• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أيديولوجيا اللغة  اللسانيات الاستعمارية نموذجًا

إن أيديولوجيا اللغة محطّ اهتمام دارسي اللغة وكذلك دارسي الحياة الاجتماعية؛ لأن المعتقدات الدائرة حول ما هي اللغة وكيف تعمل يمكن لها أن تمس اللغة مثلما تمس العلاقات الاجتماعية بين المتكلمين.


 

يهدف المقال إلى توضيح مفهوم أيديولوجيا اللغة؛ من خلال إبراز الكيفية التي ترتبط بها معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي ينتمي إليها أفراد المجتمع؛ في محاولة للتعرُّف عليها واستكشافها لتحديد مضامينها الفكرية والأيديولوجية؛ حيث ترتبط أيديولوجيا اللغة بالافتراضات الصريحة والضمنية للغةٍ ما بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.

لقد عُرّفت الأيديولوجيات اللسانية، وأيديولوجيات اللغة؛ على أنها: «مجموعة من المعتقدات عن اللغة التي يُجيدها المستخدمون كوسيلة لعملية العقلنة أو التبرير لبنية استخدام لغوي مُدرَك، مع تأكيدات اجتماعية قوية على أنها تُشكِّل أفكارًا وأهدافًا مؤكدة لذاتها لدى مجموعةٍ ما بخصوص أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية للأفراد، وهم يسهمون في التعبير عن المجموعة»، وهي «عبارة عن النظام الثقافي لرؤًى عن العلاقات الاجتماعية واللسانية، إضافةً إلى حمولتها من الاهتمامات الأخلاقية والسياسية»، وتُوصَف بشكل واسع جدًّا بأنها «مجموعة أفكار مشتركة من الذوق العام حول طبيعة اللغة في العالم». وتأتي الاختلافات البارزة بين هذه التعاريف من الجدل حول مفهوم الأيديولوجيا نفسه.

تعتبر الأيديولوجيا من الألفاظ التي توجد لها تعريفات متعددة، وذلك باختلاف الأبعاد التي ينظر الباحث أو الناقد منها لهذا المصطلح، فيرى بعضهم أنها «علم الأفكار» أو معتقد أو مذهب فكري سياسي تعتنقه جماعة بشرية في تصورات وأفكار اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وهي كما بيَّن «العروي» تعني بالفرنسية عِلْم الأفكار، ويرى أنها ترتبط بأشياء متعددة وارتباطها بهذه الأشياء هو الذي يحدد دلالتها، فمثلًا عندما يدرس الباحث أيديولوجيا عصر من العصور فإنما «يدرس الأفق الذهني الذي كان يجسِّد فِكر الإنسان في ذلك العصر»، بالإضافة إلى معنى عبارة فلان يملك نظرة أيديولوجية للأشياء فهي تعني «أنه يتخيّر الأشياء ويؤول الوقائع بكيفية تُظهرها دائمًا مطابقة لما يعتقد أنه الحق»، وكذلك لها معنى مرتبط بالرؤية الكونية، ويقصد بها «مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون».

ويمكن تعريفها بأنها «نظام من الأفكار التصورية يكمن خلف السلوك الاجتماعي أو الثقافي (الديني، أو الأدبي أو الفني أو الفكري أو السياسي... إلخ)؛ ليوجّهه، ويحدّد مساره، وطبيعته، وهدفه في الحاضر والمستقبل معًا. الأمر الذي يُتيح الحديث عن: أيديولوجيا سياسية، أو أيديولوجيا اجتماعية، أو أيديولوجيا تسكن أعماق الأدب والفن».

فالأيديولوجيا باختلاف أنماطها وتعريفاتها يمكن أن ترتبط بالأدب؛ لأن الأدب يُعبِّر عن الأفكار فهو إنتاج أيديولوجي، بل إن النص الأدبي يعمل على تنظيم الأيديولوجيا ويعطيها شكلًا ودلالات متميزة؛ لأن النص الأدبي يتميز بصياغته الأدبية والفنية لهذه الأيديولوجيا مما يُضفي عليها أبعادًا وظلالًا مختلفة ومتنوعة، بالإضافة إلى هذا، فإن الأدب يُعبِّر فيه الأديب عن موقفه من المجتمع ومن الحياة الاجتماعية من حوله.

