حجم التشويه التاريخي للعلاقة بين آل البيت والأصحاب
هناك كثير من الروايات التي تشوه العلاقة
بين آل البيت والأصحاب، فلم تسلم هذه الروايات من الاختلاق تارة، والتحريف تارة
أخرى، لترسم لقارئها صورة قاتمة لهذه العلاقة مبنية على العداء والتوتر الدائم حسب
هذه الروايات المشوهة، في الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين آل البيت والأصحاب تأخذ
مجراها الطبيعي بما ميَّز هذه العلاقة من الود والمحبة والإخاء والصفاء.
موقف
المسلم من هذا الإرث التاريخي:
لا نشك لحظة واحدة بأن
تركة هذا الإرث التاريخي ثقيلة ومكلفة بالنسبة لوحدة الأمة الإسلامية وائتلافها؛
لأن من يقرأ التاريخ الإسلامي - وهو يمثل ذاكرة الأمة - بوعي وعقيدة سليمة؛ سيشعر
فعلاً بضخامة الانحراف والخطأ الذي وقع فيه كثير من الإخباريين والمؤرخين القدامى
حين نقلوا لنا أخباراً كاذبة ملفقةً تلقي ظلالاً قاتمةً على تاريخ العلاقة بين آل
البيت والأصحاب، حتى صارت لأشرف القرون في أذهان الناس صورة مشوهة تخالف ما كان
عليه أولئك الأولياء الأخيار والبررة الأتقياء.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن
الخروج من المأزق والوضع السيئ الذي أحاط بكتابة التاريخ الإسلامي، يتطلب منا
القيام بأمرين:
الأول: التثبت من النصوص،
وتمحيص الأخبار، وتحقيق الروايات التاريخية؛ وفق الموازين النقدية التي اتبعها
علماء الحديث النبوي.
الثاني: الحكم على
الأحداث وفق التصور الإيماني الصحيح والموازين الشرعية.
سبل المعالجة:
أما سبل المعالجة لهذه
القضية فتتمثل في تذكير المسلمين بالمنهج الواجب اتباعه عند النظر في فقه تاريخ
الصحابة، وهذا المنهج قام بتأصيله علماء الأمة تأصيلاً فقهياً على أساس الكتاب
والسنة كما تؤصَّل جميع الأحكام الشرعية.
وبذلك أصبح تاريخ الصحابة
والحكم فيه من عمل المحدثين والمؤرخين المسلمين، وأصبح لزاماً على كل باحث ومؤرخ
مسلم أن يرد جميع ما جاءت به الأخبار عن الأصحاب والعلاقة بينهم وبين آل البيت إلى
هذا المنهج وعلى شرطه، فيُعنى بالضوابط والأحكام الشرعية التي يمكن من خلالها
التعامل مع تاريخ الصحابة؛ ويتكون هذا الفقه من مجموعة من الأحكام المستمدة من
مصادر التشريع الأساسية، وهي الكتاب والسنة والإجماع، وسنذكر هذه الأحكام تباعاً.
أولاً:
منـزلة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا ينكر الوصية بأهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم، وهم قرابته وأزواجه، إلا جاهل بمكانتهم في الكتاب
والسنة؛ إذ أمر الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليهم واحترامهم
وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً
ونسباً، لا سيما إذا كانوا متبعين للسنة متمسكين بها كما كان عليه سلفهم، كالعباس
وابنه وآل علي وآل عقيل وآل جعفر - رضي الله عنهم أجمعين.
قال الله - عز وجل -: {قُل
لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلاَّ الْـمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
[الشورى: 23]، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير الطبري في
تفسيره[1]. وقال تقدست أسماؤه: {إنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} [الأحزاب: ٣٣].
ثانياً:
منـزلة الأصحاب وعدالتهم:
لقد دلَّت النصوص
المتواترة على وجوب حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم، والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان
بآثارهم، وحرمة سب أحد منهم؛ لما شرفهم الله تعالى به من صُحبة نبيه صلى الله عليه
وسلم، والجهاد معه، والصبر على أذى المشركين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم
وأولادهم، وتقديم حب الله ورسوله على ذلك كله؛ فاستحقوا بذلك الثناء عليهم،
والتجاوز عمَّا فرط منهم، إذ نزل الوحي من الله تعالى بأنه رضي عنهم ووعدهم الجنة،
وبشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ونادى بإجلالهم وتوقيرهم، وأخبر أنهم أمنة
أمته، ونجومها الذين يقتدى بهم.
