إنّ أيّ باحث جيّد الاطلاع لا يمكنه أن يُغفل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه البروتستانتية، والاختلاف الجوهري بين المسيحية التي انبثقت منها تلك الحركة، وبين الإسلام.
في غمرة الحديث المتكرر عن ضرورة الإصلاح الديني في الإسلام؛ يَستعيد عددٌ من
المفكرين العرب تجربة الإصلاح الديني في المسيحية خلال القرن السادس عشر، التي نهض
بها القس الألماني مارتن لوثر (1483-1546م)، والقس الفرنسي السويسري جون كالفن
(1509-1564م)، وخلال السنوات الأخيرة انتشر في الدراسات الغربية سؤال يقول: «هل
الإسلام بحاجة إلى لوثر مسلم؟».
ويمكن تَفهُّم هذا السؤال بالنسبة للفكر الأوروبي المطبوع بنزعة التمركز حول الذات،
والذي لا يرى العالم إلا من خلال نفسه، وكذا بسبب الجهل بالإسلام، لكن من الصعب
تفهُّم موقف المفكرين العرب الذين يُثيرون تجربة الإصلاح البروتستانتي دون تمحيصٍ.
إنّ أيّ باحث جيّد الاطلاع لا يمكنه أن يُغفل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه
البروتستانتية، والاختلاف الجوهري بين المسيحية التي انبثقت منها تلك الحركة، وبين
الإسلام. لقد ظهرت البروتستانتية حركة دينية قومية ألمانية ضد كنيسة روما في
إيطاليا، فهي تندرج ضمن صراع القوميات الذي ظهر في القارة الأوروبية خلال القرنين
الخامس عشر والسادس عشر؛ حيث انتفض لوثر الألماني ضد البابا في روما بسبب تهميش
الكنيسة الألمانية والاستبداد الذي كان يمارسه باسم الإنجيل. وبسبب ارتباط النزعة
القومية آنذاك بالمسيحية، لم يكن متصورًا أن يكون الصراع غير ديني، ولذلك دعا لوثر
أول ما دعا إلى الانفصال عن كنيسة روما، ثم بَلْوَر تصوُّره من خلال إعادة قراءة
الإنجيل وترجمته إلى اللغة الألمانية، ليكون أول إنجيل خارج اللغة اللاتينية، اللغة
الرسمية للكنيسة، علمًا بأن ترجمة الإنجيل إلى لغة قومية أخرى كان مرفوضًا لدى
الفاتيكان، ويُعد خروجًا عن المسيحية.
بَيْد أن البروتستانتية لم تكن في الحقيقة تيارًا إصلاحيًّا داخل المسيحية بالمعنى
الحقيقي للكلمة، أي بمعنى الخروج عن المبادئ الكبرى للكاثوليكية، كما سنبين في هذا
المقال، بقدر ما كانت مجرد مذهب جديد داخل المسيحية مثل أيّ مذهب آخر ظهر طيلة
التاريخ المسيحي. فقد عرفت المسيحية عشرات الانشقاقات في تاريخها، وعرفت عشرات
الفِرَق التي تمردت على الكنيسة الرسمية، ولكن البروتستانتية برزت من بين سائر هذه
الفرق والمذاهب لسببين أساسيين:
الأول هو ظهور المطبعة التي وفَّرت لها انتشارًا واسعًا، بعد أن اخترعها يوهان
جوتنبرج في ألمانيا نفسها عام 1440م، وهي التي مكَّنت لوثر من طبع الإنجيل
والمنشورات وتوزيعها على نطاق واسع بين رجال الدين.
أما السبب الثاني فهو اندلاع الصراعات القومية بين الأوروبيين، وهذا ما يؤكده
تبنّي الدولة الألمانية بشكل سريع لدعوة لوثر، التي وجدت فيها فرصة للابتعاد عن
روما، ووسيلة لتمويل الدولة من خلال السطو على ممتلكات الكنائس التابعة للبابا في
ألمانيا، ونهب ثرواتها الضخمة التي كانت تجمعها من بيع صكوك الغفران.