وعلى العموم، تُعبِّر الأبحاث في هذا السياق عن آراء العلماء عن الأيديولوجيا: ابتداءً من المفاهيم التي تبدو كما لو أنها محايدة ثقافيًّا للغة وصولًا إلى الإستراتيجيات المُستخدَمة لصيانة القوة الاجتماعية، ومن قراءة لا واعية للأيديولوجيات المتصلة بالممارسات الكلامية من طرف مُحلِّلين إلى الشروح الأكثر وعيًا عن اللغة؛ أي لما يُعدّ سلوكًا لغويًّا مناسبًا. وما يشترك فيه معظم الباحثين، وما يجعل المصطلح مفيدًا رغم كل مشاكله هو النظر إلى الأيديولوجيا على أنها متجذّرة فيها ومسؤولة عن تجربة موقف اجتماعي خاصّ، وهو أمر تُظهره تعاريف هيث وأرفين. ولا يُلغي هذا الاعتراف بالاشتقاق الاجتماعي للتمثيل إذا ما أخذنا في اعتبارنا أنه لا توجد معرفة امتيازية، بما في ذلك المعرفة العلمية التي تتهرب أو تتعالى على الهبوط إلى الحياة الاجتماعية، ولكن مع كل ذلك يشير مصطلح الأيديولوجيا إلى أن المفاهيم الثقافية التي ندرسها هي مفاهيم جريئة يجب تفنيدها، وهي حاملة لأهداف ومصالح خفية. والحركات المطبّعة التي تمتصّ المفاهيمي من محتواه التاريخي، وتجعله يظهر كحقيقة كونية، غالبًا ما تُرَى على أنها مفتاح العملية الأيديولوجية.

بذلك، تتصل أيديولوجيا اللغة بالطرق التي يتم بها تصوّر اللغة، ويُعتقَد أنها تُعبّر بها عن مَناحٍ أخرى من الحياة الاجتماعية. فالمعتقدات المتمحورة حول علاقة اللغة بالواقع وكيفية عمل الاتصال، وحول السلامة اللغوية، والخير والشر، والفصاحة والعي، تمثّل، كلها، جوانب من أيديولوجيا اللغة، مثلها مثل المعتقدات المتعلقة بدور اللغة في تشكيل كينونة الفرد والمعتقدات الدائرة حول كيف تم تعلم اللغة وتلك المنصبّة على ما هي الوظائف التي ينبغي أن تكون للغة، وما هي السلطات المسؤولة عن اللغة، وكيف ينبغي تقنين استخدام اللغة، وما إلى ذلك.

إن أيديولوجيا اللغة محطّ اهتمام دارسي اللغة وكذلك دارسي الحياة الاجتماعية؛ لأن المعتقدات الدائرة حول ما هي اللغة وكيف تعمل يمكن لها أن تمس اللغة مثلما تمس العلاقات الاجتماعية بين المتكلمين. لقد سبق لأيديولوجيا اللغة أن بُحثت في سياق الأنثروبولوجيا اللغوية[1]linguistic anthropology  كما أن علماء اللسانيات الاجتماعية sociolinguists اهتموا أيضًا بالكيفية التي تؤثر بها المعتقدات حول اللغة على الخيارات التي يتبناها المتكلمون. فالبحث في مجال أيديولوجيا اللغة يظهر كيف أن الخيارات اللغوية والتغير اللغوي تتأثر بتصور الناس عن اللغة واستعمالها، ويكشف عن توزع عمليات صياغة المفاهيم السائدة حول اللغة ووظائفها والنضال من أجل ترسيخ المفاهيم معينة.

