تلقَّى الشيخ العربي التِّبسي تعليمه على يد نخبة من أفاضل العلماء في زمنه بمختلف المعاهد الإسلامية البارزة، من أمثال: سالم بوحاجب، عثمان بن خوجة، بلحسن النجار، عثمان بن المكي التوزري، يوسف الدجوي، عبد الوهاب النجار.
توطئة
لا شكّ -أيها القارئ الكريم- أن أبشع وأظلم المراحل التي مرت بها الجزائر في تاريخها هي فترة الاحتلال الفرنسي؛ حيث تشهد على ذلك تلك المجازر المروعة، وما رافقها من قتل ونهب وتشريد ونفي... وهو ما يدل على وحشية ذلك العدو الغاشم، الذي تجاوز نطاق العمل العسكري التخريبي إلى محاولة طمس الهوية؛ بقطع صلة الجزائريين عن هويتم وانتمائهم الحضاري ببُعْده الشمال الإفريقي والعربي وكذا الإسلامي.
لكن وبرغم قساوة الأحداث وفظاعتها من جهة، ومحدودية الإمكانات من جهة أخرى؛ إلا أن الجزائريين لم يستسلموا، وقاوموا بما توفّر لديهم بكل شجاعة وبسالة.
ومن أهم الشخصيات التي كان لها دور بارز في مسيرة المقاومة: الشيخ العربي بن بلقاسم فرحاتي التبسي -رحمه الله تعالى-؛ ذلكم العالم المجاهد، والمربي الناصح، والأصولي المتجرد، والفقيه المتحرّر من التعصب المذهبي، والمنافح بلسانه وقلمه في سبيل استرجاع مجد الأمة الجزائرية وعزتها وكرامتها.
لمحة موجزة عن حياة العربي التبسي
وُلـِدَ الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات الجدري سنة 1891م بالعقلة، وتحديدًا في منطقة الشريعة بولاية تبسة حاليًّا الواقعة شمال شرق الجزائر على الحدود مع تونس، نشأ يتيمًا؛ فقد توفي والده وهو ابن ست سنين، ليكفله عمه بعد زواجه من أمه آمنة، وقد كان هذا الأخير متدينًا ومُحافظًا؛ ممَّا وفَّر الجوّ المناسب للشيخ العربي ليؤهله لما قدَّر الله له من العِلْم.
اتسمت المرحلة الدّراسية للشّيخ العربي بطول مُدّتها؛ حيث بدأ رحلته العلمية بحفظ جزء كبير من القرآن الكريم في كُتَّاب قريته على يد عمه، ولم يتجاوز العشر سنوات، ليُتمَّ حفظه على يد الشيخ الطيب بن الحفناوي في قرية الزوي بمدينة خنشلة، انتقل بعدها لخنقة سيدي ناجي ببسكرة ليدرس فيها شيئًا من علوم القرآن واللغة، ثم سافر متَّجهًا نحو تونس مُتنقِّلاً بين معاهدها، بدايةً بمعهد نفطة الذي أتقن فيه الكثير من العلوم التي أهَّلته لدخول جامع الزيتونة بتزكيات من مشايخه النفطيين، والتي حصل فيها على كل الشهادات العلمية (الأهلية، والتحصيل، والتطويع)، ثم انتقل إلى مصر قاصدًا الجامع الأزهر؛ حيث تحصّل به على الشهادة العالمية في العلوم الإسلامية -أعلى درجة ينالها الطالب في الأزهر-، وهي تعادل درجة الدكتوراه حاليًّا.
تلقَّى الشيخ العربي التِّبسي تعليمه على يد نخبة من أفاضل العلماء في زمنه بمختلف المعاهد الإسلامية البارزة، من أمثال: سالم بوحاجب، عثمان بن خوجة، بلحسن النجار، عثمان بن المكي التوزري، يوسف الدجوي، عبد الوهاب النجار.
كما تتلمذ على يديه مجموعة من الوطنيين الإصلاحيين الذين ساهموا في الحركة الوطنية ونشر الوعي، ثم المشاركة في الثورة الجزائرية بمختلف جوانبها، نذكر منهم: محمد الشبوكي، إبراهيم مزهودي، إبراهيم روابحية، العيد مطروح، حامد روابحية، وغيرهم.