غير أنَّ البروتستانتية لم تكن أقل تطرفًا من الكاثوليكية، بل كانت أكثر تطرفًا
منها؛ رغم ما رفعته من شعارات التسامح والاختلاف والدفاع عن العِلْم والعقل في وجه
الكنيسة الرومانية؛ فقد كانت تلك الشعارات مجرد شعارات لترويج دعوتها وسط المسيحيين
قبل أن يستتب لها الأمر. لم تختلف البروتستانتية عن الكنيسة الأم إلا في بعض
القضايا المرتبطة بالعقيدة المسيحية، كعبادة الرسوم والأيقونات، ومفهوم العشاء
الأخير للمسيح، وصكوك الغفران، وحرية تفسير الإنجيل، بينما حافظت على باقي المبادئ
الأخرى.
لقد كان أول ما قام به أتباع لوثر في ألمانيا وأتباع كالفن في فرنسا وسويسرا هو
مُلاحَقة أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وقتلهم وإحراقهم، ونشروا الرعب في جميع المدن،
بعد أن حملوا السلاح لمحاربة البدع مثل الغناء والرقص وشرب الخمور والصلاة للقديسين
والألعاب، وكان من نتائج ذلك أن ظهرت حركة مقاومة ضد البروتستانت، لكنها كانت ضعيفة
فتم القضاء عليها في بحور من الدماء.
وفي ألمانيا، أقام لوثر جمهورية دموية؛ حيث قام بتصفية أقرب أصدقائه الذين كانوا
معه، ووقف ضد ثورة الفلاحين الذين ثاروا ضد الاستبداد عام 1524م؛ حيث تخلى عنهم
وتحالف مع الأمراء بعد أن حرَّضهم على الثورة، وتقول المؤرخة المختصة في التاريخ
الألماني «ليندا روبر»، التي نشرت كتابًا ضخمًا عن «لوثر» رجعت فيه إلى الوثائق
السرية: «إن لوثر كان يعاني من أمراض نفسية؛ حيث كانت تنتابه نوبات جنون، وكان
مصابًا بالكبرياء والسلطوية، وأقام نظامًا استبداديًّا جمع فيه بين الدين والسلطة،
وهو الجمع الذي كان يُندِّد به بالنسبة للبابا، لكنه فعل عكس ذلك.
أما كالفن فلم يكن أقل وحشية من لوثر؛ فقد أنشأ محاكم تفتيش جديدة، قطع فيها رؤوس
معارضيه وجميع الذين كان يتم اعتقالهم لأسباب أخلاقية أو لمعارضتهم لمواقفه، وكان
يتم الحُكم على أشخاص بالإعدام لأسباب تافهة مثل الشجار في الشارع، وفي عام 1553م
حكم على الطبيب والفيزيائي السويسري ميغيل سيرفيت بالقتل حرقًا بالنار؛ لأنه كان
يرفض الثالوث المسيحي».
وهناك مغالطة شائعة، مفادها أن البروتستانتية دافعت عن التسامح، وهي مغالطة يردها
التاريخ؛ فقد كانت البروتستانتية أكثر المذاهب المسيحية عنفًا وتطرفًا وعنصرية. فقد
ألَّف لوثر كتابًا تحت عنوان «عن اليهود وأكاذيبهم»، هاجم فيه اليهود واتهمهم بقتل
المسيح وبالكفر، ودعا إلى إرغامهم على اعتناق المسيحية بالقوة، ووصفهم بالتوحش
والتحلل الأخلاقي. ويقول عدد من المؤرخين الأوروبيين: «إن لوثر أول مَن شجَّع على
نزعة اللاسامية ومعاداة اليهود في العصر الحديث، حتى إن هتلر تأثَّر به في موقفه من
اليهود مما جعله يعمل على إبادتهم».
