يرى روسو أن المحافظة على العفة، له أثر مشاهد في قوة ذهن الرجال، وهو بدَوْره يُؤدِّي إلى تفوق الشعوب التي حافظ شبابها على هذه العفة، على تلك الشعوب التي بدا فجور شبابهم مبكرًا،
تربية الفتيان:
لم يكن جهد روسو منصرفًا إلى تربية الفتيات فحسب، بل كتب ونظر كثيرًا في طرائق
وأساليب تربية الفتيان؛ لأنه يرى أن المراهقة ليست سنًّا للانتقام والحقد، بل على
العكس من ذلك فهي سن الرحمة والكرم، فقال:
«وليست
المراهقة سنّ الانتقام ولا سنّ الحقد، بل سنّ الرحمة والشفقة والكرم، أجل! إني أدعي
ولا أخاف أن تكذبني التجربة، بأن الولد الحسن المنبت، والذي يحافظ على طهره حتى
العشرين من عمره، يكون في هذه السن أكرم الناس وأصلحهم، وأشدهم حبًّا إليهم وأقربهم
مودة إلى قلوبهم»[1].
ولهذا نجد روسو ينادي بإشغال الفتيان في هذه السن بالقيام بالأعمال الصالحة؛ لأنها
وسيلة لصلاحهم، فقال:
«ويصبح
الإنسان صالحًا بفعل الخير، ولا أعرف معروفًا أضمن من هذا مطلقًا، وأشغلوا تلميذكم
بالأعمال الصالحة التي هي في متناوله، ولتكن مصلحة المعوزين مصلحته دائمًا، ولا
تقتصر على مساعدتهم من ماله، بل ليشملهم برعايته، وليخدمهم وليَحْمهم، وليقف شخصه
ووقته عليهم، وليجعل من نفسه وكيلهم، فهو لن يقوم في حياته بعمل أنبل من هذا»[2].
ولكنه يشترط لتحقيق هذا، القيام ببعض الأساليب والطرق في تربية الفتيان، ومن ذلك
أنه يوصي بحماية أحاسيسهم من الإثارة، فلا تقع أعينهم على مناظر تغويهم وتدفعهم
للشهوات، فقال:
«ولا
تطلعوهم على غير التصاوير المؤثرة مع الاعتدال، فتُحرّكهم من غير إغواء، وتُغذّي
نفوسهم من غير إثارة لحواسهم، وكذلك اعلموا أنه يوجد في كل مكان من الفسق ما
يُخْشَى، وأنه يوجد من الأهواء المتطرفة ما يُوجب في كل وقت من السوء ما لا يجتنب»[3].
وهو إذ يوصي بحفظ الفتيان وصون أنظارهم عن رؤية ما يثير الشهوة؛ لأن في اعتياد
العين على تلك المناظر، تصبح إلفًا وعادة، فقال:
«فالإنسان
إذا ما واجَه عين المناظر زمنًا طويلًا، عاد لا يشعر بانطباعاتها؛ فالعادة تعود
الإنسان كل شيء، وما يُرَى كثيرًا يعود بعيدًا عن الخيال، والخيال وحده هو الذي
يجعلنا نشعر بمصائب الآخرين، وهكذا فإن القساوسة والأطباء يصيرون فاقدي الرحمة، بما
يتفق لهم من مشاهدة الموت والألم»[4].
يدعو روسو إلى إشغال الفتيان بالأعمال الشاقة، واستنفاد طاقتهم في ذلك، حتى لا يبقى
لديهم وقت للتفكير والخيال الذي يؤذي القلب، فقال:
«وإني
أمرّن بدنه على أشغال شاقة، فأقف نشاط الخيال الذي يسوقه، ومتى اشتغلت الذرعان
استراح الخيال، ومتى تعب البدن لم يشتغل القلب قط»[5].
وهو ينادي بحماية الشاب من نفسه؛ لأنه قد يفعل ما يضره، ومن ذلك ألا يترك الشاب
وحده في ليل أو نهار، فيخلو بنفسه، ولربما سوَّلت له أمرًا سيئًا، بل تجاوز ودعا
إلى عدم السماح له بالذهاب إلى غرفته، إلا وهو مُنْهك ويشعر بالنعاس، ثم يُوصي بأن
ينام معه في غرفته أحيانًا، فقال:
«ولكن
يتوقف عليكم أن تَقُوه من نفسه، ولا تتركوه وحده ليلًا ولا نهارًا، وناموا في غرفته
على الأقل، ولا تدعوه يدخل الفراش إلا تعبًا نعسًا، فلا يخرج منه إلا حين يفيق»[6].