والحقيقة، أن قواعد اللغة كانت وما زالت وستظل إحدى القوى التي ساعدت على تطور الكائنات البشرية وتطور قدرتهم على التفكير وتنظيم الحياة الاجتماعية وتحقيق درجة التقدم التي عليها الإنسان حاليًّا، فهي تُعتبر أعظم اكتشاف عرفه الإنسان على مر العصور، وهي أبرز ما يميزه عن بقية الكائنات، وكما يقول الفيلسوف الألماني ويلهم همبولت Wilhelm Von Humboldt (1767-1835): «إن الإنسان لسان». فعلى مَنْ يريد دراسة الإنسان أن يسعى إلى دراسة لغته باعتبارها إحدى وسائل نشاطه العلمي والفكري والاجتماعي. لذا تعتبر الأنثروبولوجيا اللغوية أهم أنواع الأنثروبولوجيا العامة. وسيظل تاريخ اللغة والانثروبولوجيا اللغوية مجالًا رحبًا نتصفح من خلاله تاريخ الحضارات الإنسانية، فبفضل اللغة تكونت الجماعات والأمم المختلفة، وكانت من أقوى الروابط بين أفراد تلك الجماعات ورمزًا لحياتهم المشتركة، فالأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة معزولة عن سياقها الاجتماعي، وإنما هناك علاقات متبادلة بين اللغة والثقافة والممارسات الاجتماعية المختلفة.

يبدو أن طبيعة بنية الأيديولوجيا المتفاعلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية، وعلى مختلف أشكال تلك البنية وتحولاتها بين كلٍّ من: اللغوي واللساني والثقافي، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة ومُعدَّة سلفًا؛ لأن هناك «منطقًا منظوريًّا» يُشكل طبيعة ذلك التداخل، ويتشظى بين أصغر وأدقّ مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللا واعية. ومثل تلك «الممارسات المنظورية» المنشطِرة في بنية الحياة اليومية والقيّمية لأنطولوجيا «الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية»، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية، في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة ميتافورية (مجازية) أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة لمفهوم الأيديولوجيا مع كل من: تحليل الخطاب النقدي وفلسفة اللسانيات. 

بالمقابل، تعرض أيديولوجيا اللغة كيف ترتبط معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية الثقافية الأوسع التي ينتمي إليها الفرد، عند التعرف عليها واستكشافها، لإيضاح كيف تتشكل معتقدات اللغة بهذه النظم؛ حيث تربط أيديولوجيا اللغة الافتراضات الصريحة والضمنية حول اللغة أو اللغات عمومًا بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.

يعرف آلان رومسي أيديولوجيا اللغة بأنها: «مجموعة من المفاهيم الدارجة حول طبيعة اللغة في العالم». ويرى كروسكريتي أن هذا التعريف غير مكتمل؛ لأنه «يفشل في التأطير لإشكالات التباينات الأيديولوجية للغة، وبالتالي يعزز رؤية متجانسة عن الأيديولوجيات اللغوية خلال المجموعة الثقافية».

يؤكد مايكل سيلفرستين على دور وعي المتحدث في التأثير على بنية اللغة، ويُعرِّف الأيديولوجيا اللغوية بقوله إنها: «مجموعة من المعتقدات حول اللغة، يُشكِّلها المستخدم، بوصفها تبريرات عن بنية اللغة المتصورة واستخدامها». كما تشمل التعريفات التي تؤكد على العوامل الثقافية الاجتماعية وصف شيرلي هيث لأيديولوجيا اللغة بأنها «أفكار جلية، وأهداف يؤمن بها عدد من الناس، تخصّ أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية لأعضائها، عندما يساهمون في التعبير عن الجماعة». بينما يُعرِّف جوديث إرفين المفهوم باعتباره «نظامًا ثقافيًّا» من الأفكار عن العلاقات اللغوية والاجتماعية، بمضمونها الأخلاقي والسياسي من الاهتمامات. بذلك تشكل أيديولوجيا اللغة مجموعة الآراء والمعتقدات والأفكار التي تتمحور حول اللغة والتي تنتشر بين أفراد المجتمع الذين يمكنهم توظيفها للتأثير في السياسات العامة للدولة؛ بهدف المحافظة على الوضع الراهن، أو بهدف تغيير هذا الوضع في اتجاه آخر.

