معالم شرعية لتحقيق اجتماع أهل الإسلام
إن من أكثر ما يحضّ عليه الإسلام اجتماع
الناس على الحق والخير، وهذه دعوة أطلقها القرآن حتى مع المخالفين، فقال تعالى: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]،
وإذا كان هذا مع أهل الكتاب، فالعمل على اجتماع أهل الإسلام على الحق من باب أولى
ويعدُّ من أهم ما يدعو إليه الإسلام كما قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل
عمران: 103]. وكما أمرهم بالاجتماع على
الحق فقد نهاهم عن ضده كمشابهة مَن قبلهم من أهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم وترك
التجمع على الحق، فقال: {وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل
عمران: 105]،
ثم بيَّن براءة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن
فرقوا دينهم وتحزبوا وصاروا شيعاً متخالفين فقال: {إنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]،
فالاجتماع على الحق والعمل به سبب للألفة والجماعة، كما أن الاختلاف في الدين وترك
العمل به سبب للفرقة والعداوة كما قال تعالى: {فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]،
وقال ابن تيمية: «سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به
كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً، وظاهراً. وسبب
الفرقة: ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم. ونتيجة
الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا
والآخرة وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة: عذاب
الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم».
ولما كانت الجماعة والاجتماع من المعالم
البارزة في الإسلام، كانت علامة وسمة للفرقة الناجية التي ورد ذكرها في الحديث: «إن
أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث
وسبعين كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة»[1]،
فالجماعة، وهي الفئة التي اجتمعت على الحق وائتلفت عليه، هي الفرقة الناجية، وفي
رواية قال في بيانها: «ما أنا عليه وأصحابي»،
واسم الفرقة الناجية ووسمها عند أهل العلم: «أهل
السنة والجماعة»، وهم الذين تبيض وجوههم يوم القيامة {يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]،
قال ابن كثير: «وقوله تعالى: يوم
تبيض وجوه وتسود وجوه يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود
وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما»،
فكان تفرق المسلمين في الحق واختلافهم عليه قائداً إلى النار، كما كان اجتماعهم
واتفاقهم القائد إلى الجنة، فلزوم الجماعة والاجتماع والائتلاف على الحق من مسوغات
دخول الجنة كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ»،
فالاجتماع الممدوح لا يكون إلا على الحق المتمثل في اتباع كتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أصحابه الكرام
رضي الله تبارك وتعالى عنهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركت
فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم»،
فضمن لمن تمسك بالكتاب والسنة العصمة من الضلال، وهذا وعد ووعده حق، فهو الصادق
المصدوق، وقال في اتباع سنة من خلفه من الخلفاء الراشدين الذين اهتدوا بهديه
واقتدوا بسنته: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ»،
فحضّ على التمسك بها إلى درجة أن يعض عليها بالنواجذ لما في ذلك من العصمة
والاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقال في أصحابه بعامة: «وَأَصْحَابِي
أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»،
فكان في وجود أصحابه أمان لأمته من التفرق والضلال، سواء كان وجودهم وجوداً حسياً
ببقاء أعيانهم، أو كان وجوداً معنوياً ببقاء عقيدتهم ومنهجهم.
ومما يبيّن عناية الإسلام بالجماعة
والاجتماع أن فرائض الإسلام كلها لا تكون إلا من خلال الاجتماع، سواء كان باجتماع
الأبدان كالصلاة والجهاد، أو باجتماع الزمان والمكان وكيفية العبادة كالصوم والحج،
ولم يشذ عن ذلك إلا الزكاة، وقد توعد الله تعالى من يخالف طريق الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين - الذي هو مفارقتهم في العقيدة والمنهج - بالنار
كما قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]،
وقد استنبط الشافعي - رحمه الله - من
هذه الآية دليل صحة الإجماع وعصمة الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وهو مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق»، فمتى اجتمعت الأمة دخلت
فيها هذه الطائفة التي على الحق، وكذلك ما يروى عنه: «لا
تجتمع أمتي على ضلالة»، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم
وفضله: «وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم؛
لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل، وفي قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]،
دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة
على جميعهم»، فما دام أن الله جعلهم أمة وسطاً، أي
عدولاً، وقبل شهادتهم على الأمم، فمعنى ذلك أنهم على الحق لا يغادرونه ولا
يخالفونه.
