إن مشكلات الأمة قد شغلت تفكيره، وعكف على كتابة مؤلفات هدفها علاج هذه المشكلات التي أدَّت لتراجع اقتصاد الدولة (دولة سلاطين المماليك في مصر) في تلك الآونة، وكان دليل ذلك عُزوفه عن وظيفة القضاء بدمشق في أول دولة الناصر فرج، مُفضِّلًا التفرغ لتكملة العديد من
في كثيرٍ من الأحيان نقف أمام علماء أفادوا العالَم الإسلامي بمُؤلّفاتهم وأعمالهم، ليس فقط لتميُّزهم بالدقة والتأكد من صحة المعلومة أو الحدث الذي اجتهدوا في إظهاره للمجتمع من خلال كتاباتهم، ولكن لأنَّ هذه الكتابات في كثيرٍ منها كانت تُقدِّم حلولًا للعديد من المشكلات في عصر المؤرخ، وهي مشكلات متكرّرة في كل عصر، وبنفس الوقت الحلول المطروحة هي لكل عصر؛ وذلك لأن هذه الحلول أحيانًا تصبح قاعدة أساسية تُتَّبع في كل العصور والبلاد.
ومن هؤلاء العلماء المسلمين الذين قدَّموا نموذجًا فريدًا في كيفية دراسة واقع الأُمَّة، وبحث سُبل تحقيق السيادة الإسلامية؛ المؤرخ أحمد بن علي بن عبد القادر، المعروف بـ«تقي الدين المقريزي»؛ من خلال رسالته «إغاثة الأمة بكشف الغمة».
نشأته
ساعدت المقريزي نشأته على أن يكون مفكرًا اجتماعيًّا يقدّم الحلول لخروج الأمة من أزمتها؛ بالإضافة لكونه مؤرخًا كبيرًا، فنشأ في كنف أسرة عُرفت بالعلم، وتعلَّم مختلف العلوم الأدبية والدينية، وغيرها من فنون المعرفة المتداولة في عصره.
وربما ساعدته وظيفته في الحسبة بالقاهرة (رجب 801هـ/ مارس 1398م) في عهد السلطان الظاهر برقوق في أن يدرس المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ألمَّت بالبلاد في تلك الآونة. ويمكن القول: إن مشكلات الأمة قد شغلت تفكيره، وعكف على كتابة مؤلفات هدفها علاج هذه المشكلات التي أدَّت لتراجع اقتصاد الدولة (دولة سلاطين المماليك في مصر) في تلك الآونة، وكان دليل ذلك عُزوفه عن وظيفة القضاء بدمشق في أول دولة الناصر فرج، مُفضِّلًا التفرغ لتكملة العديد من المؤلفات، والتي زادت على نحو مائتي مجلد كببر[1].
وهذه الرسالة التي لمس فيها المقريزي مشكلات الأُمَّة، وقدّم الحلول أيضًا، هي رسالة تصلح لكل العصور.
ومن شدة عشق مؤرخنا للتاريخ قال في مقدمة كتابه الشهير بالخطط المقريزية: «إن علم التاريخ من أجلّ العلوم قدرًا، وأشرفها عند العقلاء مكانةً وخطرًا؛ لما يَحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار، والاطلاع على مكارم الأخلاق ليُقتدَى بها». وعلى سبيل المثال، كان سبب تأليفه لرسالة لطيفة الحجم بعنوان «إغاثة الأمة بكشف الغمة»؛ هي المجاعة التي ألمَّت بمصر في الفترة ما بين عام 796هـ/1393م وحتى عام 808هـ/1405م؛ عرض خلالها لما حلَّ بمصر من غلاء وبلاء[2].
رسالته
خصَّص مُؤرّخنا جزءًا من رسالته لذِكْر أسباب هذه الأزمات التي ألمَّت بالبلاد، وبالأخص بعصره والتي يمكن أن نُلخِّصها بقصور جريان نهر النيل بمصر، أو وجود آفة أصابت الغلال، وأكد أن «هذه عادة الله -تعالى- في الخلق؛ إذا خالفوا أمره وأتوا محارمه، أن يُصيبهم بذلك؛ جزاء ما كسبت أيديهم».
ولم يكتفِ بذلك، بل أشار للأعوام التي أدَّت لعدم جريان النيل، وما سبَّبه ذلك من جفاف الأراضي، وتعطل الزراعة، وظهور الغلاء، وتزايد الأسعار، ووضع رجال الدولة أيديهم على الغلال -فيما يسمى بالاحتكار-؛ طمعًا في زيادة الربح الذي أضرَّ بالبلاد والعباد، وقد سبَّب ذلك الجوع والبرد لأكثر من نصف السكان، مما أدَّى لموت الكثيرين، وهي الأزمة والمجاعة التي كانت جوهر رسالته، والتي بدأت بضعف أو عدم جريان نهر النيل منذ عام 796هـ/1393م، وحتى 806هـ/1403م، وتخلل ذلك العديد من عوامل الفساد[3]، وهي التي وضع يده عليها، بشكل واضح، مع وضع العلاج، وذكر كيفية الخروج منها.
أسباب فساد الدول
يرى مؤرخنا المقريزي وجود ثلاثة أسباب أدَّت لفساد الدولة:
أولها: الرشوة للوصول إلى المناصب السيادية بالدولة، كالقضاء والحسبة؛ فأصبح يتولاها كلّ مَن يملك المال، دون أن يكون أهلًا لذلك، وبالتالي يقوم صاحب المنصب باسترداد ما دفَعه من أجل المنصب بالارتشاء ممَّن هم تحت سطوته من الرعايا بحكم منصبه؛ فضاعت بذلك حقوق الناس، بالإضافة إلى كثرة الضرائب على الفلاحين بالريف؛ فتركوا أراضيهم بحثًا عن الرزق في مكان آخر؛ فمات الزرع وقلَّت المحاصيل، وزاد الغلاء على العباد[4].
