ومن مكايدهم أيضًا: أنَّ جارية ادَّعت أنَّ أحد اليهود اغتصبها قهرًا في داره، مما أثار حفيظة المسلمين، ولمّا علِم السلطان يوسف يعقوب بهذه الحادثة، ركب بنفسه وأمر بطرد العامة من مساكن اليهود، وأمرهم بالكفّ عنهم، وأوصى في المدينة بعدم التعرُّض لأحد من اليهود.
مقدمة
لا يخفى على أيّ باحث، أو أيّ إنسان عربيّ أو مُسلم، مهما بلغت درجة ثقافته، ما قام
به اليهود عبر مختلف العصور التاريخية، بفِتَن ومكايد ضد المسلمين، وتصديع وتفكيك
للجبهة الداخلية لهم، وذلك بإثارة الفتن الداخلية، وزعزعة أمن واستقرار البلاد؛ من
خلال وقوفهم إلى جانب المستعمر الأجنبي؛ لتحقيق أغراضهم ونواياهم الخبيثة.
وما يتعرض له اليوم إخوتنا في فلسطين عمومًا، وغزّة على وجه الخصوص، ما هو إلا جزء
ضئيل من الكراهية والحقد ضد المسلمين. لذلك، على المسلمين أنْ يتنبهوا لمؤامرات
اليهود وغدرهم، وأنْ يقفوا يدًا واحدة أمام أطماعهم ومؤامراتهم؛ فهم قَتلة الأنبياء
وأعداء الرسل، وأعداء أتباعهم في كلّ عصر وفي كلّ مِصْر.
لذلك، جاء هذا البحث التاريخي، ليُميط اللثام عن بعض أَوْجُه مشاركة اليهود في
إثارة الفتن والاضطرابات السياسية في بلاد المغرب الأقصى خلال القرنين الثامن
والتاسع (14 و15م). ولتحقيق هذه الغاية، سنعتمد في دراستنا هذه على المنهج الوصفي
التاريخي، والمنهج التحليلي في قراءة الحدث؛ بغية الوصول إلى الحقيقة التاريخية
المُنزَّهة، والبعيدة عن الأغراض والنوايا المبيَّتة.
أولاً: الوجود اليهودي في بلاد المغرب: حقيقة تاريخية أم أسطورة؟
تَختلط الأسطورة بالتاريخ عندما نحاول الوقوف على بداية الهجرة اليهودية إلى بلاد
المغرب. ويظل تحديد تاريخ مُعيَّن لدخول اليهود واليهودية إلى بلاد المغرب مجالًا
خصبًا لقِصَص الكُتّاب اليهود، التي تعتمد على الافتراضات والتخمينات. والأرجح هو
قدومهم في أعقاب هدم الهيكل الأول (586 ق.م)، على قوارب فينيقية إلى قرطاج، تلك
المستعمرة التي أسَّسها الفينيقيون في الشمال الإفريقي سنة (814 ق.م). وتتفق معظم
الدراسات على أنَّ الهجرات المكثَّفة إلى الشمال الإفريقي، قد بدأت أوائل القرن
الثالث قبل الميلاد، خلال فترة حُكم بطليموس الأول، وخضوع قورنائية (برقة) الواقعة
على الشاطئ الليبي للسيطرة البلطمية؛ حيث نقل بطليموس الأول أعدادًا من اليهود إلى
مدينة «قورينى»، عاصمة الإقليم.[1]
كما جذبت منطقة المغرب الأقصى بأقاليمها المتنوعة، عددًا من اليهود خلال العصور
المختلفة من خلال تيار الهجرة القادم من الشرق، وهبط إليها النازحون من بلاد
الأندلس هربًا من اضطهاد القوط، خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين؛ فعندما
اعتنق الملك القوطي «ريكارد الأول»، المذهب الكاثوليكي سنة 589م، عدَّ اليهود من
الهراطقة، ومِن ثَم شملهم الاضطهاد.[2]
تفاقم اضطهاد اليهود في عهد خلفاء ريكارد الأول الذين اتفقوا مع الأساقفة، ووضعوا
قوانين صارمة ضد اليهود بلغت ذُروتها سنة 700م؛ عندما صدر مرسوم ينص على أنَّ
العبودية مصير مَن يمارس الشعائر اليهودية، وأنَّ الأطفال الذين يُشَكّ في أنَّهم
على اليهودية يُؤْخَذون قَسْرًا من عائلاتهم، ويتمّ تربيتهم بمعرفة «الأكليروس
المسيحي».
