اعملوا الخير ولو في الصين !
يعتبر عام 2008م عاماً استثنائياً بالنسبة لمسيرة العمل الخيري في جمهورية الصين الشعبية؛ حيث تبنَّت الحكومة الصينية فيه مجموعة من التشريعات التي من شأنها أن تُطلِق المجال - ولو بشكل نسبي - للقطاع غير الربحي عموماً والخيري على وجه الخصوص؛ للظهور في العلن بعد عُمُرٍ من سيطرة النظام الاشتراكي عن نظام الحكم، والذي كان يرى في العمل المدني المستقل خروجاً عن طوع الحكومة. ويَعُدُّ كثير من الباحثين أن الزلال الذي ضرب شرق الصين عام 2008م، والذي واجهت الحكومة الصينية أثناءه وبعده ضغوطات كثيرة من الداخل والخارج؛ لفتح مجال أكبر للقِطاع الخيري للمساهمة في إغاثة المنكوبين من الزلازل خصوصاً، والفقراء المنتشرين في أنحاء الصين بشكل عام، بالإضافة إلى مشاركة أكثر من 70 ألف متطوع في تنظيم ألعاب الأولمبياد في عام 2008م، كل ذلك كان بمثابة شعلة التحوُّل التي لفتت الانتباه العالمي لمرحلة جديدة تمرُّ بها الصين الشعبية، وعلامةِ انفتاح غير معهود من قِبَل الحكومة على شعبها، وإتاحةِ الفرصة لهم للمشاركة في أحداث كبيرة مرَّ بها المجتمع الصيني. وبالعموم فإن المتأمل في حالة الصين يلحظ أن الاهتمام النسبيَّ بمنظمات القِطاع غير الربحي يأتي متمشياً مع التحوُّل الذي تشهده الصين من سيطرة الدولة على كل مجريات حياة الناس إلى حالة السوق الاقتصادي الحر، الذي يفسح المجال بشكل أكبر للفرد والجماعات للمشاركة في الحياة العامة بمختلف مجالاتها.
إن التاريخ المقروء المتوفر يشير إلى أن ما يسمى بالمنظمات الاجتماعية (غير الربحية) كانت موجودة في الصين منذ عهد قديم وقد بلغ عددها حتى عام 2007م أكثر من 300.000 منظمة صغيرة؛ إلا أن أغلب هذه المنظمات أقرب ما تكون إلى فروع حكومية تسيطر عليها الدولة وتعتمد هي بدورها على الدعم الحكومي كمصدر رئيس للدخل، إلا أن الجديد في التشريعات التي استُحدِثت مؤخَّراً، هو التوجه نحو مَنْح هذا النوع من المنظمات المحلية استقــلاليتها عن الحكــومة، وفَتْحِ المجال - ولو بشكل محدود - للمنظمات الخيرية الدولية للعمل داخل الصين. ومؤخراً تمكَّنت ثلاث منظمات خيرية عالمية أجنبية من التسجيل داخل الصين والعمل فيها.
لقد صاحب هذا التحولَ الحكومي تجاه القطاع غيرَ الربحي في الصين وعواملَ أخرى انتشارُ ثقافة الدعم الخيري بين الأفراد العاديين وهو الأمر الذي لم يكن ظاهرة اجتماعية مشاهَدة في المجتمع الصيني، ولقد قدَّم الأفراد الصيــنيون ما يعادل 55 % من التبرعات التي وُجِّهت لصالح زلازل عام 2008م، والتي بلغت أكثر من 15 بليون دولار أمريكي. كما انتشر مفهوم المسؤولية الاجتماعية بين الشركات الصينية وتوجَّه كثير من أصحاب الشركات الكبيرة إلى تأسيس مؤسساتهم الخيرية المانحة، كما هو حال خامس أغنى رجل في الصين (شن فاشو) الذي وَجَّه 90 % من ثروته التي تقدَّر بـ 1.17 بليون دولار أمريكي لصالح مؤسسته الخيرية المانحة.
من الناحية التنظيمية فإن أفضل تعبير يمكن أن يطلَق على هذا التحوُّل، هو أنه تحوُّل نسبيٌّ؛ فما زال هناك انتقائية في التصريح لتكوين منظمات خيرية محلية أو السماح لمنظمات خيرية خارجية للعمل داخل الصين، وما زالت الأولوية تُعطَى لتلك المجموعات الموالية للحكومة، أو لتلك المرتبطة بجهات حكومية. وتُواجَه كثير من المنظمات الخيرية العالمية الراغبة في تقديم العون داخل الصين بأنظمة غير شفافة وغير موضوعية. لكن الشيء الجدير ذكره هنا، هو أن الصين متجهة إلى إجراء تغييرات شبه جذرية في أنظمتها وتشريعاتها المتعلقة بعمل منظمات القطاع غير الربحي (المحلي والدولي)، والتي من شأنها أن تفسح المجال لعمل خيري مستقل ومنظَّم؛ كما يشير إلى ذلك مدير إدارة تسجيل المنظمات الاجتماعية في وزارة الشؤون المدنيَّة في الصين في تصريح له أواخر العام الماضي (2009م).
عندما تتأمل خريطة العمل الخيري الإسلامي، فإنك تجده - على قلَّته - يتمركز في بعض القارات ويكاد يكون منعدماً في أماكن أخرى؛ ولذا فإن هذه المقالة المختصرة تحاول أن تلفت انتباه قادة العمل الخيري الإسلامي ومحبِّيه إلى أن فرصة قد تكون سانحة بدأت تلوح في الأفق لهم في دولة الصين التي تشق طريقها كلاعب رئيسٍ في العالم، ولعل الحضور المبكر للمنظمات الخيرية الإسلامية في الصين مع هذه التحولات النسبية للقطاع الخيري هناك يمكن أن يعطي كثيراً من المميزات والمزايا التي تمهد له الطريق للوصول إلى مبتغاة وأهدافه السامية.