ثم انتقل روسو إلى أدق التفاصيل فأوصى باختيار نوع السرير، الذي سينام عليه الشاب،
وهو لا يهمه ذات السرير، وإنما يرى أن الحياة الناعمة تؤدي إلى مشاعر وأحاسيس
مستكرهة، بينما إذا تعود الشاب على الحياة القاسية؛ فإن ذلك يزيد من المشاعر
والأحاسيس المستحبة، فقال:
«ومن
المهم أن يُعَوّد النوم على فراش غير مريح في بدء الأمر، فتكون هذه وسيلة عدم
عَدِّه أيّ سرير سيئًا، وإذا تحوَّلت الحياة القاسية إلى عادة، زادت الإحساسات
المستحبة على العموم، وتُعِدُّ الحياة الناعمة ما لا حدّ له من الإحساسات المستكرهة
على العموم، ولا يجد من يُنَشَّأون في الترف الكثير نومهم على غير الرِّيش الناعم،
ويجد من تَعوّدوا النوم على الألواح رقادهم في كل مكان»[7]،
وهنا يذكر لنا روسو أحسن أنواع الفراش في نظره، فقال:
«وأحسن
فراش هو ما يوجب أحسن نوم»[8].
لم يكتفِ روسو بأن أشغل الشاب حتى تعب وشعر بالنعاس، ثم سمح له بالدخول إلى غرفته
لينام على سرير قاسٍ له مواصفات خاصة، بل نادى بأن يُوقظ الشاب من نومه، حتى لا
يعتاد على النوم مدة طويلة، فقال:
«وأوقظ
إميل أحيانًا، وذلك عن خشية تعوّده النوم زمنًا طويلًا»[9].
ثم ينتقل روسو لتربية مَلكة التفكير والحكم لدى الشاب، فينتقد أولئك الذين يُصْدرون
أحكامًا من المؤلفين، وخصّ منهم المهتمين بالتاريخ، لِمَ لا يذكرون الوقائع ثم
يدعون الشاب يحكم بنفسه، فهكذا يتعلم معرفة الرجال، فإذا كنّا نفكر عنه دائمًا ثم
نعطيه الحكم، وهو بدَوْره يتلقاه، فسيبقى طيلة عمره أسيرًا لرؤية شخص واحد، إذا
فقده فإنه عاد لا يرى شيئًا، فقال:
«وأسوأ
المؤرخين من أجل الفتى هم الذين يُصدرون أحكامًا، الوقائع الوقائع الوقائع؛ دَعُوه
يحكم بنفسه، هكذا يتعلم معرفة الرجال، إذا كان حكم المؤلف يرشده بلا انقطاع، فإنه
لا يرى بغير عين رجل آخر، وإذا ما أعوزته هذه العين عاد لا يرى شيئًا»[10].
منظومة الزواج لدى روسو:
وهنا تجد أن روسو يحترم منظومة الزواج ويقدّسها، وهذا ما دفَعه إلى النأي بنفسه عن
انتهاك حرمات البيوت، واحترامه لفراش الآخرين، وإن أدى ذلك إلى معاناته، فقال:
«وما
فتئت منذ شبابي أحترم الزواج كأول نظام للطبيعة، وأكثر نُظُمها قداسةً؛ وإذ أنزع
مني حقَّ الإذعان لسلطانه، فإني أعزم على عدم انتهاكه مطلقًا؛ وذلك لأنني على ما
كان من ثقافتي ودراستي، ومن قضائي حياة نمطية بسيطة، حافظت في ذهني على صفاء صُوَى[11]
الفطرة كاملًا، أي أمثال الناس التي لم تُسوِّدْها قط، وإنَّ فَقْري كان يُقصيني عن
المغريات، التي تمليها سفسطة الفسوق.
وهذا العزم أوجب دماري، وذلك أن احترامي لفراش الآخرين، أدَّى إلى كشف خطيئاتي،
وكان لا بد من التكفير عن زلتي، وأُوقَفُ وأُحْجَزُ وأُطْرَدُ، وأكون ضحية وساوسي،
أكثر من أن أكون ضحية دعارتي»[12].
وهنا أسجل إعجابي بروسو فهو الرجل الذي عاش سنوات طويلة مع صديقته بلا زواج، كان
يسعه أن يقلل من شأن الزواج ويحقره ويُسفِّه مَن يفعله، ولكننا نجده هنا مدافعًا
ومؤيدًا.
إن روسو ينظر للزواج على أنه حاجة فطرية، ولكن يفترض أن يحرص الشاب على المحافظة
على عفافه، حتى يصل إلى السن الذي يكون مؤهلًا فيها للزواج، وهذا السن هو في عمر
العشرين، فقال:
«وينمو
البدن حتى العشرين من السن، ويحتاج البدن إلى جميع جوهره، ويكون العفاف من نظام
الطبيعة حتى ذلك الحين، ولا يُنقَضُ هذا النظام إلا على حساب بنيانه، فإذا حل
العشرون من العمر، أصبح العفاف واجبًا خلقيًّا، وغدا مُهمًّا، لِتعلُّم ضبط النفس،
وبقاء الإنسان سيد شهواته»[13].
