كثير من الأمراض الاجتماعية، وتفكُّك الأُسَر، إنما نشأ من إغفال مثل هذه الهدايات القرآنية العظيمة، فصار نفع الدنيا هو المُقدَّم، وعليه تُشاد العلاقات، وعليه تُبْنَى البيوت، وعليه تُوزَن الأمور
أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: ١١]، قال: «أطوعُكم للهِ من الآباءِ والأبناء أرفعُكم درجةً يومَ القيامة؛ لأن اللهَ -سبحانه- يُشَفِّع المؤمنين بعضَهم في بعض»[1]، وقد نقله أيضًا ابن المنذر وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي، وغيرهم[2].
ونزع -رضي الله عنه- إلى جَمْع هذه الآية بالآيات المفسّرة الأخرى، والتي منها قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْـحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].
وفي هذا الأثر من فقه ابن عباس -رضي الله عنهما- تنصيصه على أن المرادَ بالنفع نفعُ الآخرة؛ كما ذكر الطبري في ترجمة القول[3]؛ لأنه هو النفع الحقيقي الباقي، والبُعْد التذكيري في الأثر يظهر بتوجيه الناس أن تكون الآخرة نُصْب أعينهم أولاً، وأن العبرة الحقيقية والنفع الحقيقي هو النفع في الدار الآخرة يوم القيامة.
وهذا الأمر -أي: تذكُّر الجانب الأخروي واليوم الآخر والاحتساب- كفيلٌ بأن يُصْلِح الله به العلاقات في الأُسَر والمجتمعات والأمم، فتكون عناية المسلم وتقريبه للناس بمن ينفعه في الآخرة لا بمن ينفعه في الدنيا فحسب، فهذا هو الميزان الحقيقي للمنفعة المرتجاة من البشر، وهي كفيلة بإصلاح البيوت والمجتمعات البشرية.
وكثير من الأمراض الاجتماعية، وتفكُّك الأُسَر، إنما نشأ من إغفال مثل هذه الهدايات القرآنية العظيمة، فصار نفع الدنيا هو المُقدَّم، وعليه تُشاد العلاقات، وعليه تُبْنَى البيوت، وعليه تُوزَن الأمور، والله المستعان.
ويظهر في الأثر لفتة تربوية لطيفة أومأ إليها ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهي شمول الشفاعة في الأقربين، فتكون ثمرتها في حياة المؤمن والمؤمنة عنايةً واهتمامًا بتربية الأهل والأسرة والخدم، ومَن ولَّاه الله عليه. وهذه الإشارة التربوية في العناية بالأهل من طرائق السلف في إصلاح الأهل والاهتمام بهم وتربيتهم على تذكُّر الله والدار الآخرة في شؤونهم كلها.
[1] تفسير الطبري (6/471).
[2] يُنظَر: تفسير ابن المنذر (2/589-590)، تفسير ابن أبي حاتم (3/884)، تفسير الثعلبي (3/269)، تفسير البغوي (1/580).
[3] يُنظَر: تفسير الطبري (6/471).