بقدر ما انتظم المجتمع المدني الفلسطيني في حركة جماهيرية واحدة، قيادة سياسية، شعب، نقابات، أحزاب وجمعيات، لمواجهة قوات الاحتلال؛ فإنه تميَّز عن غيره من التجارب بإبراز قوته واعتزازه بهويته السياسية في إطار حركةٍ تسعى للاستقلال وإبراز الهوية الوطنية الفلسطين
حينما يتم تداول مصطلح «المجتمع المدني»، فغالبًا يُفهَم المعنى في سياق التحولات
الفكرية والسياسية التي أنتجت هذه المجتمع، فهذا المصطلح، الذي كان جزءًا من
الموروث الاستشراقي الغربي في المنطقة؛ يشير بصورة واضحة إلى قوة المجتمع التي تسير
في خطّ مُوازٍ مع قوة الدولة، لذلك يختلف استخدام هذا المصطلح في كل مجتمع بحسب
الفكر والممارسة والتربة التي زُرع فيها.
ففي فلسطين تشكَّل المجتمع المدني نتيجةً لمراحل مختلفة من الاستعمار والاحتلال،
وكان على كاهل المجتمع المدني أن يقوم ليس فقط بتحمُّل مسؤوليته كسلطة موازية لسلطة
الدولة، بل سلطة متصادمة مع سلطة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
وأكثر التكتلات وضوحًا في مكونات المجتمع المدني الفلسطيني هي منظمات القطاع
الثالث، وتضم 4616 منظمة، بواقع 42% في الضفة، و31% بقطاع غزة، و14% خارج فلسطين،
و11% في القدس، و2% في الأراضي المحتلة العام 1948م، وتُصنَّف حوالي 60% على أنها
منظمات «قاعدية» أو «مساندة ذاتية».
ونظرًا لخصوصية القضية الفلسطينية تتنوع الممارسات التي تقوم بها منظمات المجتمع
المدني الفلسطيني، وتنقسم في تلوّنها السياسي، فهناك مؤسسات مجتمع مدني تتبع الحركة
الإسلامية، وتختص في الإغاثة الطبية ورعاية شؤون أُسَر الشهداء والأسرى وإغاثة
الأُسَر الفقيرة والأيتام، وهناك مؤسسات قطاع مدني تتبع تكتلات اليسار، وتنشط في
القطاع الطبي والإغاثي والتعليمي، وهناك أيضًا منظمات دولية مثل وكالة غوث وتشغيل
اللاجئين، والتي تقدم خدمات التعليم والعلاج والمساعدات الإغاثية للاجئين
الفلسطينيين.
في سنة 1979م، تمَّ تأليف أولى لجان الخدمات الطبية الطوعية على يد أطباء متطوعين
فلسطينيين، كان الهدف المُعلَن لهم تقديم الخدمات الطبية المجانية، أو زهيدة الثمن،
إلى سكان المناطق المحرومة في القرى ومخيمات اللاجئين.
لكنَّ التأثير الاجتماعي السياسي كان في تجنيد عدة مئات من العاملين في المجالات
الصحية، وتنظيمهم حول برنامج متكامل للعون الصحي التطوعي. وقد جاءت هذه المبادرة،
في أصالتها ودقة تجاوبها مع الحاجات المحلية، لتكون بدايات لنظام صحي بديل من
البرامج التي تشرف عليها سلطة الاحتلال. ومع أن العمل التطوعي تنامَى ببطءٍ؛ إلا أن
الشبكات المؤسسية للعمل الصحي المدني أصبحت تَعُمّ مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع
غزة.
وبالإضافة إلى المؤسسات المحلية، تنشط أيضًا، كجزء مهم في المجتمع المدني
الفلسطيني، المنظمات الدولية المستقلة؛ مثل: الإغاثة الإسلامية، والندوة العالمية
للشباب الإسلامي، وأطباء بلا حدود، وأوكسفام، وغيرها من المنظمات التي تركز على
مشاريع إغاثية تساهم في دعم صمود الفلسطينيين.
