية إلى
الأخرى غير النووية، كما تعمَّقت الحماية النووية بين دولتين أوروبيتين نوويتين.
وجرى عقد اتفاق بريطاني ألماني، يتم بمقتضاه مَدّ مظلة السلاح النووي البريطاني
لتحمي ألمانيا أيضًا. وذهبت فرنسا وبريطانيا -وكلاهما دولة نووية-، لتشكيل تحالف
نووي، يبدو أنه سيكون مَعنيًّا بتوفير مظلة حماية نووية لدول الاتحاد الأوروبي
كلها، أو للقطاع الأوروبي من حلف الأطلسي فقط.
وقد سبق للولايات المتحدة -خلال حكم بايدن- أن شكَّلت تحالُفَيْن في محيط الصين؛
أحدهما يضم كلًّا من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا (أوكوس)، والثاني يضم
الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا (كواد). وكلا الحلفين مُوجَّه ضد
الصين.
وفي المقابل، أو من جهة أخرى، فقد عدَّلت روسيا عقيدتها النووية، فأصبح أيّ هجوم
على روسيا من دولة غير نووية، بدعم من دولة نووية، هجومًا يسمح بالرد النووي على
هجوم غير نووي. كما ألغت روسيا التزاماتها السابقة بعدم نشر الصواريخ قصيرة ومتوسطة
المدى في أوروبا.
وإذا بدا لافتًا تعدُّد المناورات الإستراتيجية المشتركة بين روسيا والصين؛ فقد
أصبح التحالف بين روسيا وكوريا الشمالية ذا طابع قتالي فِعْلي، بعد عقد اتفاق
إستراتيجي بين البلدين، وبعد مشاركة قوات كورية شمالية في الدفاع عن الأرض الروسية
التي احتلتها القوات الأوكرانية، كما حدث خلال عملية تحرير منطقة كورسك.
لكن، ورغم كل تلك المؤشرات والتصريحات والتقديرات -وتلك الحقائق-؛ فهناك رؤية أخرى
مفادها أنه لا حرب عالمية ثالثة، وأنّ كلّ هذا الذي يجري يمكن وَضْعه في خانة منع
اندلاع تلك الحرب بالدرجة الأولى. وأنه محاولة لإعادة تقسيم العالم وتشكيل نظام
دولي جديد، دون ولوج الحرب الكبرى.
هذه الإفادة تتردد باستخدام عدة عبارات. منها أنّ ما يجري من استعدادات وتصعيد
وتهويل بشأن الحرب العالمية الثالثة هو لمنع اندلاع تلك الحرب، وفقًا للقاعدة التي
تقول: إنّ مَن يريد منع الهجوم عليه الاستعداد جيدًا للحرب؛ إذ الاستعداد الجيد
للحرب يمنع الخصم من اتخاذ القرار بالهجوم. ومنها أن الحرب العالمية الثالثة لن
تكون إلا حربًا نووية، وهي مقولة حقيقية، لكنّها تعكس الرؤية القائلة بعدم إمكانية
اندلاع مثل تلك الحرب، أصلًا، وعلى الأقل هي مقولة تُحقّق أو تُجسِّد التخويف
الشديد والحاسم من التهوُّر والاندفاع باتجاهها.
إذن ما هي الحرب العالمية الثالثة؟ وما أسباب اندلاعها؟ وما هو البديل أو كيف يمكن
الوصول لتحقيق قَدْر من نتائج الحرب -عبر تغيير التوازنات ومن خلال حروب جزئية-،
دون وقوع الحرب العالمية؟
ما هي الحرب العالمية الثالثة؟
أخذت الحروب صفة العالمية -الصريحة-، بدءًا من الحرب العالمية الأولى. قبلها كان
النمط الغالب هو اندلاع الحرب بين دولتين. وتوسَّع مفهوم وصفة العالمية في الحرب
الثانية. وإذ جرت الحرب العالمية الأولى، وشارك فيها دول من أوروبا والولايات
المتحدة وروسيا وتركيا، فقد جرى التركيز على صفة العالمية أيضًا، بالنظر للتغييرات
التي أحدثتها تلك الحرب، وبشكل أساسي لما أنجزته الدول الأوروبية بشأن تفكيك
الإمبراطورية العثمانية، وإنهاء الدور التركي في أوروبا والشرق الأوسط وغيرها، وبما
أنجزته من تغييرات في روسيا القيصرية.