تميزت مسيرته الدعوية والتعليمية باتساع مجالها وكثرة مهامها، تجلّى فيها الدّور القيادي والشخصية القوية التي يتميز بها الشّيخ العربي التي مكّنته من تقلد مناصب كثيـرة، فبعد إتمامه مشوار التحصيل والدراسة عاد الشيخ العربي إلـى تبسة سنة 1927م، واتخذ منها مركزًا لدعوته الإصلاحية من خلال الدروس والخطب والتوجيهات.
ولمَّا بدأت آثار هذا الجهد تظهر في التغيير الاجتماعي والإصلاح الديني لأهل تبسة ضُيِّقَ عليه، فنصحه الشيخ عبدالحميد بن باديس بالانتقال إلى غرب الجزائر، فاستجاب لذلك وانتقل لبلدة سيق بالغرب الجزائري، بعد فترة من مكوثه هناك قضاها في التّوجيه والتّعليم والدعوة إلى الإصلاح بمدارسها ومساجدها، عاد إلى مسقط رأسه تبسة بعد إصرار أهلها عليه بالعودة، فأسَّسوا له مدرسة ليُدرِّس فيه ومسجدًا جامعًا ليُلْقِي فيه المواعظ والخطب والدّروس، وتم إنشاء جمعية شبانية لتنظيم الملتقيات والندوات والعمل الخيري.
انضمَّ إلى جمعية العلماء، وأصبح -بعد تزكيته من مكتبها- عضوًا إداريًّا فيها، ثم كاتبًا عـامًّا. وبعد وفاة الشيخ عبدالحميد بن باديس، سنة 1941م عُيِّن نائبًا للشيخ البشير الإبراهيمي بعدما أصبح هذا الأخير رئيسًا لها على إثر وفاة العلامة ابن باديس، وفي عام 1947 تولَّى الشّيخ العربي إدارة معهـد ابـن باديس في قسنطينة مديرًا ومدرسًا، ولما نُفِيَ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى المشرق، اتجهت الأنظار إلى الشيخ العربي ليحمل المسؤولية ويتولى الإشراف على الجمعية، وكان ذلك سنة 1956، لينتقل الشيخ إلى العاصمة لإدارة شؤونها من هناك.
وفي 4 أبريل 1957م اقتحمت مجموعة مسلحة منزله الكائن بالجزائر العاصمة واختطفته، وفي 13 أبريل عام 1957 قامت باغتياله في أصح الروايات بعد تعذيبه ومحاولات استمالته للطعن في الثورة، فأبى، ورفض كل الإغراءات.
الشيخ العربي -على عكس العديد من رجال الجمعية- لم يترك مُؤلّفات كثيرة، ولم يُؤرِّخ لحياته؛ لأنه كان ممن يحب الارتجال في الدعوة ومخاطبة الناس مباشرة، بالإضافة لكثرة أشغاله وسفرياته وارتباطاته واهتماماته الدعوية، ومع هذا فقد ترك الشّيخ مجموعة من المقالات المبثوثة في مختلف جرائد الجمعية وبعض الصحف العربية جُمعت مقالاته وكتاباته من طرف شرفي أحمد الرفاعي في كتاب «الأعمال الكاملة للشيخ العربي التبسي»، والأستاذ الدكتور أحمد عيساوي في كتاب عنونه بـ«منارات من شهاب البصائر».
وقد أُقيمت عدّة ندوات وملتقيات تتحدث عن شخصيته وتاريخه العلمي والجهادي.
مسارات الشيخ العربي الإصلاحية والوطنية
إن الحديث عن العربي التبسي ذو شجون، فقد قيَّضه الله -تعالى- للأمة الجزائرية في وقتٍ كانت في مسيس الحاجة إليه وإلى أمثاله، لا سيما والشعب الجزائري يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي، ويئن تحت وطأة الجهل والفقر والذل والهوان، فهو -بحقّ- رجل المرحلة؛ حيث نذر نفسه وماله ووقته في سبيل دينه وتحرير وطنه واستعادة عزته وكرامته.
