نجد أن ابن مسعود -رضي الله عنه- تفنَّن في أسلوب خطابه، واستعمل استفهام الترغيب والتعظيم، وهو استفهام يُرَاد منه تعظيم الشيء والترغيب فيه، وهذا التفنُّن كي تؤتي هدايته ثمرتها في القلوب؛ ترغيبًا إلى الجنة وشحذًا للهمم
أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- في قوله تعالى:
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]؛ قال: «قد
أُخْبِرتُم بالبطائن، فكيف لو أُخْبِرتُم بالظواهر؟!»[1].
وقد ذكر هذا الأثر أيضًا: مكي بن أبي طالب والواحدي والسمعاني والبغوي والقرطبي
وابن كثير، وغيرهم[2]،
ويُستدل له بقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وفي حديث أبي
هريرة -رضي الله عنه- وهو حديث قدسي: قال: «قال الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا
عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر»[3].
ويأتي هذا الأثر مُقرِّرًا منهجية بديعة عند السلف الصالح في التأمل في كتاب الله،
وهي الشمولية في النظر لجميع آيات القرآن الكريم؛ حيث رسم منهجية مهمة في تدبُّر
آيات الغيب وأخبار الجنة وصفة نعيمها من غير شطَط ولا تكلُّف بوصف استفهاميّ يشمل
جميع صفات الجنة ونعيمها وأوصافها؛ من خلال النظر والتأمل ولفت الانتباه، فازدان
الأثر بالهدايات الوعظية المؤثرة الزائدة على مجرد بيان المعنى فحسْب.
كما أنَّ في هذا الأثر لفتة جميلة للمتأملين؛ وذلك بأنه لا يلزم من التدبُّر تزويق
الكلام وتطويله؛ بل أبلغ التدبُّر ما تدثَّر بإيجاز ووضوح في العبارة وسهولة في
اللفظ لتبلغ فائدته عوامّ المسلمين قبل نُخَبهم وخواصّهم، وهذا ما يُميِّز تدبُّرات
السلف عن غيرهم، فإن على كلامهم نورًا وبركة، مع إيجاز وتأثير.
والمتأمل في مقصود الأثر؛ يجد أنه يريد بذلك الحثّ وتحريك الأشواق للجنان؛ شوقًا
وحرصًا وعملاً، يقول الغزالي -رحمه الله-: «تأثُّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة
الآية المتلوة... وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقًا إليها»[4].
وأيضًا استنهاضًا لهِمَم المؤمنين في السعي للجنة، والتنافس إليها، وحراسة لقلوبهم
من التعلُّق بنعيم الدنيا.
ومن أجل ذلك، نجد أن ابن مسعود -رضي الله عنه- تفنَّن في أسلوب خطابه، واستعمل
استفهام الترغيب والتعظيم، وهو استفهام يُرَاد منه تعظيم الشيء والترغيب فيه، وهذا
التفنُّن كي تؤتي هدايته ثمرتها في القلوب؛ ترغيبًا إلى الجنة وشحذًا للهمم.
نسأل الله الكريم من فضله.
[1] تفسير الطبري (22/243).
[2] ينظر: تفسير مكي (11/7235)، الوسيط للواحدي (4/226)، تفسير السمعاني (5/334)،
تفسير البغوي (4/341)، تفسير القرطبي (17/179)، تفسير ابن كثير (7/503).
[3] أخرجه البخاري، رقم الحديث (7498)، وأخرجه مسلم، رقم الحديث (2824).
[4] إحياء علوم الدين، الغزالي (1/285-286).