أدَّى هذا المرسوم إلى فرار أعداد كبيرة من اليهود إلى المغرب الأقصى، ووجدت هذه
الجماعات في الفتح الإسلامي للأندلس فرصةً للنَّيْل مِن القوط الذين سَامُوهم سوء
العذاب، فانضمَّت أعداد منهم إلى جيوش الفتح عائدين من منفاهم إلى بلادهم التي
أُكْرِهُوا على مغادرتها. وفي ظل الحُكْم الإسلامي للأندلس، استعاد اليهود حقوقهم،
وأفاد المسلمون من معرفتهم بالبلاد، بأن تركوا أعدادًا منهم في المدن لمساعدة
الحُكَّام المسلمين.[3]
ثانيًا: بعض مظاهر مشاركة اليهود في إثارة الفتن والاضطرابات السياسية
قام يهود المغرب الأقصى بفِتَن ومكايد ضد المسلمين؛ فقد استغلوا وضعهم السياسي
والديني داخل الدولة التي منحت لهم عدَّة مناصب مِن قِبَل السلاطين والأمراء؛
فاستغلوا ذلك لصالحهم أو لصالح أهل مِلّتهم، أو لضرب المسلمين الحاقدين عليهم. مثال
ذلك، عندما كان «خليفة بن حيون بن رقاصة» حاجبًا للسلطان[4]
«أبي يعقوب يوسف» (656- 685ه)، الملقب بأمير المؤمنين[5]؛
فقد استعلى هذا الرجل هو وعائلته على كل الوزراء والعلماء والشرفاء. فنصح الوزير
وكاتب العلامة (أي الخاتم) «عبدالله بن أبي مدين»، السلطان المريني المذكور بضرورة
التخلص منهم، وكسر شوكتهم. فدبَّر لهم مكيدة ونكَّل بهم، واستبقى من عائلة رقاصة
«خليفة الصغير» عبرةً لباقي اليهود. لكن، سرعان ما تناسَى المسلمون ما جرى لهم على
يد اليهود؛ إلا أنَّ خليفة الصغير كان يتملق السلطان ليصل إلى غرضه، وهو غرض كلّ
يهوديّ، وهو حبّ الانتقام وإشعال الثورات على مرَّ التاريخ، وكان هذا الأمر منهجهم
كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.[6]
ونتيجةً لتعلُّق خليفة الصغير بالسلطان أبي الربيع سليمان بن أبي عامر، فقد عيَّنه
هذا السلطان حاجبًا له في عام 708هـ/1308م، وقيل: عيَّنه وزيرًا. وهنا بدأ خليفة
الصغير يُدبِّر مكيدته من صاحب العلامة عبدالله بن أبي مدين، الذي كشف أفعال خليفة
بن حيون في قصر السلطان يوسف بن يعقوب، فدسَّ خليفة الصغير للسلطان، أنَّ عبدالله
بن أبي مدين يُعرِّض باتهام السلطان في ابنته، وأنه تآمر ضد الدولة، فتمكَّنت
مساعيه من نفس السلطان، وظنَّ أنه صادق، وكان يخشى عائلة أبي مدين بما كان لها من
الوجاهة في الدولة، فوجَّه له الدعوة لحضور زفاف ابنته، وأوعز إلى قائد جند الفرنجة
بقتله، فسار إليه ولقيه قرب مقبرة الشيخ أبي بكر بن العربي وأتاه من خلفه وطعنه
طعنة كبَّته على ذقنه، واجتز رأسه وألقاها بين يدي السلطان أبي الربيع. ودخل الوزير
سليمان بن يرزيكن، فوجد الرأس بين يديه، وحزن حزنًا شديدًا على أبي مدين؛ لما له من
مكانة كبيرة في الدولة. وأوضح للسلطان مَكْر هذا اليهودي، وأطلعه على خُبْثه، وأخرج
له براءة كان بعث بها أبو مدين معه إلى السلطان، يتنصل فيها ويحلف على كذب ما
رُمِيَ به عنده. فتنبَّه السلطان لمكر هذا اليهودي، وعلم أنه قد خَدعه، وندم على ما
فعله بوزيره، وفتك لحينه بخليفة الصغير وحاشيته من اليهود، فأصبحوا مثلًا للآخرين.[7]
ومن مكايدهم أيضًا: أنَّ جارية ادَّعت أنَّ أحد اليهود اغتصبها قهرًا في داره، مما
أثار حفيظة المسلمين، ولمّا علِم السلطان يوسف يعقوب بهذه الحادثة، ركب بنفسه وأمر
بطرد العامة من مساكن اليهود، وأمرهم بالكفّ عنهم، وأوصى في المدينة بعدم التعرُّض
لأحد من اليهود.