كان ذكي الفؤاد، حصيف العقل، ثاقب الذهن، سريع البديهة، جريئًا في الحق قوّالاً به، لا يداري ولا يداهن، ولا يساوم، متمسكًا بمبادئ دينه ثابتًا على مواقفه الحقَّة، قوي الحجة أمام خصمه، شجاعًا مقدامًا غير هيّاب للمخاطر، وذا إصرار عجيب على بلوغ أهدافه، وهو في سبيل ذلك يتحدى الصعاب ويتحمّل المشاقّ.
منهج الشيخ العربي التبسي الدعوي الإصلاحي يسير في مسارات متوازية ومتكاملة:
المسار الأول:
يتمثل في محاولة العودة بالأمة الجزائرية إلى دينها الحق، مستعملاً كل الوسائل المتاحة لديه في ذلك الوقت؛ من إلقاء الدروس الإرشادية والخطب المنبرية في المناسبات الاجتماعية، فكان يحرص كل الحرص على أن لا يقول كلمة أو يُلقي خطابًا أو يُسْدِي نصيحةً إلا ويطبعها بطابع الإسلام ويَمزجها بمفهوم الدين، مبينًا أن السبيل الوحيد للنهوض بالأمة وتحريرها من قيود الاحتلال الغاشم، وتطهيرها من أدواء الجهل والضلال والانحراف، هو العودة الصادقة إلى دينها، والإقبال على تعلُّمه والعمل بأحكامه والتحلّي بأخلاقه وآدابه؛ فكان يقول -رحمه الله تعالى- كما جاء في بعض مقالاته: «فهل من دواء لأمراضنا؟ نعم الدواء لأمراضنا والترياق المجرّب لأدوائنا واحد لا ثاني له، وما ذاك الدواء إلا عودتنا تائبين إلى العمل بشريعتنا الإسلامية المعصومة».
ركّز في دعوته على بناء الفرد الجزائري المسلم، ليكون بذلك صحيح العقيدة، سليم العبادة، سوي الخَلْق، ينفع نفسه، ويسعى لخدمة غيره من أبناء أُمّته، وقد حقَّق الشيخ هذا المطلب العسير، ظهر ذلك جليًّا في أوساط بلدته، فتاب العاصي، واهتدى الضال، ورجع التائـه، وتعلم الجاهـل...، وانتقـل هذا الخير العميم إلى بقية الشعب الجزائري.
المسار الثاني:
يتمثل في اهتمام الشيخ العربي التبسي بإزالة غشاوة الجهل المطبقة على عقول وأذهان أبناء الأمة الجزائرية، وذلك بدعوتهم إلى الإقبال على التعلم انطلاقًا من كُتَّاب الحيّ، ومرورًا بالمدارس التعليمية، كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساءً؛ بتمكينهم من الخروج من ظلمات الجهل والشرك والبدعة والمعصية إلى نور التوحيد والسُّنة والطاعة، وتمكينهم من معرفة عدوهم وحُسْن الاستعداد لمقاومته ودحره.
المسار الثالث:
كان الشيخ العربي التبسي يقارع عدوين لدودين مختلفين؛ أحدهما أعتى وأخطر من الآخر، فكان يصارع العدو الفرنسي المحتل بلسانه وقلمه؛ مبينًا بطشه وظلمه وقهره للشعب الجزائري والاستيلاء على خيراته، والاستئثار بمقدراته، وإذلاله والعمل على تجريده من كل مقوّمات شخصيته الإسلامية المتميزة؛ فكان لا يترك مناسبة تحين ولا فرصة تُتاح إلا ويدعو من خلالها أفراد الشعب إلى رفض الاستسلام أمام طغيان الاحتلال الفرنسي، وإلى عدم الرضوخ لصنوف عدوانه على الأرض والنفس والعِرْض، بل يجب مجابهته بكل ما يملك الشعب من قوة وجهد؛ لأن الحق الذي أُخِذَ من أصحابه غصبًا لا يمكن استرجاعه إلا بالتضحيات الجسيمة على كـافة الأصعدة وبجميع المجالات.
