أفق آخر للشيخ محمد رشيد رضا
تقبع
أهم وثائق التاريخ السياسي والدبلوماسي الحديث لكثير من دول العالم، من أمثال
الهند والصين وأستراليا وتوابعها، ومعظم دول العالم العربي؛ في سجلات الوثائق
البريطانية التي قد يُسمح بالاطلاع عليها بمرور ثلاثين عاماً.. ولقد كانت المدة
أطول من ذلك (أي نحو خمسين عاماً)، إلا أنها خفضت كذلك في عام 1967م.
لكن
مع ذلك سيظل التاريخ السياسي والدبلوماسي لتلك الدول ناقصاً لفترة طويلة مقبلة؛
لأن مرور الثلاثين عاماً لا يعني السماح أوتوماتيكياً بالاطلاع عليها، فبعضها يحفظ
لفترات أطول، وبعضها قد لا يسمح برؤيته مطلقاً إن كان من شأنه أن يشين مواقف
بريطانيا التاريخية بصورة صارخة أو يدين من يهمها شأنهم بالقدر نفسه.
ويلاحظ
أن معظم الوثائق التي أُفرج عنها أخيراً، وهي عشرات الآلاف من الأوراق السرية؛ لا
تتمتع بحساسية خاصة، بسبب رحيل كل الأفراد الذين كتبوها، أو كانت لهم صلة ما بها،
وبسبب عدم تعرض تلك الوثائق بإدانات فاضحة للدبلوماسية الاستعمارية البريطانية.
فالوثائق
تتحدث في جلها عن السياسة الاستعمارية البريطانية، وكأنها كانت سياسة أخلاقية تهدف
إلى الإعمار والأمن، ونادراً ما تستخدم وسائل البطش والتنكيل وسفك الدماء.
أما
السلبية الوحيدة التي تبرزها تلك الوثائق للسياسة البريطانية، فهي أنها كانت
تستخدم أسلوب التفريق الشهير الذي عنوانه (فرّق تسد)، وتحرّض الأفراد والدول بعضها
على بعض؛ حتى لا تتحالف ضدها في النهاية، وهو أسلوب لا تتنكر له ولا تنكره
بريطانيا حتى اليوم، باعتباره أحد الأساليب اللازمة لنجاح العمل السياسي الخارجي.
وثيقة مضيئة مشرقة
بهذا
الإطار يمكن لمن يقلّب أوراق تلك الوثائق أن يطلع على أكداس من الفضائح، ويتعرّف
على خلفيات وأسرار كثير من أحداث ومؤامرات التاريخ الحديث، ثم يعود ليفهم أقدار
كثير من الساسة ورجال التاريخ على الوجه الصحيح.
لكن
بعض تلك الوثائق يشرف أصحابها، ولو كانوا من ضمن الأحياء اليوم لسرهم أن يماط
اللثام عن أسرارهم، لكنهم وقد ماتوا فحسبهم أنهم تركوا وراءهم تاريخاً ناصعاً
نظيفاً مشرّفاً.
أحد
هؤلاء هو المناضل القومي الإسلامي الضخم، الشيخ الإمام محمد رشيد رضا القلموني،
ونسبته الأخيرة هي إلى قرية القلمون من ضواحي مدينة طرابلس اللبنانية، وهو في
الأصل عراقي، وفي المولد والنشأة لبناني، لكنه عاش معظم سني نضجه ونضاله وعطائه في
مصر، وارتبط من هناك بثورات العرب جميعاً، وساندها بكل وسيلة كانت تحت يديه، فهو
بذلك الاعتبار ممثل للعالم العربي أجمع، وإن كان أثره قد جاوز العالم العربي إلى
آفاق الهند وإندونيسيا.
أصدر
مجلة فلسفية نهضوية تدعى (المنار) كانت تصل إلى شتى الآفاق، يحيي بها صيحات جمال
الدين الأفغاني، ودعوة الإمام محمد عبده، ثم مارس العمل السياسي الاستشاري بعد
وفاة هذا الأخير، والتقى اللورد مارك سايكس، صاحب الشأن في اتفاقية سايكس بيكو
المشؤومة، حيث زوّده بنصح كثير متجرد لم يتآمر فيه على أحد، ولم يكن فيه محابياً
لشعب عربي على حساب شعب عربي آخر، إنما هَدَفَ إلى تحقيق المصالح الكبرى لجميع تلك
الشعوب.