ثالثاً:
الموقف مما روي في قدح الصحابة:
ينبغي أن يكون المسلم
وسطاً عدلاً بين طرفي الإفراط والتفريط، وسطاً بين الغلاة الذين يرفعون من
يعظمونهم من الصحابة أو آل البيت إلى مصاف النبيين والمرسلين، وبين الجفاة الذين
ينتقصون من قدر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام ويشتمونهم ولا
يعرفون لهم حرمة ولا مكانة.
والأمور المنقولة عن
الفتنة وأحداثها أكثرها لا يصح، أما ما صحَّ فيما جرى بينهم فهم فيه مجتهدون؛ إما
مصيبون لهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون لهم أجر الاجتهاد،
وخطؤهم مغفور؛ لأنهم اجتهدوا عن حسن نية. وهم ليسوا معصومين، بل إنهم بشر يصيبون
ويخطئون، وقد وعدهم الله تعالى المغفرة والرضوان.
ولأجل ذلك ينبغي صيانة
القلم عن ذكر ما نسب إليهم من مساوئ، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين،
ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم.
ثم إن الأخبار المروية
عنهم في بعض القضايا المشتبهة لم توضع في سياقاتها الصحيحة، فمنها ما هو كذب،
ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى انحرف عن أصله فتشوه مضمونه.
ولذلك وجب الإمساك عمَّا
شجر بينهم إذا كان الخوض فيما وقع بينهم على سبيل التوسع في الجزئيات وتتبع الظنون
والتنقص لفئة والانتصار لأخرى.
أما في ظل الموازين
العلمية المستقيمة والمهتدية بالنصوص الشرعية، فإن البحث في تاريخ الصحابة لا
يمتنع إذا قصد به بيان بعض الأحكام الشرعية، وبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح
الأخطاء التاريخية التي أثيرت حول موقف بعضهم من بعض، أو مواقفهم من حروب الفتنة
وغيرها.
أسباب التحريف في
التاريخ ودوافع المحرفين:
يهدف المحرفون للروايات
التاريخية التي تشوه العلاقة الحميمية بين الآل والأصحاب؛ إلى أمور عدة:
الأول: أن انتشار الإسلام
وامتداد الفتوح الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة أثار حفيظة أعداء الإسلام؛ إذ
باءت جهودهم بالفشل في ميادين القتال، ورأوا أن الكيد بالحيلة والوقيعة أنجع،
فأظهر قوم منهم الإسلام، وحاولوا تشويه تاريخ هذا الدين من الداخل.
الثاني: تجريح شهادة
الصحابة والطعن في عدالتهم، ومن ثم التشكيك في الكتاب والسنة؛ إذ إن الصحابة هم
حَمَلة الشريعة ونقلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله.
الثالث: إثبات عجز
الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق والعمل، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر؛
فإذا ثبت أنه عجز عن تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم
النبي صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة؛ فهو عاجز ليكون منهج حياة ووسيلة للإصلاح في
عصرنا هذا.
وفي الختام ينبغي أن نشير
إلى أن بعض المصادر التاريخية تعتمد على رواياتِ مَن لم يتحرَّ العدل والإنصاف في
تدوينه للتاريخ الإسلامي، وهؤلاء شوهوا وزيفوا كثيراً من الأخبار المتعلقة
بتاريخنا، وتأثر بهم كتّاب التاريخ قديماً وحديثاً؛ ولذلك ينبغي مراجعة كثير من
الأخبار المشهورة للتأكد من صحتها، وقراءة هذا التاريخ قراءة واعية متفحصة؛ لنقدم
للنشء وللناس على العموم تاريخاً صحيحاً موضوعياً ينسجم مع بناء الأمة العقدي
والحضاري، مساهمةً منا في تصحيح الأفكار والمفاهيم؛ لأن التاريخ الإسلامي هو ذاكرة
الأمة، وهو بمنزلة عرضها وشرفها؛ إذ هو القناة التي أوصلت هذا الدين جملة
وتفصيلاً.. والله ولي التوفيق.
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.
[1] انظر: تفسير ابن كثير،
(4/162).