وكان ما أعطى النتائج صفة العالمية أكثر، أن جرى تشكيل ما سُمِّي وقتها بـ«عُصبة
الأمم»
التي مثَّلت بداية تشكيل نظام دولي، له صفة العالمية.
وأخذت الحرب الثانية صفة العالمية، بشكل أشد وضوحًا وصرامة، لمشاركة بريطانيا
وفرنسا وروسيا وأمريكا والصين وإيطاليا واليابان والفلبين -وهي دول منتشرة في قارات
أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية-، وتمدّدت المعارك إلى إفريقيا، خاصةً في منطقة
الساحل على أراضي الدول الواقعة على البحر المتوسط.
وأخذت نتائج الحرب الثانية صفتها العالمية أيضًا، بعدما تشكلت هيئة الأمم المتحدة،
التي باتت تضم جميع دول العالم دون استثناء، وهو تنظيم دولي جرى تأسيسه على هذا
النحو لأول مرة في التاريخ الإنساني.
وإذ يجري الحديث الآن عن حرب عالمية ثالثة، فهي ستأتي مختلفة على نحو كبير بل
وخَطر. أول جوانب هذا الاختلاف يتعلق بماهية الأطراف التي يحتمل أن تتحارب. شهدت
الحرب العالمية الثانية حربًا بين طرفين؛ الأول ما سُمِّي بدول التحالف، وضمَّت
كلًّا من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين (دول التحالف)، والثاني
ما سُمِّي بدول المحور، وضمَّت كلًّا من ألمانيا وإيطاليا في أوروبا واليابان في
آسيا.
والآن يدور الحديث بشأن الحرب الثالثة باعتبارها حربًا ستخوضها روسيا والصين وكوريا
الشمالية -والبعض يضم إيران لهما-، في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا
وإيطاليا -أو حلف الأطلسي المُشَكَّل من أوروبا وأمريكا-، ويُضاف إليهم كلّ من
اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ودول أخرى. وفي ذلك فنحن أمام تحالفات جديدة،
تتغيَّر بمقتضاها حالة التحالف التي شهدتها الحرب الثانية؛ حيث كانت روسيا والصين
في تحالف مع الغرب، فستصبح ضده. فيما تنضم ألمانيا واليابان وإيطاليا إلى الولايات
المتحدة، فيما كانت في الحرب العالمية الثانية ضدها.
كما أننا أمام حرب تشارك فيها 6 دول تمتلك الأسلحة النووية، فيما جرت الحرب الثانية
قبل أن يكون في العالم أيّ دولة نووية؛ إذ لم يُنْتَج السلاح النووي ويُستخدَم إلا
في نهاية الحرب. ويرى بعض الخبراء أنه استُخْدِمَ بعد نهاية الحرب؛ حيث قامت
الولايات المتحدة -التي أصبحت أول دولة نووية في التاريخ- باستخدام هذا السلاح ضد
اليابان.
الأمر الآن مختلف لوجود 6 دول نووية ضمن التحالفات المحتمل أن تشارك في الحرب. ونحن
أمام حرب يبدو أنها ستشمل الغرب كله في مواجهة 3 دول فقط هي روسيا والصين وكوريا
الشمالية.
وفي ذلك أيضًا يَطرح هذا الوضع أسئلة كبرى:
أوّلها: إن مثل تلك الحرب ستُجْبِر بعض الدول على استخدام السلاح النووي -خاصةً
روسيا-؛ التي ستجد نفسها في مواجهة كلّ دول أوروبا وأمريكا، أو حلف الأطلسي. وهو ما
يعني أن لا دولة في العالم ستنجو من تأثيرات الإشعاع النووي، سواء شاركت في الحرب
أو لم تشارك، وهنا نحن أمام جريمة قتل جماعي لكل شعوب العالم.
وثانيها: يتعلق بانحيازات دول أخرى مؤثرة في العالم خلال اشتعال تلك الحرب، كما هو
الحال بشأن الهند والبرازيل وكندا، على الأقل. وهناك مِن الخبراء مَن يرى أن دولًا
مثل نيوزيلندا لن تشارك في تلك الحرب.
وثالثها: يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وبالعالم الإسلامي عمومًا. ففي منطقة الشرق
الأوسط توجد ثلاث دول نووية، أولها الكيان الصهيوني، وهو يدور في فلك الولايات
المتحدة، ويمتلك سلاحًا نوويًّا مُوجَّهًا ضد دول عربية وإسلامية. والثانية هي
باكستان التي ستُحدّد خياراتها بناءً على خيارات الدولة الثالثة وهي الهند.
