وتُستخدَم في الحروب النفسية مختلف أساليب الدعاية والوسائل السيكولوجية والمعنوية الأخرى؛ للتأثير في معنويات العدو واتجاهاته، لخلق حالة من الانشقاق والتذمُّر بين صفوفه، مما يساعد في كَسْب المعارك والحروب، وإلحاق الهزيمة بالخصم.
«يأتي على أهل الحق لحظة يظنون فيها أنهم مجانين، من فرط الوقاحة والثقة التي يتحدَّث بها أهل الباطل».
هذه عبارة كتبها أحد المفكرين، يُلقي فيه الضوء على طبيعة الصراع بين الحق والباطل، ويصف الزور والبهتان الذي ينشره أهل الباطل ليقلبوا الحق باطلًا، والباطل حقًّا، وهذا ما اصطُلِحَ على تسميته بـ«الحروب النفسية».
فالحرب النفسية كانت دائمًا ميدانًا إضافيًّا يتدافع فيها أصحاب الرسالات، ضد أعداء الإنسانية والحق، حين يتم تزوير الحقائق لإحباط المؤمنين وإدخال الوَهَن في قلوبهم.
ولعل الحرب المستعرة الآن في غزة خير مثال؛ حيث نرى أن تلك المعركة لا تُدار عسكريًّا فقط، بل على مسارات أخرى قد تكون أشد تأثيرًا.
أحد تلك المسارات هو ما يُعرَف في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية بـ«الحرب النفسية». وهذه الحرب يمارسها طرفَا الصراع في غزة منذ أول يوم من اندلاع القتال، سواء كان الجانب الصهيوني أو المقاومة الفلسطينية.
ومع وصول القتال إلى حائط سدّ من غير أُفق سياسي يُنهي ذلك الصراع المسلح، فقد تصاعدت الحرب النفسية بأدواتها ووسائلها، وبات كل طرف يحاول التأثير على الطرف الآخر ليجبره على الانصياع والخضوع لأهدافه ورؤيته لنهاية القتال.
وبلغت ذروة تلك النوعية من الحرب النفسية، أن شاهدنا رئيس وزراء حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو يخرج في مؤتمر صحفي ليومين متتاليين مستخدمًا الخرائط، يشرح ويُبرِّر، ويُوجِّه رسائل يمينًا ويسارًا إلى جهات عديدة؛ سواء كانت داخلية أو خارجية.
بل وصل الأمر بالمتحدّث العسكري للجيش الصهيوني، في أحد مؤتمراته الصحفية إلى استخدام عبارات مثل: «السنوار لن يُفرّق الإسرائيليين»، و«السنوار هدفه تدميرنا».
وعلى الجانب الآخر، رأينا كيف طوَّعت كتائب القسام ورقة الأسرى الصهاينة، وتلاعبت بها باحترافية، ليس للتأثير على نتنياهو والجمهور الصهيوني فقط، بل أيضًا للتأثير على أكبر داعميه وهي الولايات المتحدة.
لذلك يحاول هذا المقال تتبُّع إستراتيجيات وأدوات الحرب النفسية لدى المقاومة والصهاينة، ومن الذي يتفوّق فيها، وإلى أيّ مدًى تستطيع تلك النوعية من الحروب أن تتحكَّم في نتائج الصراع المحتدم في فلسطين.
ماهية الحرب النفسية
تُعَرِّف مؤسسة راند الأمريكية الحرب النفسية، بأنها الاستخدام المخطَّط للدعاية وغيرها من العمليات النفسية للتأثير على آراء وعواطف ومواقف وسلوكيات الطرف الآخر.
بينما يشرح قاموس نيوورلد المصطلح، بأنه استخدام الدعاية الإعلامية، وغيرها من الوسائل التي يمكن لها أن تُؤثِّر في الجماهير؛ وتتسبَّب في خَلْطٍ بالتفكير لديهم، وقتل الروح المعنوية للعدو المستهدَف.
ولكنَّ الحروب النفسية تختلف عن حروب الأفكار.