وفيما يتعلق بالمقاربات النظرية لدراسة أيديولوجيا اللغة نجد أنها تنقسم إلى مقاربتين أساسيتين: المقاربة النقدية والمحايدة؛ حيث تنص المقاربة المحايدة على أن معتقدات المتحدث وأفكاره عن اللغة تتشكل بالنظم الثقافية المنغمس فيها، دون محاولة التعرف على التباينات خلال هذه الأنظمة أو عبرها. وبالتالي سيتم الكشف عن أيديولوجيا واحدة في تلك الحالات غالبًا، ومن الأمثلة الشائعة على المقاربات المحايدة لأيديولوجيا اللغة، وصفها بأنها ممثلة لمجتمع كامل أو ثقافة، مثل تلك المدرجة في البحوث الإثنية. بينما تسعى المقاربة النقدية إلى الكشف عن قدرة اللغة والأيديولوجيا اللغوية، في توظيفها استراتيجيات تحافظ على السلطة الاجتماعية والهيمنة؛ حيث تصف كاثرين وولارد وبامبي شيفلين هذه المقاربات باعتبارها دراسات عن بعض جوانب التمثيل والإدراك الاجتماعي، بأصول اجتماعية معينة أو صفات وظيفية وشكلية. تنتشر تلك الدراسات في مناقشات سياسة اللغة والتداخل بين اللغة والطبقة الاجتماعية، والصراع الأيديولوجي والاجتماعي.

يطرح عدد من الأكاديميين أن الأيديولوجيا تلعب دورًا في تشكيل البنية اللغوية والتأثير عليها، وتكوين أشكال الحديث. يرى مايكل سيلفرستين أن وعي المتحدث باللغة وتبريراته عن بنيتها واستخدامها لهما أثرٌ حرج في تشكيل بنية اللغة وتطورها. وطبقًا له، تمهِّد أيديولوجيا المتحدث عن اللغة إلى التباينات الحادثة، بسبب الوعي المحدود ببنى اللغة، ما يؤدي إلى تنظيم أي تباين مبرر بأي أيديولوجيا سائدة أو منتشرة ثقافيًّا؛ حيث ينتشر في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال ضمير المذكر هو (He)، على سبيل المثال، للاستخدام العام دون معرفة جنس المتحدث، وقد فُهِم هذا الاستخدام على أنه رمز للمجتمع الذكوري الأبوي، وارتفعت الأصوات المعارضة لهذه الحالة مع صعود الحركة النسوية، للمطالبة بالكفّ عن استخدام (He) لصالح (He or She) وتعني «هو أو هي». بُرِّر رفض «هو العامة» بالرغبة المتصاعدة لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، بعد أن عمَّت تلك الحركات ثقافيًّا بما يكفي لإحداث هذا التغيير.

وفيما يتعلق باللسانيات الاستعمارية التي تحمل مضامين أيديولوجية؛ فقد أكد نبريجا عالم النحو الإسباني الذي عاش في القرن السادس عشر بأن «اللغة كانت رفيقة الإمبراطورية على الدوام»، وهناك بعض الأبحاث الحديثة المثيرة حول أيديولوجيا اللغة تتبع بشكل واضح وجود صلات بين الأشكال اللسانية والأيديولوجية والاجتماعية، ومعظم هذه الدراسات تصدر عن دراسة الظاهرة الاستعمارية. إذ لم يكن واضحًا دومًا أيّ لغة كانت تُستخدَم في الإدارة الاستعمارية؛ ذلك أن لكل اختيار دوافعه الأيديولوجية المستترة ونتائجه العملية؛ فعلى سبيل المثال قد تختار لغة المستعمرين لهجة بعينها ضمن نسخ مشوهة غير محلية أو أهلية؛ فيغدو تكلم اللهجة بطريقة كارثية. كما اقتضى التنصير والاستعمار الأوروبي لقارات أخرى السيطرة على المتكلمين وعلى لهجاتهم. ولقد عالج بحثٌ حديثٌ حول الوصف والترجمة اللسانية الاستعمارية البُعْدَ الأيديولوجي للمعاجم والنحو وكتب اللغة والتوضيحات؛ تلك التي ظُنَّ لزمنٍ طويلٍ أنها أعمال علمية محايدة؛ لكنها كانت عملًا سياسيًّا محضًا.