ورابعها: يتعلق باحتمالات أن تكون الحرب فرصة لدول عديدة للإعلان عن أنها باتت
تمتلك السلاح النووي. وبمعنى أدق، فالسلاح النووي هو السؤال المسيطر على تلك الحرب.
أجواء ومؤشرات الحرب
يسبق اندلاع الحروب دومًا أعمال حَشْد وتعبئة إعلامية تقوم على نشر فكرة وثقافة
الخوف من الآخر، الذي تُجْرَى حملات مكثّفة لشيطنته، كما يتم اتخاذ إجراءات
اقتصادية تُوصَف باقتصاد الحرب، وعلى رأسها توسيع بنود الميزانيات العسكرية على
حساب البنود المدنية والمجتمعية. كما تُتَّخذ إجراءات عملية تستهدف تأمين وحماية
السكان المدنيين خلال الحرب.
وفي المجال العسكري تُجْرَى أعمال التجنيد الإجباري، مع توسيع عمليات إنتاج الأسلحة
والذخائر. وضمن تلك الإجراءات والوقائع، فقد نشرت إحصاءات في الغرب حول توسع قدرة
روسيا على الإنتاج العسكري. فقد قيل: إن روسيا تُنْتِج من الذخائر في ثلاثة أشهر ما
يُعادل ما تنتجه دول الأطلسي في عام كامل، كما تكاثرت المعلومات والبيانات حول
تنامي القدرات العسكرية الصينية التقليدية والنووية.
وتحت هذا العنوان تقرَّر رفع سقف الإنفاق العسكري للدول الأوروبية ليصل إلى 800
مليار يورو. وهو ما دفَع بعض الخبراء للقول: إن أوروبا بدأت الاستعداد للحرب مع
روسيا. وقد ساهمت الحرب الأوكرانية، والحرب الخاطفة بين باكستان والهند، والحرب
الصهيونية على إيران؛ في توسيع معرفة الجيوش الغربية والروسية والصينية -وغيرها-،
بالتكنولوجيا التي لدى كل طرف، بما دفَع للبحث عن إنتاج أسلحة جديدة، وتطوير
الأسلحة القائمة؛ استعدادًا لتلك الحرب.
وعلى صعيد تهيئة الرأي العام، ولمعرفة مدى تأثير ما نُشِرَ عن احتمالات وقوع الحرب
على المجتمعات؛ فقد نُشرت استطلاعات للرأي في الغرب أشارت إلى تنامي الشعور
باحتمالات وقوع الحرب. وهي نِسَب تبدو مُخِيفَة، ذلك أن مواقف الرأي العام هي دورة
تفاعلية. في البداية يستجيب الرأي العام لما يبثّه الإعلام من مخاوف، ومع ازدياد
القناعات وسط الرأي العام، يتحوَّل إلى حالة ضاغطة على القرار السياسي، حتى تصل
الأمور إلى حالة هستيريا الحرب.
وقد ذكرت استطلاعات للرأي نُشِرَت مؤخرًا أن الشعور باحتمالات وقوع الحرب قد تنامَى
بشدة، إذ قال 55% من الفرنسيين: إن خطر اندلاع حرب عالمية جديدة أمر حقيقي تمامًا،
وكانت النسبة في إسبانيا نحو 50%، وفي إيطاليا 46%، وفي الولايات المتحدة 45%،
وبلغت في ألمانيا 41%، وهي أرقام تشير إلى تشبُّع الرأي العام الغربي بفكرة الحرب.
وقد وصل حال التقدير باحتمالات الحرب، والتأكيد على احتمال أن تتحوَّل إلى حرب
نووية، أن أعلنت السلطات الألمانية عن خطط لتحويل الأنفاق ومحطات المترو ومواقف
السيارات إلى ملاجئ، وذكرت تقارير فنلندية أن في البلاد نحو 50 ألف ملجأ يمكنها أن
تستوعب نحو 85% من السكان خلال الحرب.
وواقع الحال أن الأجواء والمؤشرات تتكاثر؛ إذ تتزايد الصراعات على الموارد وتتصاعد
حالة انعدام الثقة وتنهار المنظومات القانونية التي تُؤمّن إمكانيات التفاوض
والوصول لحلول سلمية للصراعات.