أما العدو الثاني -وهو الأخطر في نظر الشيخ- فهو انتشار المفاهيم الدينية المزيفة، التي يقف وراءها شيوخ الطرقية الضالين المضللين، ناصبين شراك الزيغ والابتداع في زواياهم، وذلك بإيعاز من المحتلين الفرنسيين وأشياعهم من العلمانيين الجزائريين، الذين همهم دنياهم ومنتهى أمَلهم أن يعيشــوا، ولو كان عيشهم عيش هوان ومذلّة وصَغــار، جاء في إحدى مقالاته: «ألا إن أعدى المسلمين للإسلام أولئك النفر الذين يظنّون مِن قِبَل أنفسهم أنهم أولياء الله وأحبّاؤه...»، إلى أن يقـول: «فاغتر بهم الجُهّال، وانقاد لهم الأغرار، ودخلوا على الناس في عقائدهم، ولبّسوا عليهم أمر دينهــم».
وللشيخ -رحمه الله- مقالات عدة في هذا المضمار؛ منها «بدعة الطرائق في الإسلام»، وغيرها، كشف من خلالها تآمر هؤلاء الطُّرقيين مع سلطة الاحتلال الفرنسي؛ وذلك لتضليل الشعب الجزائري وتحريفه عن جادة الصواب وإبعاده عن دينه.
مميزات شخصيته التي انفرد بها عن غيره
امتاز الشيح العربي عن بقية أقرانه من رجالات الإصلاح في الجزائر بعدة خصال، نذكر منها:
- طول فترة طلبه للعلم وتنوعها؛ حيث قاربت الـ27 سنة؛ تنقل خلالها بين الجزائر وتونس ومصر.
- حل مكان الإمام عبدالحميد بن باديس على كرسي التدريس، بانتقال مجالس الطلبة للتحلق حوله، وسفرهم لتبسة لإكمال دروسهم على يديه، وذلك بتوصية من الإمام ابن باديس شخصيًّا. بل نال شرف إدارة وتسيير معهد ابن باديس الذي أُسِّس سنة 1947م بتزكية جماعية من رجالات الجمعية ومجلسها الإداري.
- عُرِفَ بموقفه المعادي للإدارة الفرنسية منذ صغره، وسُجِنَ أكثر من مرة بسبب مواقفه المناهضة لسياستها العدوانية، وقد تجلّى ذلك في دعمه المطلق للثورة التحريرية منذ انطلاقتها في الفاتح نوفمبر 1954م، بل دعمها بالمال وحثّ الجزائريين على الالتحاق بصفوفها.
- كان الوحيد من قادة جمعية العلماء الذي لم يغادر أرض الجزائر، رغم مطالبة قادة الجبهة المتواصل له للهجرة؛ لكونه كان مستهدفًا من مخابرات الاحتلال الفرنسي.
- ترأس لجنة الفتوى في الجمعية، بل كان المفتي الأوحد الذي يُجيب عن ما يرد إلى مجلة البصائر من تساؤلات في شتى المجالات.
- رغم اختلاف الروايات حول كيفية وفاته، لكنَّ الجميع أكدوا، وأجمعوا، أنه استُشْهِد تحت نير التعذيب، ورُمِيَ في مكان لا يَعرفه أحد حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات.
ختامًا
ونحن إذ نكتب هاته الأسطر عن الإمام المجاهد العربي التبسي -رحمه الله- نجزم يقينًا لا ريب فيه أننا لن ولم نُوفِّيه حقّه ومستحقّه؛ لأنه قدّم للجزائر ما أحيا بـه إسلامها وهويتها، ونفخ في روحها نار الجهاد وعزّ الشهادة، وأنار درب شبابها بوضع الإسلام في السكة الصحيحة التي رسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلكها صحابته من بعده.
ببساطةٍ، فقد كان نِعْم المربي والمجاهد والقائد والمرشد؛ فرحمه الله، وجمعنا به في مستقر رحمته وفي جوار نبيه، إنه بالإجابة قدير، فهو المولى ونعم النصير.
ونختم بما كتبه بخط يده ذات يوم على صفحات جريدة البصائر قوله: «عقيدة محبة الوطن نشأت في صلب طبائع البشر، ونمت بنمو الإنسان، وتطورت بتطوره، وقويت بقوّته، وضعفت بضعفه.. والوطن وإن اتسع لفظه وانتشر مفهومه وتنازعته الطبائع؛ فليس شيء منه يُرغَب عنه أو يُزْهَد فيه، ما دام حُسْنه حسنًا وقبيحه قبيحًا، وأنَّى يكون ذلك، والوطنية رأس عامة الفضائل وقطب رحى الشرف وهامة المعالي».