وفي المقابل يسميه مينجولو (استعمار اللغة)؛ حيث استقدم الأوروبيون لإنجاح مهمتهم أفكارًا شائعة عن اللغة في المركز الحضري، وهذه الأفكار، التي هي نفسها تتغير في لحظات تاريخية مختلفة، أعمتهم عن المفاهيم الأهلية والتدريبات اللسانية الاجتماعية. وكما هو الحال في العديد من الظواهر الاستعمارية؛ أقام اللسانيون تنوعات متميزة بدلًا من أن يكتشفوها. ويؤكد فابيان ذلك فيما يخص اللغة السواحلية، وهاريس فيما يخص لغة تسونغا (إحدى اللغات المُتحدَّثة في جنوب إفريقيا). ويرى كوهن أن النحو والقواميس والترجمات البريطانية للغات الهند دعّمت خطاب الاستشراق، وحوَّلت صِيَغ أو أشكال المعرفة الهندية إلى أشياء أوروبية. وعادةً ما يكون للبنية اللسانية المُستوعَبة معنًى سياسيّ مستتر في المواجهة الاستعمارية. وغالبًا ما أُشير إلى العجز الوظيفي أو الصوري للغات الأهلية-المحلية، ومِن ثَم عَجز العقل أو الحضارة المحلية عن تبرير الهيمنة الأوروبية. وبفضل الوثائق التاريخية كان بإمكان هذا البحث التاريخي أن يستكشف الأيديولوجيات اللسانية للمستعمرين بدلًا من السكان الأصليين أو المحليين. لكنَّ بعض الأبحاث تسعى إلى توضيح تناقضات وتفاعلات الاثنين. وتشير ما وراء تداوليات لغة التونغا (تونغا أو رسميًّا مملكة تونغا هي أرخبيل يضم 176 جزيرة متناثرة على مساحة قدرها 748 كم2 بقرب من خندق تونغا في جنوب المحيط الهادئ) لمستويات الكلام إلى إمكانية إعادة تحليل مجتمع دَمْج مركبات مؤسسية ذات أصول أوروبية إلى بنى التراتبية التانغوية الاجتماعية.

وفي سياق متّصل نجد أن لغتنا العربية ليست بمنأى عن ذلك؛ حيث يسود قلق عربي حديث عن اللغة العربية بحُلّتها الفصحى، أو لعله من الأفضل أن نقول، بحُلّتها الفصيحة، ويتجلى هذا القلق بمقولات شتّى يمكن إيجازها بشعارين اثنين: اللغة العربية في خطر داهم، من ناحية، واللغة العربية تعاني من التكلس الشديد أو الجمود الذي لا جمود بعده، من ناحية أخرى.

إن المتابع لهذه القضية لطالما قرأ أن هناك «حربًا» على اللغة العربية تهدّدها من الخارج، بفعل قوى أجنبية تتطاول عليها، باعتبارها وسيلة ترمز للهوية العربية والإسلامية. وحتى تفعل هذه القوى فعلتها، فإنها تلجأ إلى استدراج بعض أبناء هذه اللغة لتجعل منهم معاول هدم في أيديها؛ إذ يصبحون ويمسون طابورًا خامسًا، يقوّض جذور هذه اللغة-الهوية عن دراية أو من دون دراية.

لعل الأهم من توصيف الأيديولوجيا اللغوية في أي مجتمع هو تفسيرها وربطها بسياقها التاريخي. إن الحديث عن الحروب والمخاطر اللغوية والانتحار اللغوي ظاهرة جديدة في تاريخ الأيديولوجيا اللغوية العربية التي كانت تدور في الماضي حول جمال اللغة العربية وغناها المعجمي وتفوقها على اللغات الأخرى. إذا ما سلمنا بذلك فلا بد أن نقبل بأن عناصر الأيديولوجيا اللغوية الجديدة مرتبطة بحالة الضعف التي يعيشها أبناء هذه اللغة في السياق الحضاري العالمي. لا جديد في هذا التفسير. إنما الأمر الذي أريد أن أشير إليه هو أن القلق اللغوي العربي ليس ظاهرة لغوية في أساسه، بل هو في الدرجة الأولى ظاهرة سياسية تتقمص مظهر اللغة. إن صح ذلك فلا بد أن نقبل إذن بأن أيديولوجيا اللغة العربية مادة تنتمي إلى علوم السياسة والمجتمع، كما تنتمي في الوقت ذاته إلى طلبة اللسانيات. ولا بُدّ أن نقبل أيضًا بأن محاولات التصدي للقلق اللغوي العربي على أنه ظاهرة لغوية بحتة، على شاكلة اللسانيين المحدثين من العرب، قد لا تُؤتي أُكلها ولا تحقق الأهداف المرجوة؛ لأنها تجعل من السياسي والاجتماعي أمرًا لغويًّا يتطلب حلولًا لغوية.