فإذا كانت حروب الأفكار تتَّجه إلى عقول الشعوب لتغيير العقيدة الراسخة واتجاهات الرأي والتفكير، فإن الحروب النفسية تتَّجه إلى المعنويات وتحطيم الإرادة بقصد إضعاف نفسية النخبة لدى الخصم، والتأثير على الطبقة الشعبية والجماهيرية الحاضنة، وإصابتها بالإحباط واليأس والعجز، فتتلاشى قدرتها على المقاومة والصمود، وهذا سِرّ قوة تلك النوعية من الحروب.
فالهدف النهائي للحرب النفسية يتعلَّق بتغيير سلوك الخصم، حتى يقتنع بالهزيمة، وأنه لا جدوى من الاستمرار في الحرب، وأن الاستسلام هو الحل.
وتُستخدَم في الحروب النفسية مختلف أساليب الدعاية والوسائل السيكولوجية والمعنوية الأخرى؛ للتأثير في معنويات العدو واتجاهاته، لخلق حالة من الانشقاق والتذمُّر بين صفوفه، مما يساعد في كَسْب المعارك والحروب، وإلحاق الهزيمة بالخصم.
ولذلك، فإن من اشتراطات الحرب النفسية الناجحة، أن تكون مُقنِعَة؛ بحيث لا ينتبه الناس إلى أهدافها ومهامها، ثم لا يحتاطون لها.
وتُوجَّه تلك الأساليب للعدو كما تُوجَّه للحلفاء والموالين والمحايدين والجنود والمدنيين؛ لرفع الحالة المعنوية للمقاتلين والموالين، وخفض الحالة المعنوية للأعداء.
لقد بلغ من تأثير الحرب النفسية أن دفعت برئيس الوزراء البريطاني الشهير تشرشل (والذي قاد بريطانيا والحلفاء إلى هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية)، إلى القول: «كثيرًا ما غيَّرت الحرب النفسية وَجْه التاريخ».
حتى إن كثيرًا من المؤرخين، يرون أن بعض الأمم قد استسلمت لأعدائها قبل أن تُطْلِق جيوش الأعداء طلقة واحدة عليها.
ولكن ما أبرز عناصر الحرب النفسية وأركانها؟
باستعراض أنماط الحروب النفسية السابقة؛ نجد أنها لا تخرج في أساسها عن عنصرين أساسيين: إستراتيجية ناجعة لتلك النوعية من الحروب، ووسائل دعاية مناسبة حاملة لهذه الإستراتيجيات، وسوف يقتصر مقالنا على عنصر الإستراتيجيات.
فالحرب النفسية كإستراتيجية تعني أن يُجيد الطرف الذي يستخدمها، توظيف أدوات تلك الحرب
ومضمون خطاب الدعاية لها، ليضعها في المربع الصحيح، مما يدفعه إلى التقدم نحو تحقيق أهدافه، وفي نفس الوقت تحطيم إرادة الخصم ومعنوياته، فلا يُلقي مثلاً إشاعات أو أكاذيب في أيّ اتجاه، بل يُوجِّهها إلى عناصر قوة خصمه في محاولة لزلزلتها وتقويض أركانها.
فالفعل الإستراتيجي لا بد أن يتضمَّن خمس خصائص حتى يمكن وصفه بالإستراتيجية: خطة، وحيلة، وتموقع، ونمط، وتصوُّر.
ولذلك فإن التفوُّق في الحرب النفسية في كونها إستراتيجية وليست خبطًا عشوائيًّا، بمقدار ما يتوفر فيها من تلك الخصائص الخمس.
وسنحاول تطبيق هذه الخصائص الخمس على الحرب النفسية التي يقوم بها كلّ من الجانبين المتقاتلين؛ لكي نستطيع تقويم أدائهما في تلك النوعية من الحروب.
الكيان الصهيوني
تقوم الحرب النفسية التي شنَّتها دولة الكيان وتتمحور حول سردية أن جيش الكيان هو المنتصر في الحرب الدائرة في غزة، أو على وشك تحقيق الانتصار، وأن الأمر لن يتعدَّى فترة زمنية قد تطول أو تقصر حتى يتحقق الانتصار النهائي، وفي نفس الوقت الادعاء بأنه قد تم تدمير حماس عسكريًّا.