ثالثًا: موقف اليهود من الاستعمار الأوروبي للسواحل المغربية خلال القرن الخامس عشر
الميلادي
تعرَّض المغرب الأقصى خلال القرن الخامس عشر الميلادي، كغيره من أرجاء العالم
الإسلامي، إلى هجمة استعمارية شرسة، هدفها السيطرة على موارد البلاد وخيراتها،
ولتكون مفتاح تحكّمها بالقارة الإفريقية. ولكن، الذي يهمنا هنا، هو موقف الجالية
اليهودية من هذا الاستعمار، الذي تزامن مع ضعف الدولة الوطاسية الحاكمة في المغرب
الأقصى. فهل استغل اليهود هذه الظروف لتحقيق أهدافهم وغاياتهم؟ أم أنَّهم فضَّلوا
الوقوف مع المغرب ضد الوافد الجديد؟ آخذين بعين الاعتبار أنَّ المغرب قد أحسن
معاملتهم واعتبرهم جزءًا من بنية المجتمع؟
لقد وقفت بعض الأُسَر اليهودية موقفًا إيجابيًّا واضحًا من الاستعمار الأجنبي
للمغرب. وعلَّل بعض المؤرخين ذلك بكونه محاولة من طرف اليهود المستضعفين للانتقام
من المسلمين الذين كانوا يُعرّضونهم لكل أنواع الإهانات. ولكن هذا الافتراض، لم يكن
يعتمد إلا على حُكْم مُسْبَق، ولا أساس له من الصحة، ربما أوحته وضعية اليهود
بأوروبا في تلك الحقبة. وتذكر المصادر المتعلقة بالفترة وبالمنطقة، سواءٌ منها
الإسلامية (الحسن الوزان على الخصوص)، أو الأوروبية إلى أيّ شكلٍ من أشكال
الاضطهاد، أو التعصب الديني؛ بل على العكس من ذلك، أشارت إلى ما يُثبت خلاف ذلك،
فبعد استقلال الحواضر التجارية، ورغم تزايد القلاقل، استمر اليهود في الاهتمام
بأنشطتهم السابقة، وأصبح بعضها -وكان مربحًا- حكرًا عليهم؛ كالصياغة، وسكّ العُملة،
وأُعْفُوا من أداء الجزية.[8]
ولا شكَّ في أنَّ المصادر الأوروبية ما كانت لتسكت عن ذلك الاضطهاد لو كان موجودًا
فعلًا، خصوصًا وأنَّ المؤرخين سجَّلوه مباشرةً بعد ظهوره، نتيجةً تلك العمالة. فهل
نتجت عمالة الجالية اليهودية عن رغبة أعيانها في التقرب من الملوك الجدد، ودفعهم
إلى التخلي عن سياسة التعصب التي كانت مُتَّبَعة آنذاك ببعض الدول الأوروبية وخاصةً
البرتغال؟
حقيقةً، إنَّ الجالية اليهود توصلت بمجموعة من الضمانات البرتغالية، لكنها لم تلتزم
بها، بل لدرجة أنّ الملك البرتغالي كان يعمل على تخفيض أعداد يهودي مدينتي «آسفي»،
و«أزمور». وقام بالفعل بطرد عدد من الأسر، في حين لم تتعرض الأسر اليهودية الكبرى
إلى أي شيء من ذلك، رغم تورُّطها في المضاربات على حساب الجنود، ورغم تآمرها ضد بعض
الشخصيات البرتغالية. وهذا ما يدفعنا إلى تسجيل ملاحظتين مهمتين هما:
الملاحظة الأولى:
أننا حين نقول: إنَّ اليهود تورطوا في عمالتهم مع الاستعمار الأجنبي، نقع في خطأ
التعميم، ونغتر بما كتبه مؤرخو الاستعمار البرتغالي لأغراض سياسية. فالطبقات
الدُّنيا من المجتمع، لم تكن لها يد في هذه العمالة، رغم أنَّها دفعت إلى اتخاذ بعض
المواقف، كدفاعها عن «آسفي». والغالب على الظن، أنَّ عامة اليهود تضرَّرت من
الاستعمار (الضرائب، تحمُّل كثير من المصاريف الاستثنائية، إهانات، سرقة..)، مثلما
تضررت عامة المسلمين.