وبقدر ما انتظم المجتمع المدني الفلسطيني في حركة جماهيرية واحدة، قيادة سياسية،
شعب، نقابات، أحزاب وجمعيات، لمواجهة قوات الاحتلال؛ فإنه تميَّز عن غيره من
التجارب بإبراز قوته واعتزازه بهويته السياسية في إطار حركةٍ تسعى للاستقلال وإبراز
الهوية الوطنية الفلسطينية والحفاظ عليها، وهذا الأمر برزت أهميته بالتوازي مع ضعف
السلطة الفلسطينية وتخلّيها عن مسؤولياتها بسبب ارتهانها للدعم الغربي الذي يَفرض
عليها الالتزام باتفاقات أوسلو وصنع فجوة كبيرة بينها وبين المجتمع المدني
الفلسطيني جعلت تأثيره أكبر على المجتمع، خصوصًا في الأزمات مثل حرب طوفان الأقصى.
كشفت الحرب الأخيرة، بصورة أوضح، الهوة ما بين الشعب ونُخبته السياسية، وكشفت أن
السلطة لا تستطيع أن تحمي الشعب من التسلط الصهيوني، وأن مؤسسات المجتمع المدني
قوتها تكمن في تطرف مواقفها ضد الاحتلال وقدرتها على نَسْج علاقات خارجية أبعد
بكثير من المسارات التي تسلكها القيادة السياسية الفلسطينية، ولذلك نجحت في أن تكون
العنوان الأبرز للإغاثة والدعم لمتضرري الحرب على قطاع غزة.
فوفقًا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) -التي فقدت 142 عنصرًا
من كوادرها في الحرب على غزة- فإن ما يقارب من 90 في المائة من سكان القطاع
تعرَّضوا للتهجير القسري، ويفتقرون للحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية؛ لم تنجح
السلطة الفلسطينية حتى في تمثيل عدالة قضيتهم السياسية.
لذلك منذ بداية نزوح السكان في المنطقة الوسطى ومنطقة المواصي غرب خانيونس ورفح
جنوب القطاع؛ أخذت العديد من مؤسسات المجتمع المدني على عاتقها توفير المواد
الإغاثية والغذائية والطبية للنازحين من خلال إقامة مراكز ميدانية في أماكن تمركز
مخيمات النازحين.
إحدى المبادرات الفردية التي تظهر فاعلية المجتمع المدني تم رصدها في مدرسة المتنبي
الثانوية شرق خانيونس، وهي مدرسة استوعبت أكثر من 4000 نازح من شرق خانيونس وشمال
قطاع غزة، ورفض النازحون فيها الخروج إلى مناطق النزوح التي حددتها قوات الاحتلال
الصهيوني منذ بداية الهجوم على المدينة؛ فقد انتدب النازحون فيها فريقًا من
المتطوعين الشباب الذين قاموا بالتواصل مع المؤسسات الإغاثية بصورة يومية وبلدية
عبسان الكبيرة التي تقع تحت طائل مسؤوليتها المدرسة المذكورة، وقد نجحوا في توفير
الاحتياجات الإغاثية للاجئين من مياه للشرب وعلاجات، وكذلك نجحوا في إعداد وجبات
يومية للنازحين، بل أيضًا ساهموا بشكل كبير في مساعدة السكان العالقين في منازلهم
شرق خانيونس.
ولا شك أن لكل ذلك ثمنًا باهظًا؛ حيث قدمت هذه المدرسة أكثر من 15 شهيدًا أثناء
محاولتهم القيام بدورهم الإنساني والإغاثي ونقل الأدوية والأغذية إلى المدرسة؛ فقد
كانت طائرات الاستطلاع الصهيونية ترصد أيّ حركة للنازحين خارج أسوار المدرسة وتقوم
بقصفهم، لذلك كانت عمليات الإغاثة قائمة بصورة كبيرة على مُخاطرة عالية في مناطق
الاشتباكات لا تقل عن أداء المقاتلين في الميدان.
لذلك يمكن القول: إن مكوّنات المجتمع المدني الفلسطيني قامت بحماية ثغر مُهمّ
وحيويّ خلال المعركة، فحينما سقطت مقومات الدولة وقدرتها على تقديم العون للسكان
بسبب همجية القصف الصهيوني؛ ظهرت قوة المجتمع المدني وأهمية تماسكه، وأهميته ليس
كقطاع أهلي فقط، بل قوة سياسية مارست دورها بفاعلية في الحرب، لذلك لو تتبَّعنا
التاريخ الفلسطيني؛ سنجد أن الاحتلال الصهيوني حارب الكثير من المؤسسات المدنية
الفلسطينية ونشطاء المجتمع المدني بصورة كبيرة، ومنهم مَن تعرض للاعتقال؛ ففي أغسطس
2022م أغلق الجيش الصهيوني 6 مؤسسات إغاثية أهلية؛ بزعم أنها منظمات إرهابية!