هذه السردية تحتوي مبادئ الإستراتيجية الخمس كالتالي:
أولاً: الخطة؛ فقد وضعت حكومة الكيان وأجهزته العسكرية والأمنية هدفًا مركزيًّا لها، يتمثل في ضرب الروح المعنوية، وتعميم مشاعر الإحباط واليأس لدى المقاومة وحاضنتها الشعبية، سواء في داخل غزة أو خارجها، واستعادة الثقة في الدولة الصهيونية أمام شعبها، وهذا الانتصار في نظر دولة الكيان الصهيوني يسير في مسارين: تحرير الأسرى الصهاينة، وإنهاء الوجود العسكري لحماس.
ولكن على استحياء تُشكّك الصحافة الصهيونية في جدوى خطة الحرب النفسية تلك.
ويتساءل الصحفي الصهيوني حاييم إتغار، في صحيفة معاريف: «ما الذي يأتي أولاً؟ إعادة الرهائن أم تدمير حماس وغزة؟ أعتقد أن الرهائن هم الأولوية».
ثم يعود فيقول: «عذرًا لقول ذلك، لقد انتصروا (يقصد المقاومة). لديهم سلاح ذرّي وغير تقليدي على شكل رهائن. الطريقة الوحيدة لتخفيف الجروح قليلاً هي بإعادتهم. هذا هو النصر الأهم في هذه الحرب، فكرة الضغط العسكري للإفراج عن الرهائن غير صحيحة. حماس لم ولن تنهار».
ثانيًا: الخداع؛ حيث يمارس الكيان إستراتيجية الكذب بحماقة، وقلب حقائق الواقع الموجود بادعائه الانتصار، أو أنه على وشك تحقيقه، فنوعية الحرب التي تدور في غزة ليست جيشًا مقابل جيش يكون فيها النصر باحتلال الجيش للأراضي التي يُدافع عنها الجيش الآخر، بل هي حرب عصابات يختبئ فيها المقاوم المُداِفع، ويكيل الضربات الخاطفة والمُوجِعَة للجيش المهاجم، ويكون فيها النصر بصمود العصابة المُدافِعَة بعد أن يتكبَّد الجيش المُهاجِم الخسائر الفادحة.
ومن أمثلة الخداع الفجّ المكشوف: تمرير المخابرات الصهيونية للصحافة الغربية القصص الوهمية، والتي تُعزّز السردية التي تسوقها دولة الاحتلال للحرب، مثل هروب زعيم حماس يحيى السنوار من غزة؛ فقد نشرت صحيفة (جويش كرونيكل) البريطانية تقريرًا ادَّعت فيه كذبًا أن السنوار خطَّط للهروب مع أسرى إسرائيليين عبر محور فيلادلفيا إلى سيناء، ومنها إلى إيران.
والغريب أن الذي كشفت هذه الخدعة أيضًا، صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية، والتي ذكرت أن صحيفة جويش كرونيكل تبثّ منشورات كاذبة وخيالية من تأليف صحفي اشتُهِرَ بترويج مزاعم نتنياهو حول فيلادلفيا.
ثالثًا: التموقع؛ تسويق فكرة الانتصار على المقاومة الفلسطينية في إطار الحرب النفسية، يسمح لنتنياهو بإعادة تموضعه من مربع الهزيمة، والتي لحقت به في السابع من أكتوبر، ومِن ثَم ينتقل إلى مربع المنتصِر، والذي جعل المقاومة تدفع ثمن ما ارتكبته في طوفان الأقصى.
ولكنَّ إعادة التموضع تلك لا تتعلق بشخص نتنياهو أو منصبه فقط، بل هي أكبر من ذلك؛ حيث ترتبط أيضًا بإنقاذ المشروع الصهيوني برُمّته، وحلم الدولة التي تجمع اليهود وتقود العالم كله.