وهو هنا يُفصِّل في العفاف على طورين أو مرحلتين؛ فالشاب يكون عفيفًا حتى العشرين؛
لأن هذا نظام الطبيعة، فإذا بلغ العشرين أصبحت الغريزة قوية وملحة، فهنا يصبح
العفاف واجبًا خُلقيًّا، له أهمية في ضبط شهوات الجسد، ولهذا نجده يتحدث عن إميل
فيقول:
«واحسبوا
إميل بعد إتمام العشرين من عمره، حَسَن التنشئة، حَسَن التكوين، روحًا وبدنًا،
قويًّا سليمًا نشيطًا رشيقًا، مملوءًا إحساسًا وعقلًا وصلاحًا وإنسانية، صاحب أخلاق
وذوق، مُحِبًّا للجمال، خاليًا من الأهواء الجامحة»[14].
إذن الشاب ينشأ ويعيش خاليًا من الأهواء الجامحة حتى سنّ العشرين، ولكننا نُفْسِد
هذا النظام الطبيعي، فنُعجّل ميولهم لهذه الشهوات، ولهذا أصبح الحل عند البعض هو
زواجهم في سن البلوغ، بوصفه أضمن الحلول وأقربها للطبيعة، ولكنه يُشكّك في كونها
أفضل الطرق وأحسنها، فيقول روسو:
«وأول
وسيلة تخطر على البال لحل هذه المشكلة، هو أن يُزَوَّج سريعًا، ولا جدل في أن هذه
الطريقة، أضمن الطرق وأقربها إلى الطبيعة، ومع ذلك فإني أشك في كونها أحسن الطرق
وأكثرها فائدة.
وسأبين براهيني فيما بعدُ، وريثما أصنع هذا أوافق على زواج الفتيان في سن البلوغ،
غير أن هذه السن تأتي قبل الأوان، ونحن أكثر الذين يُعجّلونها فيجب إطالتها إلى سن
الرشد»[15].
يرى روسو أنه يمكن للمربين من الوالدين وغيرهما، إطالة سن ميل الحواس للشهوات حتى
العشرين، فقال:
«وأستند
إلى الأسباب المعروضة آنفًا فأُقدِّرُ أن من الممكن بالوسائل التي أَعطيت وبما
ماثلها تمديد الدور الذي تُجهَلُ فيه ميول الحواس، ويُحفَظُ فيه نقاؤها حتى العشرين
من العمر على الأقل»[16].
بل يبالغ ويقول: إنه يمكننا إطالتها إلى أكثر من ذلك، وهو أمرٌ ليس بمُستغرَب، بل
لقد كان هذا أكثر شيوعًا في فرنسا منذ مئات السنين، فقال:
«حتى
إن من الممكن إطالة ذلك الدور كثيرًا، ولا شيء أكثر شيوعًا من هذا في فرنسة نفسها
منذ قرون طويلة، ومن بين أكثر الأمثلة المعروفة نذكر مثال أبي مونتاني، الذي لم يكن
قويًّا حسن البنية، أكثر منه مُتحَسِّبًا صادقًا، فأقسم أن يتزوج طاهرًا في الخامسة
والثلاثين من سنيه، بعد خدمة طويلة في حروب إيطالية»[17].
وهنا نعود إلى ما فعله روسو مع إميل وصوفيا، فهو لم يوافق على زواج إميل في سن
العشرين، بل أراد منه تأخير زواجه، فقال:
«لم
تبلغ صوفية الثامنة عشرة من سنيها، وأنت لم تكد تجاوز الثانية والعشرين من عمرك،
وهذه هي سن الغرام لا سن الزواج»[18]؛
فهو يرى أن الوقت لم يَحِنْ بعدُ، على الرغم من بلوغه الثانية والعشرين من عمره،
ولهذا طلب من صوفيا أن تنتظر خطيبها عامين، فقال:
«ولْيُعطِكِ
كتاب الناظر، الذي تحبين قراءته، وادرسي فيه واجبات النساء الصالحات، واذكري أن هذه
الواجبات ستكون واجباتك في عامين»[19]،
وفي موطن آخر قال:
«وأُسلّيها
وأُسكِّن روعها، وأجعل نفسي مسؤولًا عن عاشقها، وإن شئت فقل عن زوجها، فلتحفظ له
عين الوفاء الذي سيحمله لها، وسيكون لها في عامين، وسيكون زوجًا لها في عامين كما
أقسم»[20].