لماذا الحرب؟
لقد عاشت الإنسانية طوال مراحل تاريخها داخل دوامة الحروب. ويمكن القول -تخصيصًا-:
إن الظاهرة الاستعمارية التي طغَت على الغرب شكَّلت المرحلة الأطول للحروب في
التاريخ الإنساني. وأنها نشرت الحروب في مختلف دول العالم، وكانت الأكثر دموية
والأكثر وضوحًا في أسبابها ودوافعها العدوانية.
بعد النهضة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية التي عاشها الغرب بدءًا من القرن
الرابع عشر، ونتيجة لما حدث من تطوير وتوسع القدرة على الإنتاج السلعي، أصبحت الحرب
حاضرة في كلّ أنحاء العالم. لقد ارتبط تطوُّر الغرب بشنّ الحرب على الآخرين، ضِمْن
ما سُمِّي بظاهرة الإمبريالية.
إذًا لا حرب من أجل الحرب. فالحرب تندلع دومًا لأهداف سياسية أو اقتصادية أو
عقائدية، أو جغرافية... وبقدر ما تتوسع مصالح الدول في الخارج، تعمل على تطوير
قدراتها العسكرية لتأمين مصالحها الاستعمارية، أو لتأمين حركة تجارتها... إلخ.
والحرب الثالثة متعددة الأسباب ومتعددة الأهداف. فهناك الصراع على الموارد. لم
يَعُد الغرب قادرًا على الاستحواذ على الموارد بالقوة العسكرية، كما كان خلال حقبة
الاستعمار التقليدي. وإذا كانت الصين والهند وغيرهما قد أصبحت منافسًا شرسًا في
الصراع على الموارد، وإذا كان الصراع على الموارد قد انتقل حتى إلى المحيط المتجمد
الشمالي، فقد رأينا تجربة صارخة لهذا الصراع فيما حدث في البيت الأبيض لزيلينسكي
مِن قِبَل ترامب ونائبه، وما جرى بعد ذلك؛ إذ أُجْبِر الرجل على التوقيع على اتفاق
صاغته الإدارة الأمريكية لتأمين السيطرة الأمريكية على المعادن النادرة في
أوكرانيا.
وكذلك تابعنا ما أعلنه ترامب حول الاستيلاء على جزيرة جرينلاند، وحول ضمّ كندا،
وكلاهما تشمل أراضيها معادن نادرة، وكلاهما لهما حقوق سيادية في المحيط المتجمد
الشمالي، بحكم الموقع الجغرافي.
وفي ذلك أيضًا، تُعدّ إفريقيا الشاهد الأكبر على الصراع الدولي على الموارد
حاليًّا.
وهناك الصراع الناتج عن تغيُّر القدرة التصنيعية والإنتاجية والتصديرية في العالم،
لصالح الصين والهند ودول أخرى على حساب قدرة الدول الغربية التي كانت مهيمنة على
الصناعة والتجارة العالمية منذ بداية ظاهرة الاستعمار.
وهناك الصراع الإستراتيجي حول تصنيع السلاح المتطور وتصديره. وتصدير السلاح هو قضية
تتعلق بتوسع النفوذ الدولي وليس فقط بالتجارة والميزانيات. وهناك ما هو ناتج عن
اختلاف النماذج الاقتصادية والنُّظم السياسية، بما لها من أبعاد عميقة تتعلق
بمفاعيل القوة الناعمة لنفوذ الدول.
وهناك الصراع الجاري للسيطرة أو لتقاسم السيطرة على القرار والنظام الدولي. وهي
قضية متفاعلة على نحو كبير وخطير، أو هي النقطة والهدف الأعلى للصراع واحتمال
اندلاع الحرب. لقد تغيَّرت موازين القوة الاقتصادية والتجارية والتصنيعية
والعسكرية، لغير مصلحة الغرب، بما يدفع الدول التي تصاعدت معالم قوتها للدفع لإعادة
بناء نظام دولي يكون مُعبِّرًا عن الوضع الفعلي في العالم.
وفي ذلك يُطرَح بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب ليكون بديلًا للنظام الحالي الذي
يسيطر عليه الغرب.
ما الذي يجري؟
الذي يجري الآن هو ما يُسمَّى في الدراسات الإستراتيجية بتنشيط الردع النووي لمنع
الحرب، ولدفع الغرب لتقديم تنازلات على صعيد النظام الدولي، دون وقوع الحرب.