فطوفان الأقصى نجح في هزّ الحلم الصهيوني وضعضعته لدى المؤمنين به، فكان لا بد من شنّ حرب نفسية تنقل هؤلاء من خانة اليأس وانعدام الثقة في المشروع، إلى مربع استعادة الأمل في بقاء الدولة واستمرارية المشروع الصهيوني.
رابعًا: النمط والشكل؛ تبدو إستراتيجية الحرب النفسية نمطًا مستمرًّا مارَسه الكيان الصهيوني منذ نشأته.
ويتتبع أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس أيمن الرقب في حوارٍ له مع صحيفة الإندبندنت، تاريخ الحرب النفسية التي يشنُّها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين؛ فيقول: «إنه منذ أحداث النكبة عام 1948م، والحرب النفسية قائمة وتتطوَّر بتطوُّر أدوات عصرها، فمع بداية احتلال إسرائيل لفلسطين كان الاعتماد على المنشورات المكتوبة التي ينشرها جيش الاحتلال ومحطات الراديو، الذي لم يكن له وجود كبير في البيوت حينها، إضافةً إلى الروايات الشفوية لأحداث يتم تداولها بين الناس عن أهوال قام بها الجيش الإسرائيلي عند دخوله لقرية معينة، مثل قتل الأطفال، واغتصاب النساء، وهكذا، مثلما حدث في مذبحة دير ياسين على سبيل المثال، فينتج عن ذلك رحيل الأهالي من منطقة معينة بعد تعرُّضهم لمثل هذه التأثير الناتج عن الحرب النفسية.
ولكن يبدو أن هذا النمط من الحروب النفسية لم يشنّه الكيان الصهيوني على الفلسطينيين فحسب، بل امتدَّ إلى الدول العربية الأخرى التي خاض معها الكيان حروبًا مثل مصر.
ففي أعقاب كارثة حرب 67، والتي انتهت بهزيمة ساحقة للجيش المصري وفقدان سيناء والجولان والضفة وغزة، وبعدها بأيام فُوجئ المصريون بالإذاعة الصهيونية تبثّ اختبارات الثانوية العامة المصرية، قبل أن يذهب الطلبة إلى مدارسهم، وكان ذلك إمعانًا في تكريس مشاعر الإحباط واليأس، والتي كانت تُخيِّم على الشعب المصري وقتها.
خامسًا: التصور؛ لم تأتِ السردية التي يرويها الكيان الصهيوني في إطار الحرب النفسية من فراغٍ، بل هي ناتجة عن تصوُّر ثقافيّ تم تأصيله في الفكر الصهيوني، محاولاً ربط اليهودية بالمسيحية، وأنهم يواجهون نفس العدو، كما يبثّ روح الانتقام والإبادة في نفسية الشعب اليهودي داخل فلسطين المحتلة.
لذلك كان رئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني حريصًا على تكرار ذلك التصور في خُطَبه العلنية، ومنها خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في شهر يوليو الماضي.
فالصراع بين المقاومة الفلسطينية والصهاينة يدَّعي نتنياهو أنه صراع بين الهمجية والحضارة. ومِن ثَمَّ فإن الحرب التي يخوضها الكيان في غزة هي معركة الغرب، فيقول بالنص: «نحن لا نحمي أنفسنا فقط. نحن نحميكم، أعداؤنا هم أعداؤكم، معركتنا هي معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم».
كما ينطلق التصوُّر الصهيوني من التحريض على الإبادة والقتل؛ فقد بثَّت قناة «كان» الإسرائيلية الرسمية أغنية أنشدها أطفال صهاينة صغار بمناسبة اليوم العالمي للطفل، في نوفمبر الماضي، تدعو لإبادة غزة.
المقاومة الفلسطينية والحرب النفسية
ظهرت المقاومة الفلسطينية نِدَّا عنيدًا للحرب النفسية التي يشنّها الكيان الصهيوني، حتى إنها لم تعتمد على القتال العسكري فقط في مواجهتها في طوفان الأقصى، بل إنها استطاعت أن تُدير حربًا نفسية ناجحة، تُضاهي إدارتها للقتال في تلك الحرب.