أما الإسلام، فقد كان لوثر أكثر تطرفًا من الكاثوليك أنفسهم، فقد عاصَر الصراع بين
العثمانيين وأوروبا، وعاش حصار فيينا عام 1529م الذي قام به السلطان العثماني
سليمان القانوني، وهو الحصار الذي جعل لوثر نفسه وجميع المسيحيين يعتقدون أن نهاية
العالم اقتربت، لذلك اعتبر في كتاباته أن العثمانيين عقوبة أرسلها الربّ إلى
المسيحيين بسبب خطاياهم، أو «عصا» يضرب بها الرب المسيحيين، حسب العبارة التي
استخدمها، ومِن ثَمَّ دعا المسيحيين إلى أن يصبحوا مسيحيين حقيقيين إذا أرادوا
الانتصار على العثمانيين، وأن يتوبوا إلى الربّ. وقد دعا لوثر إلى حرب صليبية ضد
الإسلام والمسلمين، وقال: «إن مَن يقاتلهم لديه تفويض من الله ويعمل الحق».
والأمر الذي لا شك فيه هو أن لوثر تأثر كثيرًا بالدين الإسلامي وبالقرآن الكريم
ومبادئ الحرية والعدل وغياب الوساطة بين المسلم وربه، فالصراع مع العثمانيين وحصار
فيينا، والقوة الدولية للعثمانيين في ذلك العصر؛ جعلت كثيرًا من المفكرين
والمسيحيين يتَّجهون بأنظارهم إلى العالم الإسلامي؛ لمعرفة سر قوة المسلمين، وهو
أشبه بما حصل للمسلمين في بداية القرن الماضي حين بدأوا يتجهون بأنظارهم إلى أوروبا
لمعرفة سرّ تقدم الأوروبيين. فقد قرأ لوثر القرآن في ترجمته اللاتينية التي نُشرت
لأول مرة في عصره، بل قام بنفسه بكتابة مقدمة للترجمة بالتعاون مع راهب مسيحي آخر،
قال فيها: «إن القرآن لا يَعترف بالمسيح كابن الله، أو مُخلِّص العالم، أو أنه مات
من أجل خطايا البشر».
لقد قرأ لوثر القرآن في ترجمته اللاتينية التي أنجزها القس والدبلوماسي البريطاني
«روبير الكيتاني» الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وقضى فترة طويلة في
إسبانيا، وتعرَّف على الإسلام، وقام لوثر بنفسه بكتابة مقدمة للترجمة بصحبة راهب
آخر، ولذلك فقد كانت لديه رؤية عامة عنه.
وفي رسالته تلك نجده يعتبر بأن القرآن هو «العقيدة الأساسية لإيمان الأتراك، وفيه
تجتمع كل الأحقاد والأخطاء والشياطين مرة واحدة»، ويقرّ بأن القرآن «يُشيد بالمسيح
ومريح كثيرًا جدًّا، ويعتبر أنهما وحدهما كانا بلا خطيئة، ولكنه لا يؤمن بأي شيء
آخر يتعلق بالمسيح ما عدا أنه نبيّ مقدّس مثل إرميا أو يونس، ويرفض أن يكون ابن
الإله أو إلهًا حقيقيًّا. وأكثر من ذلك لا يؤمن بأن المسيح هو مُخلِّص العالم، وأنه
مات من أجل خطايانا».
كما تعرَّف لوثر على الإسلام من خلال كتابين كانا رائجين في عصره، وهما كتاب القس
الألماني نيكولا الكوزاني (1401- 1464م) وعنوانه «تأملات في القرآنيين»، عن الإسلام
والمسلمين، وكتاب القس الإيطالي ريكولدو دي مونتي (1243-1320م) بعنوان «صراع مع
المسلمين والقرآنيين».
ولذلك فإن عددًا من المبادئ التي نادى بها كانت قريبة من الإسلام؛ مثل: رفض شفاعة
الكنيسة والوساطة بين الله والبشر، وحرية استعمال العقل، وفكرة الإرادة الإنسانية.
غير أن لوثر والإصلاحيين البروتستانت تعرفوا على الإسلام والقرآن في عصرٍ اتَّسم
بروح الحروب الصليبية والصراع مع العثمانيين، مما خلَّف لديهم حقدًا على الإسلام
والمسلمين رغم إيمانهم بتفوق الإسلام على المسيحية؛ حيث رأوا أن تفوق العثمانيين
راجع إلى قوة الإسلام كدين، هذا فضلاً عن أنَّ بعض الرحّالة الأوروبيين الذين كانوا
يزورون البلدان العربية والإسلامية كانوا يرجعون بتقارير عن الحريات الدينية عند
المسلمين وجودة المدارس وسيادة النظام وتحرّر الفقهاء وموقع المرأة في المجتمع، وهو
ما جعَل الإصلاحيين المسيحيين يهتمّون اهتمامًا كبيرًا بالقرآن وبحياة النبي محمد
-صلى الله عليه وسلم-.