وبينما
كانت معظم الوثائق المفرج عنها تتحدث عن نزاعات صغيرة، بعضها حول الحدود، وبعضها
يتعلق بقرى أو مزارع أو شحنات بضائع؛ إلا أن وثيقة محمد رشيد رضا تجاوزت ذلك كله،
واتخذت وحدة تحليل كبرى، ونظرة مستقبلية استراتيجية للشؤون العالمية، ولشؤون
العالم العربي والإسلامي المندرجة في ذلك النطاق.
ففي
لقائه مع اللورد سايكس قدم محمد رشيد رضا 15 قضية متشابكة، جعلها مقدمات للنتيجة
التي رتبها عليها، وبيّن فيها غوائل الاستيلاء على العراق وسورية في نظر العالم
الإسلامي، ومسألة حماية مصر، ومسألة اتهام إنجلترا بالعزم على إزالة الحكم
الإسلامي من الأرض، وسعي ألمانيا للاستفادة من العالم الإسلامي باستمالته إليها
وتنفيره من الإنجليز.
اضمحلال
الدول العظمى
النقطة
الأخيرة لم تكن قد برزت بعد في ذلك الأوان، لكنها تفاقمت فيما بعد بما أزعج
بريطانيا غاية الإزعاج، ويكفي أن نذكر هنا ما حدث من لقاءات وتحالفات بين أقطاب
الوطنية العرب الأبطال، من أمثال اللواء عزيز المصري، والشيخ الحاج أمين الحسيني،
وبين الألمان، لكن بريطانيا في غمرة زهوها بانتصارها على ألمانيا في الحرب
العالمية الأولى، لم تكن ترى ملامح ذلك الخطر ولا بوادره، بل إن اللورد سايكس اتهم
الشيخ رضا بالمغالاة في الخيال الجامح وتوقع المستحيلات، ووصفه في وثيقة منفصلة
رفعها إلى الحكومة البريطانية بأنه شخص دمث الأخلاق وودود المسلك، لكنه في تفكيره
السياسي متغطرس ويستحق أن يردع بقوة!
كان
سايكس يريده سياسياً مساوماً ممن يجيدون أعمال المساومة، لكنه وجده صلباً صلداً لا
يجامل بريطانيا العظمى، التي ازدادت عظمة ومجداً بانتصارها في الحرب العالمية
الأولى.
ولقد
انتبه رشيد رضا بثاقب وعيه إلى أن بريطانيا ستنتهي عن قريب إلى درب التدهور عقب
ذلك الانتصار، وقد حدث ذلك بالفعل عقب الحرب العالمية الثانية، وإن كان الشيخ قد
مات في عام 1938م قبل أن يرى بأم عينيه صدق نبوءته.
لقد
ساق الشيخ جملة أسباب قال إنها ستقود إلى اضمحلال بريطانيا من مقام القوة العظمى،
وهي لا تختلف كثيراً في جوهرها عما يسمى اليوم نظريات مدرسة انتقال القوة، لروبرت
غلبن، ودي موسيكتيا، وجيوفري بليني، وديفيد سنجر؛ وهي النظريات التي صاغ في ضوئها
بول كيندي كتابه الشهير عن اضمحلال القوة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية.
ولربما
اهتدى الشيخ إلى فرضيات تلك النظرية من خلال استقرائه الخاص للأحداث، أو ربما
استهدى بقراءته لابن خلدون في حديثه عن قيام وسقوط الدول، لكنه في كلا الحالين
رائد رشيد مستبصر، وكان شجاعاً عندما طبّق تلك النظرية على بريطانيا التي لم تكن
تغيب عنها الشمس، وظل الناس يتغنّون بعظمتها ومجدها الصاعدين، ويتوافدون ويتهافتون
على تهنئتها وتقديم فروض الولاء لها، بعد انتصارها في الحرب، لكن الشيخ رشيد رضا
تنبأ وأذاع نبوءته عن تدهورها الوشيك.