وحتى يتحــقق اجتـماع أهل الإسلام واقعاً
كما هو مأمور به شرعاً، ينبغـــي التمسك والاعتصـام بالأصول التي تجمع ولا تفرق،
وتوحد الأفهام ولا تشتتها، وهي أصول ثلاثة:
الأصل الأول: تحديد
مصادر التلقي والاتفاق عليها، ومصادر التلقي المجمع عليها هي:
1- كتاب الله تعالى، وقد ذكر الله تعالى في
بيان منزلة كتابه أنه كتاب مبين وأنه كتاب حكيم، فهو يبين الأمور المشكلة أو
المبهمة فيزيل إشكالها ويبين إبهامها، وهو كتاب قد أحكمت آياته وفُصّلت كما قال
تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١]،
فلا يلحقها اختلال من أجل إحكامها ولا نقص من أجل تفصيلها، وهو حبل الله المأمور
الاعتصام به كما قال عبد الله بن مسعود عن حبل الله الذي أُمر المسلمون بالاعتصام
به في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]،
قال: هو
القرآن. وقال علي بن أبي طالب عن القرآن: «هو
حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به
الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء»،
وما كان بهذه المنزلة فهو أصل للأصول التي يجتمع عليها المسلمون.
2- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وقد بيّن كتاب الله أن الاهتداء مرهون بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه
فقال: {وَإن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]،
وأمر بالتقيد بما أمر به أو نهى عنه فقال: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧]،
وحذر أشد التحذير من مخالفة أمره فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [النور: 63]،
وهذا مما يبيّن المكانة العظمى لسنة النبي صلى الله عليه وسلم،
وأن في لزومها الهداية والفلاح، وأن في مخالفتها والخروج عنها الفتنة والعذاب، وهو
مما يدل على أن اتباع السنة ولزومها من أكبر العوامل التي تساعد على الائتلاف
واجتماع أهل الإسلام.
3- إجماع سلف الأمة من الصحابة
والتابعين، وقد بيّن الكتاب أن الله رضي عنهم وعمّن اتبعهم كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة: 100]،
وبيّن الرسول الكريم أنهم الفرقة الناجية وأنهم أمان للأمة كما مر.
الأصل الثاني: تحديد
قواعد الاستدلال والاتفاق عليها وكذلك طرق استفادة الأحكام من مصادرها، وهذه تكفّل
بها علم أصول الفقه مما يتبيّن منه أن معرفة هذا العلم وإحكام قواعده عامل كبير في
توحيد طرق الفهم والاستنباط.
الأصل الثالث: تنقية
نفوس القائمين بالاستدلال وتهذيبها وتثقيفها ليكون الحرص على الاتفاق والاجتماع
أولى ما يحرصون عليه، وهذه تكفّل بها علم الأخلاق وعلم الخلاف وعلم الجدل.. فتبيَّن
مما تقدم أن اجتماع أهل الإسلام سهل ميسور لا يحول دونه حائل ولا يمنع منه مانع، كما
لا يكون بالأماني والتصورات، بل بأصول علمية وإيمانية يقبل بها المسلمون ويعملون
بها ويسعون جاهدين إلى تطبيقها.
::
مجلة البيان العدد 305 محرم 1434هـ، نوفمبر 2012م.
[1] وقد ورد هذا الحديث بأسانيد متعددة وهي
أسانيد قال عنها الذهبي تقوم بها الحجة وقد صححه جمع من أهل العلم.