وتعتمد سردية المقاومة الفلسطينية في حربها النفسية التي تشنّها، على أنها بدأت الحرب لتُعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية العالمية بعد أن كادت تندثر، كما أنها تريد إيقاف الحرب وإعادة الأسرى الصهاينة إلى ديارهم بعد انسحاب جيش الاحتلال من كامل القطاع.
ولكن هل تتحقق في هذه السردية خصائص الإستراتيجية الخمس؛ (الخطة، والنمط، والحيلة، والتموقع، والتصور)؟
أولاً: الخطة؛ قامت خطة المقاومة في حربها النفسية على عدة أهداف؛ أهمها زعزعة ثقة المجتمع الإسرائيلي بنفسه وبجيشه وبحكومته، وتكريس الانقسامات بين طوائفه، والضغط بورقة الأسرى الصهاينة لكي تقوم أُسَرهم بزيادة الضغط على حكومتهم، وفي نفس الوقت بثّ الأمل في نفوس الناس في البيئة الحاضنة؛ سواء في غزة أو خارجها.
واعتمدت المقاومة -في سبيل تحقيق أهداف حربها النفسية تلك- على مسارين:
الأول: بالضغط على الكيان بملف الأسرى عبر توجيه رسائل مصوَّرة من هؤلاء الأسرى، أو رسائل بالتشكيك في بقائهم أحياء.
أما المسار الثاني فيتعلق بإظهار قدرات المقاومة العسكرية، وبثّها الموادّ المصوَّرة والتي تظهر عملياتها النوعية، سواء بإطلاق الصواريخ على مدن الكيان ومستوطناته أو بتدمير الآليات الصهيونية المتوغّلة في القطاع، أو قنص جنوده.
ثانيًا: التموقع؛ فقد جاءت الحرب النفسية كمساند للحرب العسكرية في إعادة تموضعها السريع، بين الهجوم على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر، ثم الانسحاب منها، والكمون في الأنفاق وانتظار الجيش الصهيوني لمباغتته وشنّ حرب عصابات ناجحة، فكان التغيير في الحرب النفسية يُلائم ذلك التموضع.
ويشرح أستاذ صهيوني تفاصيل التموضع الذي قامت به المقاومة في الحرب النفسية، وكيفية انتقالها من مربع إلى آخر ملائم للوضع الجديد.
فيقول غابي وايمان المتخصص في الاتصالات في جامعة حيفا، والذي يُدرِّس مساق الحرب النفسية، في تصريح لموقع ميديا لاين العبري:
المرحلة الأولى كانت التخطيط المسبق؛ حيث استعدت حماس للهجوم، من خلال عمليات التوثيق واستخدام المواد اللازمة للحرب النفسية؛ حيث اشتروا معدات مثل الكاميرات والهواتف المحمولة وحصلوا على بطاقات SIM الإسرائيلية، وقاموا بتدريب الناس، وكل هذا تم قبل السابع من أكتوبر.
وأشار إلى أن المرحلة الثانية كانت التصوير أثناء الهجوم؛ حيث وثَّقوا كل شيء، وتم إرساله على الفور إلى غزة، وهناك تم تحريره ونشره على الإنترنت.
ورأى أن المرحلة الثالثة من الحرب النفسية كانت إطلاق سراح بعض الأسرى الإسرائيليين؛ حيث تم ذلك بطريقة احتفالية للغاية، وجاءت حماس بكامل زيها العسكري، وأسلحتها، ورموزها، ونشرت مقاطع فيديو لإيماءات إنسانية تجاه الأسرى الإسرائيليين، وأعطتهم زجاجات المياه، ومساعدتهم، وما إلى ذلك... زاعمًا أنه تم استخدام ذلك أيضًا لأسباب نفسية.
وأضاف الدكتور الجامعي الصهيوني: نحن الآن في المرحلة الرابعة الأطول، وأوضح أن الهدف من ذلك هو الضغط على الحكومة الإسرائيلية من خلال الضغط النفسي على العائلات والإسرائيليين.
ثالثًا: الخداع؛ وقد تجلَّت ممارسة المقاومة خداع الصهاينة في حربها النفسية الموجهة لهم حتى قبل طوفان الأقصى وأثناء التحضير له.