تحمل
الوثيقة حديث الشيخ رشيد بعنوان (عاقبة حل المسألة الشرقية على الإنجليز)، قائلاً:
إن التنكر لوعد اتفاقية سايكس بيكو باستغلال العرب، سيصيب بريطانيا بخسارة عظمى،
وسيكسبها عداوة ثلاثمائة مليون ونيف من المسلمين (تعداد سكان العالم الإسلامي
المظنون حينذاك!)، وسيثير لها القلاقل والثورات في مستعمراتها. وتحدث عن أن
ألمانيا ستنهض من جديد؛ لأن قوتها الحربية إذا ضعفت فهي أقوى أمم الأرض في العلوم
والفنون والنظام. وذكر أن ألمانيا ستتحالف مع روسيا في المستقبل (وهو ما حدث فعلاً
لفترة من الزمان!).
وذكر
الشيخ أن الشعوب اللاتينية في أوروبا تتربص ببريطانيا الدوائر: «فلا يستهان بضعفها
الآن، كما لا يستهان بضعف المسلمين، وإن كان أشد من ضعفها».
وقد
حدث فعلاً فيما بعد انشقاق فرنسا المعروف عن كتلة بريطانيا السياسية والعسكرية.
من السيادة إلى التبعية
وما
هو أبرع من ذلك في نبوءات الشيخ رشيد رضا، تجلى في حديثه عن أن الولايات المتحدة
ستخلف بريطانيا في قيادة العالم، فهي كما قال «ماضية في منافسة إنجلترا في التجارة
ومباراتها في القوة البحرية، وإنجلترا مضطرة إلى مصادقتها، فلا يمكن أن تضع في
طريقها العقبات والعواثير مهما تألمت من تفضيل الشعوب الكارهين لها لبضائع
الأمريكان على بضائع الإنجليز، وهذه قوة ليس لها جهة ضعف كما قبلها».
وهذه
النبوءة الرشيدية قد صدقت أيضاً، ويلاحظ أن أطرف ما فيها قوله إن بريطانيا ستكون
مضطرة إلى مصادقة الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث تصوّت لها أوتوماتيكياً كل مرة
في مجلس الأمن، حتى لو لم تكن مقتنعة بمشروع القرار الأمريكي، وهو ما نراه يتكرر
بشكل مخجل في هذه الآناء.
وفي
ثلاث نقاط متتالية ركز الشيخ رشيد رضا على أن ثمة متاعب جمة خطيرة ستزلزل المركز
الاقتصادي لبريطانيا، ذلك أن مستعمراتها متقدمة إلى انقلاب اجتماعي جديد (أي تنمية
اجتماعية واقتصادية بالمصطلح الحديث!)، وأن بريطانيا ليست مؤهّلة للتصدي لذلك،
يضاف إلى ذلك مشكلة إيرلندا وتطلعاتها في مثل تلك التنمية.
أما:
احتلال بريطانيا مع حلفائها لبعض بلاد الجرمان، ومراقبة تنفيذ شروط الصلح، واحتلال
بلاد أخرى من أعدائها لمثل ذلك، ومساعدة خصوم البلشفك من الروس بالمال والرجال؛ كل
ذلك جهاد كبير تُحمَّل البلاد البريطانية عبء انتقاله، وهو العبء الذي ناءت به
بريطانيا أخيراً.. كما تنبَّأ الشيخ رشيد في عام 1919م، وكما رأى من بعد منظّر
العلاقات الدولية الكبير روبرت غلبن الذي صاغ نظرية أعباء المستعمرات، بعد أن تأمل
لعدة سنوات ما حدث لبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية!
لم
يكن الغرض الأساسي من استعراض هذه الوثيقة المطوّلة من قلم الشيخ الإمام الأمثل
محمد رشيد رضا إثبات تفوقه في تحليل العلاقات الدولية، وإن كان ذلك قد اتضح جلياً
في ثنايا إفاداته هذه التي نرشحها لأساتذة العلاقات الدولية العرب لتدريسها
وتحليلها في مساقات الدراسات العليا عند دراسة موضوعات توازن واختلال وانتقال
القوى.
وإنما
كان الغرض الأول هو إبراز صورة مشرقة من التاريخ السياسي العربي الحديث.
وإن
تراث الأمة العربية، قديماً وحديثاً، لمملوء بالصور الزاهية مثل هذه، وهي صور أولى
بالاهتمام والتدارس من غيرها.
لكن الناس في زمان توالي الهزائم والإحباطات يولعون بنبش
كل دميم من صفحات الماضي، مصورين التاريخ الحديث للأمة العربية والإسلامية وكأنه
صفحات متصلة من الاستحذاء والعار، وهو لم يكن كله كذلك بالتأكيد!
::
مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس - سبتمبر 2013م.