تعتمد العبادة الديونيسوسية على إزالة الموانع والقيود الاجتماعية، وتحرير الفرد ليعود إلى الحالة الطبيعية -لذلك يمثلونه دائمًا عاريًا-، ولأن تلك العبادة في أساسها تدعو إلى التحرُّر من كل شيء من التقاليد والأعراف المجتمعية.
كانت فرنسا أول مَن أحيت الألعاب الأولمبية الحديثة؛ حيث أسَّس البارون «بيير دي كوبرتان» اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) في عام 1894م، عبر الكونجرس الأولمبي، هذه اللجنة هي التي قامت بتنظيم أول دورة ألعاب أولمبية حديثة في أثينا عام 1896م.
كانت الاحتفالات الرياضية والدينية الأولمبية القديمة تُقام في اليونان في القرن الثامن قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي، وهي عبارة عن مزيج من مهرجانات دينية ورياضية تُقام كل أربع سنوات في محيط جبل الأولمبس باليونان.
فكرة الألعاب الأولمبية مرتبطة بالميثولوجيا اليونانية بالأساس؛ حيث تتضمَّن طقوسًا لتقديم الأضحية والقرابين لكل من «زيوس» -كبير الآلهة عند اليونانيين-، و«بيلوبس» البطل المقدَّس والملك الأسطوري لأوليمبس.
تقول إحدى الأساطير المُؤسِّسة لتلك الاحتفالية: إن هرقل بن زيوس شارَك في مهرجان أوليمبيا؛ إذ أقام مهرجانًا رياضيًّا لتكريم والده زيوس، بعد أن أكمَل أعماله.
هذا نَذْر يسير من الإشارات الوثنية لهذا الحدث الرياضي العالمي، وإلا فإن الجذور الدينية لهذه الاحتفالية الرياضية -التي تتكرَّر كل أربعة أعوام- تحتاج إلى مساحة أكبر من هذا المقال.
لقد كان لفرنسا السبق في إحياء تلك الطقوس.
وفرنسا هي مركز التنوير في أوروبا؛ هكذا تنظر لنفسها، وهكذا تراها أوروبا، فهي موطن فيكتور هوجو، وجان جاك روسو، وفولتير، والأخير هو فيلسوف الثورة الفرنسية 1789م المُبجَّل، وأحد مُنظّريها الكبار، والتي كان شعارها «اشنقوا آخر مَلِك بأمعاء آخر قسيس».
لكن من هو «ديونيسوس»، وما علاقته بحفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس؟
تَعتبر الأساطير الإغريقية المُؤسِّسة أنَّ الأولمبيين الاثني عشر هم الآلهة الرئيسة في البانثيون الإغريقي، وهم: زيوس وهيرا وأثينا وأبولو وأرتميس... إلخ، وآخرهم هو ديونيسوس.
في حفل الافتتاح الأخير لأولمبياد 2024م في فرنسا يَفجعك منظر هذا الأزرق العاري تمامًا إلا من لحية تغطّي بعض تفاصيل خدّيه، وهو يجلس وسط مائدة يُغنِّي محاطًا بعددٍ ليس بالقليل من الشواذ والبيدوفليا.
هذا الأزرق العاري هو «ديونيسوس» إله الخمر والمتعة في الأساطير الوثنية اليونانية القديمة، وهو ليس بذكر ولا بأنثى، وأبوه زيوس وأُمّه سيميلي ابنة أحد الملوك. فهو ليس إلهًا وليس بشرًا، حكيمًا ومجنونًا، لا ينتمي للعالم السفلي ولا العلوي، وليس له وطن؛ فقد سافر ديونيسوس إلى كل مكان.
وكان ديونيسوس جيدًا ولطيفًا مع الذين يحترمونه، وجالبًا للجنون والدمار للذين يزدرونه، أو يزدرون شعائر العربدة في عبادته. وفي أثناء أسفاره كان يرافقه الباكوسيات؛ «النساء الممسوسات» اللاتي يستسلمن للنشوة.
وكان لأتباع ديونيسوس عبادة خاصة في اليونان القديمة؛ ترتكز على كسر كل القواعد والأعراف والاستسلام الكامل للشهوات، فكان الإفراط في الشرب والفجور يصاحبان عبادة ديونيسوس بشكل عام، مما أدَّى إلى ظهور كلمة «باكاناليا» التي تعني حفلًا يتميز بالصخب والشرب، وأشكال من العربدة كالرقص والموسيقى.
تعتمد العبادة الديونيسوسية على إزالة الموانع والقيود الاجتماعية، وتحرير الفرد ليعود إلى الحالة الطبيعية -لذلك يمثلونه دائمًا عاريًا-، ولأن تلك العبادة في أساسها تدعو إلى التحرُّر من كل شيء من التقاليد والأعراف المجتمعية.
في البداية، كان ديونيسوس يُصوَّر غالبًا على أنه شابّ جميل عارٍ، ثم صار يُصوَّر كرجل صغير سمين بلحية. نادرًا ما تغيب عن هذه الصور برميل من النبيذ أو عنقود عنب في يده، أو إكليل من الكروم يُتوّج رأسه.
لقد أضحى ديونيسوس الإله الخنثى هو إلههم الجديد، وهؤلاء الشواذ هم حواريوه.
لقد حمل حفل الافتتاح الأولمبياد في نسخته الفرنسية الأخيرة دلالات رمزية أكبر بكثير من مجرد مشاهد سخرية أو استهزاء أو صور مقرفة من العري والشذوذ، لقد كان تدشينًا لحقبة جديدة، وشكلاً من أشكال التبشير بعقيدتهم الديونيسوسية الجديدة بكل طقوسها وشعائرها.
هذه رسالة فرنسا للعالم؛ رسالة تفيض بالشرور والخبائث، وتفوح منها رائحة النتن والعبث والخبث، هذا هو إنسان فرنسا الجديد؛ فاجر، وخبيث وفاسق، منحلّ أخلاقيًّا، مُتحلِّل من القيم والمبادئ والدين. هذا الإنسان الجديد خالٍ من كلّ المعاني الخَيِّرَة والنبيلة في الوجود، وإشباع شهواته هو المعيار والهدف الوحيد لوجوده.
لقد اخترعت أوروبا ما يُعرَف بالحداثة، وهي ثورة على التقاليد والتحرُّر من القيود، ثم تطوَّر الأمر إلى «ما بعد الحداثة»، وصار التشكيك هو المعيار؛ التشكيك في ما وصل إليه عقل الإنسان، وما لم يصل إليه، وتفرَّعت المابعدية إلى كل المجالات فصار هناك التاريخ .. و«ما بعد التاريخ»، الكولونيالية و«ما بعد الكولونيالية»، النسوية و«ما بعد النسوية»!!
واليوم وصل الغرب إلى مرحلة الديونيسوسية، وهي أحطّ وثنيتهم وأرذلها دينيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، وإذا تماهينا مع منطق العقلية الغربية وقفزاتها التطورية، فلا أحد يدري ما القاع الجديد الذي ستصل إليه «ما بعد الديونيسوسية» في غد أو ما بعد غد.