خلاصة القول: أصبحت اللغة والخطاب في الوقت ذاته موضوعات محورية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات؛ مما جعل علماء الأنثروبولوجيا الذين يشتغلون باللسانيات يتحسرون على تهميش هذا المجال العلمي الثانوي بالنسبة للإطار الأرحب لعلم الأنثروبولوجيا الميداني. فموضوع أيديولوجيا اللغة قنطرة ضرورية بين اللسانيات والنظرية الاجتماعية وهي تربط بين الفعل الاتصالي على المستوى الثقافي التفصيلي باعتبارات القوة واللامساواة الاجتماعية السياسية الاقتصادية؛ وذلك لمواجهة العوائق الاجتماعية الكبرى ضد السلوك اللغوي.

وموضوع أيديولوجيا اللغة أيضًا يغدو وسيلة كامنة لتعميق فهمنا الذي يميل إلى أن يكون سطحيًّا أحيانًا للشكل اللساني وتنوعه الثقافي في الدراسات السياسية والاقتصادية للخطاب. وهكذا نجد أن أيديولوجيا اللغة عبارة عن أُطُر مفاهيمية حول اللغات، والمتحدثين، والممارسات الخطابية. وتتأثر أيديولوجيا اللغة، مثل غيرها من الأيديولوجيات، بالاهتمامات السياسية والأخلاقية، وتتشكل وفقًا للإعدادات الثقافية. بمعنى أدق: إن الأيديولوجيا اللغوية هي جملة معتقدات قوم ملقاة على الواقع، ومِن ثَم فهي تؤثر في تصرفاتهم اللغوية.

 

المراجع المعتمدة:

- أبو بكر باقادر: أيديولوجيا اللغة، مجلة علامات، ج27، م7، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة محمد الخامس، الرباط، ذو القعدة 1418هـ - مارس 1998م.

- حنين إبراهيم معالي: البُعد الأيديولوجي في روايتي موسم الحوريات وأبناء الريح وأثره في البناء الفني، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلد: 44، العدد: 1، 2017م.

- حيدر علي سلامة: لغة الأيديولوجيا وأيديولوجيا اللغة... قراءة في تاريخ العلامة المقهور، مجلة سيميائيات، الجزائر، المجلد: 11، العدد: 1، 29/09/2015م.

- محمد أحمد عنب: الأنثروبولوجيا اللغوية - تطور اللغات وتواصل الحضارات، موقع التقدم العلمي، 7 يوليو 2021م.  https://taqadom.aspdkw.com /

- هيئة تحرير الموقع: أيديولوجيا اللغة- Language ideology،  موقع بالعربية، 30 يونيو 2022م. https://bilarabiya.net/26860.html

- ياسر سليمان: «العربية في خطر»... أو الأيديولوجيا اللغوية، العربي الجديد، 12 أبريل 2015م. https://www.alaraby.co.uk

- باربارا جونستون: أيديولوجيا اللغة، ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي، موقع قناة 218، طرابلس (ليبيا)، 23/03/2018م. 

 


[1] تعد الأنثروبولوجيا اللغوية فرعًا من فروع علم الأنثروبولوجيا التي تدرس اللغة ودورها الكبير في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، وهي من العلوم المهمة التي تحاول توثيق وتسجيل اللغات المُهدّدة بالانقراض والاختفاء، وتدرس التأثير المتبادل بين اللغة ومختلف الأنشطة والممارسات الإنسانية الاجتماعية؛ أي تأثير اللغة ودورها في تشكيل المجتمع والثقافة، وكذلك تأثير الممارسات الاجتماعية في اللغة، وازدهارها وأفولها، وحياتها وموتها.

أعلى