ويمكن وصف حالة التهديد بالحرب، والتشديد على أنها لن تكون إلا حربًا نووية -كما
يتردد دومًا على لسان الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي
حاليًّا-، بتفعيل وتنشيط حالة الردع النووي، لمنع الحرب من جهة، ولإجبار الغرب على
تقديم تنازلات على صعيد القرار والنظام الدولي، تحت التهديد بالحرب النووية.
ويمكن وصفها بمعنى آخر بأنها تنشيط للردع النووي؛ لمنع احتمالات قيام الغرب بالهجوم
على الدول الصاعدة، وللتأثير على القرارات الغربية بشنّ الهجمات على مصالحها خارج
أراضيها أو على الدول المتحالفة معها. ويمكن القول بأن توسُّع عدد الدول التي تمتلك
السلاح النووي بات مُساهمًا في لَجْم بعض الصراعات خوفًا من اندلاع الحرب من جهة،
وأن هذا التوسع بات مساعدًا في التأثير على القرارات في النظام الدولي الحالي
ودافعًا لتغييره بحكم تغيُّر التوازنات.
فامتلاك عدد من الرؤوس النووية كافٍ لمنع الحرب أو لمنع الهجوم عليها، خاصةً وأن كل
الدول النووية تمتلك الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية إلى حيث تريد. وهذا
التغيير في توازنات القوة يساعد في تحريك المياه الراكدة بشأن تغيير النظام الدولي.
والحاصل أن العالم كان قد استقر على أن
«الأسلحة
النووية ليست للاستخدام بين الدول الكبرى»،
فانفتحت آفاق الصراعات والحروب على الدول الأخرى خلال الحرب الباردة، بسبب استبعاد
احتمال وقوع صدام عسكري بين الدول الكبرى.
وكان الاعتبار الحاكم لتلك المعادلة مكونًا من ثلاث قواعد؛ الأولى: إن العالم كان
يتحكّم به تحالفان أو حِلْفان؛ أولهما حلف الأطلسي والثاني حلف وارسو، وأن الحلفين
قد أصبحا على قناعة باستحالة تحقيق انتصار أيّ منهما على الآخر عبر الحرب.
والثانية: إن الحلفين كان يمكنهما التقاتل في معارك جزئية على أراضي الدول الصغرى،
دون أن يؤدي ذلك إلى تصادم بينهما.
والثالثة: إن العالم الثالث أو البلاد التي لا تنتمي لأيٍّ من الحلفين لا دولة
نووية منها، وأن تلك الدول لا تشهد حالات نهضة صناعية تُهدِّد بتغيير التوازنات
الاقتصادية أو العسكرية.
وهو ما أحدث حالة استرخاء تامة في علاقات الحلفين المتحكمين في العالم. لكن العالم
تغيَّر؛ فقد انهار أحد التحالفين. لقد تفكَّك حلف وارسو، وانفردت الولايات المتحدة
وحلف الأطلسي بالسيطرة على العالم.
لكنَّ تطورًا جديدًا قد حدَث بما غيَّر الأوضاع التي سمحت بهيمنة الغرب؛ حيث تصاعدت
قوة دول من العالم الثالث، ولم تصبح فقط دولًا نووية، بل باتت دول تُوازن قدراتها
التكنولوجية والتصنيعية والتجارية والعسكرية قدرات الولايات المتحدة، كما هو حال
الصين، وبات منها من يتفوق حتى على الدول التي كانت تستعمرها سابقًا -كما هو حال
الهند مع بريطانيا-، بما بات يتطلب إعادة ترتيب أوزان المساهمة في صناعة واتخاذ
القرار الدولي.
لكنّ الغرب يرفض ويحاول البقاء بالقوة على قمة هرم إدارة العالم، بما جعل الدول
الصاعدة تلجأ إلى فكرة قلب الطاولة؛ لإجبار الغرب على التراجع والإقرار بالواقع
الجديد. وتجربة حرب أوكرانيا نموذج مُهِمّ في هذا المجال؛ إذ هددت روسيا الغرب
بالأسلحة النووية بما منع الغرب من دخول الحرب بشكلٍ مباشر إلى جانب أوكرانيا.
تلك المعادلة وضعت الأساس الإستراتيجي لفوز روسيا في تلك الحرب. ويمكن القول بأن
الصين تُراقب ما يجري وتستعدّ لخوض تجربة مماثلة -في خطوطها العامة-، بشأن الحرب
على تايوان، فإن نجحت الصين ستنكسر الهيمنة الغربية، ويُفتح الطريق أمام إعادة
تأسيس قواعد إدارة النظام الدولي الجديد.