فقد أشار موقع واللا الإخباري في دولة الكيان، إلى أن حماس تعمَّدت نشر معلومات وفيديوهات عن تدريبات عناصرها، إلى حد اعتقاد أجهزة المخابرات الصهيونية، أن ما يجري هو تدريبات روتينية. وذكَر الموقع أن حماس مارست الخداع على مدى 18 شهرًا، استعدادًا للهجوم الواسع على حين غِرَّة، وأوضح أن التدريبات أصبحت روتينية، وتضمَّنت إعلانات في وسائل الإعلام الفلسطينية، كجزء من عملية التعوُّد.
وتابع الموقع الصهيوني كلامه، بأنه في إطار عملية الاحتيال والتعوُّد التي أدارها الجناح العسكري لحركة حماس (كتائب القسام)، تم توزيع مقاطع فيديو من دورات تدريبية، اعتبرها الجانب الإسرائيلي غير مهنية، إلى حد السخافة، مثل القفز في حلقات النار، والتدحرج على الأرض، أو السقوط من الدراجات النارية وسيارات الدفع الرباعي.
رابعًا: النمط والشكل؛ لم يكن أداء حماس في الحرب النفسية أثناء طوفان الأقصى مفاجئًا، بل إن المتتبِّع لتاريخ الحركة يدرك أن ممارستها لتلك النوعية من الحروب قد اتخذ شكلًا متكررًا، وإن اختلفت أدواره في كلّ مرحلة.
ففي دراسة بعنوان (حماس والإعلام: السياسة والإستراتيجية)؛ قام بها الدكتور وائل عبدالعال، رئيس قسم الفنون والعلوم الاجتماعية في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة، حلل فيها عبدالعال إستراتيجيات حماس الإعلامية (باعتبارها شكلًا من أشكال الحرب النفسية) خلال ثلاث فترات، فترة الانتفاضة الأولى 1987-1993م، والتي كانت فيها حركة حماس حركة سرية تعمل تحت الأرض، والفترة الثانية منذ 1994-2005م، وشهدت إنشاء السلطة الفلسطينية واندلاع الانتفاضة الثانية، والفترة الثالثة التي بدأت منذ 2006م، وشهدت فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أفضت لوصولها إلى السلطة.
وخَلُص الباحث إلى أن الحرب النفسية اتسمت بعدة خصائص؛ من أهمها: الحشد وتعبئة الجماهير نحو قِيَم وأفكار المقاومة، ومواجهة الحرب النفسية والإشاعات التي تَستهدف الجبهة الداخلية الفلسطينية، وتغيير الصورة النمطية التي رسمها الكيان الصهيوني لدى الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا حول المقاومة، وفي إطار الحرب النفسية الموجَّهة للجمهور والعسكر الإسرائيلي، تهتم حماس بتعليم كادرها الإعلامي اللغة العبرية.
خامسًا: التصور؛ تنبع إستراتيجية المقاومة في الحرب النفسية التي تخوضها ضد الكيان من كون ثقافتها نابعة من الإسلام، فميثاق حماس مثلًا ينصّ على أن أرض فلسطين وقف إسلامي للأجيال المسلمة القادمة حتى قيام الساعة، وأيّ إجراء يتعارض مع التصور الإسلامي للقضية فيما يتعلق بفلسطين باطل ولاغٍ.
والمقاومة حريصة في خطابها الإعلامي على إبراز الجانب العقدي في مقاومتها، كما تحرص على استلهام نماذج السيرة النبوية ودول الخلافة الإسلامية، وتستدل بها في ممارساتها في حربها النفسية.
وتبقى إستراتيجية الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في الحرب النفسية تتفاعلان وتتواجهان، ولكن ما تحققه المقاومة في غزة، سواء بأدائها العسكري، أو السياسي، أو في الحرب النفسية التي تمارسها، لتثبت لحاضنتها الشعبية، سواء في غزة أو على امتداد العالم الإسلامي، أن أُمّتنا لا تزال حية لم تَمُت، وإن خُيِّل هذا لأعداء الدين.