ونحن نقول: إنه لو كان العصر مختلفًا عن ذلك العصر لربما اعتنق لوثر والإصلاحيون
الإسلام بدلاً من محاولة إصلاح الديانة المسيحية غير القابلة للإصلاح، ولكنَّ روح
العداء الصليبي غلبت عليهم، فقد اعتنق كثير من المسيحيين الإسلام بعدما تعرَّفوا
عليه كما تعرف عليه لوثر وغيره، وبعدما عرفوا أنه الدين الخالص الذي ارتضاه الله
للبشرية، ولم يفكروا كما فكر لوثر والإصلاحيون في تغيير المسيحية؛ لأن المسيحية
مهما تعرَّضت للإصلاح فلن تكون دينًا عند الله.
ولو أن لوثر وكالفن عاشا في زمن غير ذلك الزمن المشحون بالصراع بين الإسلام
والمسيحية؛ لربما اعتنقا الإسلام بعد الاطلاع عليه، لذلك فإن محاولة تشبيه الإصلاح
الديني في الإسلام بما حصل في البروتستانتية هي محاولة غير علمية وغير مدروسة؛ وذلك
لأن القضايا التي رفع البروتستانت أصواتهم في أوروبا من أجل معالجتها هي القضايا
ذاتها التي حسمها الإسلام قبل ذلك العصر باثني عشر قرنًا.
لقد نزل القرآن الكريم بعد التحريف الذي طال الديانتين اليهودية والمسيحية، وعملية
التزوير التي تعرَّضت لها التوراة والإنجيل، وهذا يعني أن الإنجيل الذي درسه لوثر
في الكنيسة هو الإنجيل نفسه الذي انتقده القرآن الكريم قبل اثني عشر قرنًا وكشف
تحريفاته، وسلطة رجال الدين الذين تمرَّد عليهم لوثر وجون كالفان وغيرهما من
البروتستانت هي السلطة ذاتها التي هاجمها القرآن؛ لأنها استعبدت الناس باسم الدين؛
إذ قال الله -سبحانه وتعالى- في النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَّا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:
31]،
أما صكوك الغفران التي ثار عليها لوثر واعتبرها غير جائزة وظلمًا للمسيحيين باسم
الإنجيل فهي نفسها التي قال فيها القرآن قبل قرون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:
34].
وبيَّن الله -سبحانه وتعالى- أنه ليس هناك شفيع إلا مَن أذن الله له بذلك، وكان في
هذا ردّ على الكنيسة المسيحية التي كانت تبيع تلك الصكوك لعتق الناس من الجحيم كما
تزعم، وتُبشِّر المسيحيين بشفاعة المسيح ومريم -عليهما السلام- والقديسين، فقال عز
من قائل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن
وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: ٤].
وفيما يتعلق باحتكار الكنيسة ورجال الدين لتفسير الإنجيل، ودعوة لوثر إلى إعطاء نفس
الحق لجميع المسيحيين؛ فإن القرآن الكريم دعا قبل ذلك إلى تدبُّر آياته، ولم يربط
ذلك بأيّ سلطة مرجعية لها القول الفصل في القرآن، فقال تعالى: {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:
24].
وقد رفض لوثر والبروتستانت فكرة الخلاص الموجودة في الإنجيل وتفسيرات الكنيسة لها،
وأن الخلاص يكون على يدها، وقال: إن العمل الصالح وحده هو سبب الخلاص بالنسبة للفرد
المسيحي، وهذه هي الفكرة التي رفضها القرآن الكريم من قبل، وربط النجاة والخلاص
بالعمل الصالح، فقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ
كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:
107]،
فعلَّق القرآن نجاة الإنسان في الآخرة بالعمل الصالح لا بأيّ سلطة دينية.