كلُّ ما يحدث في أرض بيت المقدس وأكنافه فإنما هو ابتلاء وتمحيص {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}
أسند الطبري إلى قتادة -رحمه الله- في قول الله -تعالى- عن اليهود المحرّفين: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]؛ قال: «فبعث الله عليهم هذا الحيَّ من العرب؛ فهم في عذابٍ منهم إلى يومِ القيامة»[1].
وقد ذكر هذا الأثر أيضًا عبدالرزاق والماوردي وأبو حيان وابن كثير، وغيرهم[2].
ويُستدل له بقوله -تعالى- في سورة الإسراء: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٨].
وتضمّن هذا الأثر حقيقةً ثابتةً في عِلْم الاجتماع البشري والتاريخ الإنساني؛ وهو لزوم العذاب لبني إسرائيل من الإذلال والجزية والهوان والصغار، حتى ذكَر الشوكاني [ت: 1250هـ] حالهم؛ فقال: «وقد كانوا أبقاهم الله هكذا أذلاء مستضعفين مُعذَّبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قُطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم...»[3]. وإذا كان هذا حالهم إبَّان زمن الشوكاني [المتوفى سنة 1250هـ]؛ فإن حالهم في القرون التي سبقته أنكى وأشد ذلًّا.
وتضمن هذا الأثر خبرًا غيبيًّا إلى يوم القيامة، وهو بقاء اليهود في الذل والخوف والهوان مهما أوتوا؛ يقول الشنقيطي [ت: 1393هـ]: «من عادة الله أن يرُدّ لهم الكَرَّة، ويجعلهم أُمّة حتى يكونوا أُمّة، فيُسلّط عليهم مَن يعذبهم؛ ليكون العذاب واقعًا موقعه»[4].
إنَّ هذا الأثر يبث في الأمة روح اليقين والنصر ليكونوا أهلًا لأن يتحقّق فيهم وعود الله -تعالى-، وأن يحذروا من أعداء الرسل المُكذّبين الضالين من اليهود الحاقدين، فلا يأمنوهم على أنفسهم ولا دينهم ولا ديارهم، فإنهم الأعداء الحَسَدة الضُّلَّال، وما فِعْلهم بإخواننا أهل غزة ببعيد؛ مِن قَتل للأطفال والآمنين والتجويع والحصار وقطع إمدادات الحياة عنهم، وكل ذلك يدل على الروح الانتقامية في نفوس هؤلاء القتلة على من خالفهم وخاصة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك القرآن؛ فإن القرآن الكريم تحدّث عن أساليبهم وطرقهم ومعاملتهم قديمًا، وها هي الآن تتجدد في هذه الأحداث التي تجري الآن على أرض غزة، مما يستوجب على المسلمين عامة أن يعلموا أن المعركة قديمة متجددة، وأن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، وأنهم قتلة الأنبياء وأعداء الأتقياء، وأهل الغدر والشقاء، وأنه بصبر المؤمنين وتعاونهم ومُدافعتهم سيندحرون -بإذن الله- أذلةً صاغرين، وستعود الأرض والمقدسات إلى أهلها -بإذن الله تعالى-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ 39 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
إنَّ الذي ينظرُ إلى اليهود بمنظار القرآن فلن يُخدَع أبدًا؛ فالقرآن الكريم يقول: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] ، ومن يتعامل مع هدي القرآن فلن يضل أبدًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
ومَن صدَّق بما في القرآن فلن يتنازل عن حقٍّ أبدًا: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧].
وكلُّ ما يحدث في أرض بيت المقدس وأكنافه فإنما هو ابتلاء وتمحيص {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٤].
هذا هو التاريخ، وهذه دروسه، وتلك هي سُنن الله في الغابرين والحاضرين، فأَبْشِروا وأمِّلُوا، وبدينكم فاستمسكوا، واللهُ -عز وجل- غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] تفسير الطبري (10/531).
[2] تفسير عبدالرزاق (2/94)، تفسير الماوردي (2/273)، تفسير أبي حيان (7/17)، تفسير ابن كثير (3/497).
[3] تفسير الشوكاني (2/296).
[4] العذب النمير، الشنقيطي (4/292).