أما السبب الثاني فهو غلاء الأراضي بسبب التعدي عليها مِن قِبَل أصحاب السلطة بالدولة، وزيادة أعبائها على الفلاحين مِن دَفْع الإيجار والحرث والضرائب، وغيرها مما أدَّى لزيادة أهل الريف فقرًا وارتفاع أسعار السلع؛ فخربت معظم القرى لذلك، وتعطلت الزراعة، فقلَّت الغلال، وتشرَّد الفلاحون في البلاد، مما أدَّى لخراب البلاد[5].
وأما السبب الثالث فهو رواج الفلوس؛ حيث بدأت منذ القدم، وزادت سوءًا منذ عام 695هـ/1295م بضرب الفلوس وزَيْفها، فتوقف الناس عن التعامل بها لخفّتها، وزاد الوضع في عهد الظاهر برقوق عام 784هـ/1382م الذي ولَّى أحد رجاله الأموال السلطانية، ومن أجل جمع الأموال أبطل الدراهم، وجلب النحاس من الخارج وسبكه حتى أصبحت الفلوس هي النقد المتاح في البلاد؛ أما الدراهم الفضة فتُبَاع كالبضائع، بل وقلَّت لعدم ضربها، وسُبِكَ ما بأيدي الناس حُليًّا، وأصبحت جميع المبيعات بالفلوس. وأشار إلى أن كثرة الفلوس أفسد الأحوال، وآل أمر الناس إلى زوال، وأشرف إقليم مصر على الاضمحلال[6].
والمقصود هنا باختصار هو ضرب الأموال دون غطاء اقتصادي بالسوق؛ فضعفت القوة الشرائية، مما أدى لضعف القيمة النقدية بالبلاد.
الحلول
وهنا قدَّم لنا المقريزي العلاج لتلك الأزمات -سابقة الذكر-، ولتلافي ما نجَم عنه من آثار أثَّرت على المجتمع بشكلٍ عام في ذلك العصر.
حيث أشار إلى أن النقود المعتبرة شرعًا هي الذهب والفضة فقط، وما عداها لا يصلح أن يكون نقدًا، ولا يصلح تعامل الناس في أثمان مبيعاتهم إلا بالفضة والذهب؛ فيعظم النفع بها وتنحط الأسعار؛ فكانت مُعالجته للسياسة النقدية حلًّا جوهريًّا للأزمات، وربما يرجع ذلك لأنه أكثر مؤرخي عصره الذي تناول السياسة النقدية.
كما أنه وضَّح كيف أساء الحُكّام الأسلوب المناسب في معالجة الضرر الذي ألمَّ بالمجتمع؛ فكان المقريزي مُعبِّرًا عن آلام المجتمع والدولة من سوء تدبير حكامها، وشرَههم في جمع الأموال حتى ولو على حساب القوة الشرائية للعُمْلة عن طريق زيف النقود، والتلاعب بالعُمْلة؛ ما ساعد في انهيار الدولة. إضافةً إلى ذلك عاد ليوضِّح العلاج، ويرسم طريقًا للخروج من تلك الأزمات التي ألمَّت بالبلاد، في وقتٍ عجز سلاطين الدولة ورجالها عن معرفة الطريق الصحيح[7].
فالمقريزي شرح الأزمة، وبيَّن سببها، ووضَّح طريقة العلاج في شكل اقتصادي ديني، مطبقًا قول الله -تعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢، ٣]؛ ويقصد مؤرخنا بذلك اتقاء الحكام ربهم في رعاياهم، والعمل على مصالحهم؛ حتى تصلح البلاد والعباد.
لذا يُعدّ شيخ المؤرخين تقي الدين المقريزي رجلًا اقتصاديًّا سبّاق الفِكْر، بصرف النظر عن كونه مؤرخًا كبيرًا؛ فاستطاع أن يعرف الداء، والسبيل لطريق الدواء؛ فكانت رسالته «إغاثة الأمة» نبراسًا أنار الطريق لكثير من الحكام في عصر المؤرخ وفي العصور اللاحقة.
[1] المقريزي، الخطط، (الآداب، القاهرة، 1996م)، ج1، ص5؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، (دار الكتب، القاهرة، 2006م)، ج15، ص490، 491؛ المنهل الصافي، (دار الكتب، القاهرة، 2008م)، ج1، ص415-420؛ محمد كمال الدين علي، أربعة مؤرخين وأربعة مؤلفات، (الهيئة، القاهرة، 1992م)، ص160، 161، 174، 177.
[2] المقريزي، الخطط، ج1، ص2، 3؛ إغاثة الأمة بكشف الغمة، (دار الكتب، القاهرة، 2002م)، ص4.
[3] المقريزي، إغاثة الأمة، 41-43.
[4] المرجع السابق، 43-45.
[5] المرجع السابق نفسه، 46، 47.
[6] انظر نفس المصدر نفسه، ص47 ،62- 72، 79، 80، 81-86؛ السلوك، ج4، ق2، ص629، 630، 941-944؛ الخطط، ج4، ص119؛ الأسدي، التيسير والاعتبار، ص127- 128.
[7] المقريزي، إغاثة الأمة، ص47، 48، 65، 66، 69-71، 79، 80؛ السلوك، ج2، ص 205، 206؛ العيني، عقد الجمان، ج3، ص303، ج4، ص410.