الملاحظة الثانية:
إنَّ المتعاملين من اليهود لم يكونوا يتوخون بذلك الدفاع عن مصالح إخوانهم في
الدين، وحمايتهم من بطش المسؤولين البرتغاليين. فهذا ما لم يقوموا به أبدًا في
حالات كثيرة. لقد سارعوا إلى خدمة البرتغاليين للاستفادة مما يقدمونه من إمكانيات
الوساطة السياسية (لمعرفتهم باللغة البرتغالية)، والتجارية. ولهذا، لا تذكر المصادر
إلا مجموعة منهم سخَّروا أنفسهم لصالح الاستعمار، ولخدمة مصالحهم الخاصة.[9]
ولعلَّ ما كتبه القبطان (ليط) مرةً إلى الملك البرتغالي عن موقف هذه الفئة من
الاستعمار، خير مُعبِّر عن خلفيات ولائهم. فلقد كتب بأنَّ الأمور بمثل خطورة التهيؤ
لغزو المغرب، يجب أن لا تُسنَد إلى اليهود الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة.
وكان إبراهيم بن زميرو، وهو يُفاوض الشريف «السلطان السعدي»، بقصد الحصول منه على
امتيازات تجارية بمراكش، ويتقرب إليه تنبؤًا بانتصاره، ولقد فضح بعض السجناء
البرتغاليين مخططات كبير يهود «آسفي».[10]
خاتمة
يتَّضح جليًّا من خلال ما سبق ذكره، أنَّ اليهود كان لهم يد في خلخلة الاستقرار
السياسي للمغرب الأقصى خلال القرنين الرابع والخامس عشر الميلاديين؛ وذلك من خلال
تفكيك الجبهة الداخلية وإثارة الفتن والقلاقل، على الرغم من أنَّ المغرب قد أحسن
معاملتهم، ووفَّر لهم ظروف العيش الكريم على أرضه. كما كان لبعض الجماعات اليهودية،
دور كبير في احتلال بعض المناطق المغربية، وخاصةً دكالة وأزمور مِن قِبَل
البرتغاليين، انطلاقًا من مصالحهم الشخصية.
وهذه الخلاصة تقودنا إلى طرح إشكالية، سنعمل على مناقشتها في قادم الأيام بدراسةٍ
مستقلةٍ؛ ألا وهي: دور الجماعات اليهودية في تكريس الاستعمار الفرنسي في المغرب
خلال القرن العشرين، على اعتبار أنَّ اليهودية والاستعمار «وجهان لعملة واحدة»؛
نظرًا للمصالح والأهداف المشتركة.
[1] عبد الرحمن بشير، اليهود في المغرب العربي، (القاهرة: عين للدراسات والبحوث
والنشر، 2001م)، ص52.
[2] المرجع نفسه، ص58.
[3] أحمد بن محمد المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطب وذكر وزيرها لسان الدين
ابن الخطيب، (بيروت: دار الفكر، 1986م، مج3، ص 269.
[4] لم يكن المجتمع المغربي في عهد بني مرين بأقل من غيره من المجتمعات الإسلامية
تسامحًا نحو اليهود. لذلك نجد منهم في هذا العصر أقلية كان لها دورها وتأثيرها
المباشر وغير المباشر في الحياة المغربية. فاليهود تمتعوا بحقوقهم المادية
والمعنوية في ظل حكم الدولة المغربية. وعلى كلّ فقد عرفــــوا في كثير من نواحي
المغرب ولا سيما فــاس، وعاشـــوا جنبًا إلى جنب مع المغــاربة المسلمين، كما نالوا
عطف الرسميين وغيرهم من رؤساء بني مرين الذين قرّبوهم إليهم وأغدقوا عليهم عطفهم،
وأدخلوا بلاطهم ومجالسهم، وأطلعوهم على أمورهم الخاصة. راجع: أبو الوليد إسماعيل
(ابن الأحمر)، روضة النسرين، (الرباط: المطبعة الملكية، 1962م)، ص19.
[5] أبو الحسن علي الفاسي (ابن أبي زرع)، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية،
(الرباط، 1972م)، ص31.
[6] عطا علي محمد شحادة، اليهود في بلاد المغرب الأقصى في عهد المرينيين الوطاسيين،
(دمشق: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط.1، 1999م)، ص59.
[7] عبد الرحمن بشير، اليهود في المغرب العربي، مرجع سابق، ص60.
[8] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي،
بيروت، ط2، 1983م، مج1، ص152.
[9] أحمد بوشرب، دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور (قبل 28غشت
1481م)، (الدار البيضاء: دار الثقافة، 1984م)، ص 358.
[10] المرجع نفسه، ص359.