إنَّ المتمسك بالدنيا والمتلهِّف عليها يأتيه الموت عندما تعظم رغبته فيها، فيخسر الدنيا وقد أنفق فيها عمره، وخسارته للآخرة أعظم؛ لكونه مشغوفًا بالدنيا وقاصرًا عليها عمله
أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: ٧] ؛ قال: «إذا شئتَ رأيتَه صاحب دُنيا؛ لها يَفْرَح! ولها يَحْزَن! ولها يَرْضَى! ولها يَسْخَط!»[1].
في ثنايا هذا الأثر نجد تشخيصًا دقيقًا لأهمّ أدواء النفوس من اللَّهف على الدنيا، والرضا بها، والغفلة عن الآخرة. وهذا الاطمئنان للدنيا والركون إليها إنما يتأتَّى بعد زوال الوَجَل من الآخرة عن القلوب[2]، فبِقَدْر التوغُّل في الدنيا ينصرف المرء عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة[3].
وهذه الطمأنينة بالدنيا لا يختصّ بها الكفار؛ كما قال ابن عطية [ت: 542] في شرح الأثر: «فكأن قتادة صوَّرها في العصاة» أيضًا[4]، فيظهر في الهداية توظيف دلالة العموم في انتزاع هداية الأثر، والمسلم الواعي يرى نفسه مقصودًا بكلّ خطاب في القرآن إن سمع أمرًا أو نهيًا؛ قدَّر أنه المنهيّ والمأمور، وإن سمع وعدًا أو وعيدًا فكذلك[5].
ومن أنوار هذا الأثر: بيان أعراض الطمأنينة بالدنيا؛ الفرح والحزن، والرضا والسخط لأجل أمور الدنيا فحسب، وكلها مشاعر قلبية لكنّها مؤشرات ودلالات على ما في القلب من أمراض وأدواء تُهْلِك المرء وتُفْسِد عليه دِينَه.
إنَّ المتمسك بالدنيا والمتلهِّف عليها يأتيه الموت عندما تعظم رغبته فيها، فيخسر الدنيا وقد أنفق فيها عمره، وخسارته للآخرة أعظم؛ لكونه مشغوفًا بالدنيا وقاصرًا عليها عمله[6].
إنها عظة تُحرِّك القلب وتُحْييه وتُوقِظه من سُباته، ولهذا أكثَرَ القرآن من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخِسّتها وقلّتها وانقطاعها؛ لأن الفلاح مَنُوط بإيثار الباقي على الفاني والآجل على العاجل[7].
ولا ريب أن يكون الزهد بالدنيا من أعلى مراتب السالكين، وإليه ترجع سائر أدوية القلب مِن قِصَر الأمل في الدنيا، وعدم الاطمئنان والركون إليها، والتنافس على الدنيا الذي أوْدَى بأفراد الأمة إلى التنافس المذموم والمآل الفاسد.
ومن التذكير أن يُعْلَم أنّ الزهد بالدنيا ليس لمجرد أنها دنيا فحسب، وإنما الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة؛ كما يقول ابن تيمية [ت: 728][8]؛ فلا يعني الزهد في الدنيا: التقاعس عن المعالي، وترك التكسب والمعيشة؛ فالشريعة جاءت بالكمال والجلال، والوسطية والاعتدال.
[1] تفسير الطبري (12/122).
[2] تفسير الرازي (17/212).
[3] تفسير ابن عاشور (11/99).
[4] تفسير ابن عطية (3/107).
[5] إحياء علوم الدين، الغزالي (1/285).
[6] تفسير الرازي (17/237).
[7] ينظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/12).
[8] ينظر: المرجع نفسه (2/12).