ولكن هل يرى روسو ثمرة في محافظة الشاب على عفته وطهارته، حتى يصل سن الزواج؟ وهل
هناك مفسدة يراها إن تعجل في أخذه لهذه الشهوات؟، نقول في الإجابة عن هذا السؤال:
نعم، إذ يرى روسو أن في ذلك محافظة على الصحة، ولهذا يمكننا نسبة قوة بنية الألمان،
وكثرة أولادهم، إلى عفاف شبابهم في هذه الفترة، فقال:
«ويُحفَظُ
فيه نقاؤها حتى العشرين من العمر على الأقل، وهذا من الصحة ما يبقى معه الفتى
الجرماني مفضوحًا، إذا ما أضاع طُهْره قبل هذه السن، ومن الصواب عزو المؤلفين قوة
البنية لدى الجرمان، وكثرة أولادهم إلى عفاف هؤلاء القوم في دور شبابهم»[21].
بل إن روسو يؤيد هذا بالتجربة، ويؤكد أن مَن حافَظ على طهارته حتى سنّ العشرين، كان
من أكرم الناس وأصلحهم، وأكثرهم حبًّا ومودة إلى قلوب الآخرين، فقال:
«أجل
إنني أدّعي ولا أخاف أن تكذبني التجربة، بأن الولد الحسن المنبت، والذي يحافظ على
طُهره حتى العشرين من عمره، يكون في هذه السن أكرم الناس وأصلحهم، وأشدهم حبًّا
إليهم وأقربهم مودة إلى قلوبهم»[22].
ثم يستشهد بمثال لرجل أطال هذا الدور كثيرًا، فحافظ على صحته وقوته ومرحه حتى سن
الستين، فقال:
«ومن
بين أكثر الأمثلة المعروفة نذكر مثال أبي مونتاني، الذي لم يكن قويًّا حسن البنية،
أكثر منه متحسِّبًا صادقًا، فأقسم أن يتزوج طاهرًا في الخامسة والثلاثين من سنيه،
بعد خدمة طويلة في حروب إيطالية، ومما يُرى فيما كتب الابن، أيُّ قوة ومرح حافظ
عليهما الأب، بعد مجاوزته الستين من عمره»[23].
يرى روسو أن المحافظة على العفة، له أثر مشاهد في قوة ذهن الرجال، وهو بدَوْره
يُؤدِّي إلى تفوق الشعوب التي حافظ شبابها على هذه العفة، على تلك الشعوب التي بدا
فجور شبابهم مبكرًا، فقال:
«ومما
يشاهد على العموم وجود قوة ذهن في الرجال، الذين صانوا سنواتهم الأولى من فجور
باكر، أكثر مما في الرجال، الذين بدأ فجورهم حين قدرتهم على تعاطيه، ولا جرم أن هذا
من الأسباب في كون الشعوب ذات الأخلاق، تفوق الشعوب الخالية من الأخلاق عادةً، وذلك
من حيث سلامة الذوق والبسالة، وتلمعُ هذه الشعوب الأخيرة ببعض الصفات الرقيقة، التي
تُسميها حصافة ولَقَانة وكياسة، بيد أن وظائف العقل والحكمة الكبيرة الكريمة، التي
تُميّز الإنسان وتمجّده بصالح الأعمال، وبالفضائل وبالجهود النافعة حقًّا، لا توجد
في غير الشعوب الأولى مطلقًا»[24].
عفة المرأة وطهارتها:
عندما نادى روسو بطهارة وعفة الشاب، لم يكن هذا مخالفًا لطبيعة الحياة، بل هذا هو
الأصل في فطرة الشاب، وكذلك الحال في فطرة المرأة، فقال:
«وستكون
صوفية طاهرة صالحة حتى النفس الأخير من حياتها»[25]،
كما أن تربيتها بهذه الطريقة تكون عونًا لها على مقاومة الشهوات، فقال:
«إن
البنت التي نُشِّئت تنشئة حكيمة تقية، تكون مُجهَّزَة بأسلحة لمقاومة الشهوات»[26].
إن الفضيلة والعفة والطهارة بالنسبة للمرأة، هي الطريق الوحيد لسعادتها الحقيقية،
وتركها يؤدي بها إلى البؤس والشقاء والخزي والعار، فقال:
«وتحب
صوفية الفضيلة، وصار هذا الحب هواها المهيمن، وهي تحب الفضيلة؛ لأنه لا يوجد ما هو
جميل كالفضيلة، وهي تحب الفضيلة؛ لأنها تؤدي إلى مجد المرأة، ولأن المرأة الفاضلة
تبدو لها كالملائكة تقريبًا.
وهي تحب الفضيلة؛ لأنها الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية، وهي تحب الفضيلة؛ لأنها
لا ترى غير البؤس والإهمال والشقاء والعار والخزي في حياة المرأة غير المستقيمة، ثم
إنها تحب الفضيلة؛ لأن الفضيلة عزيزة على أبيها الجليل وأمها الحنون الوقور»[27]،
وهنا يستوقفني كلامه عن دور الوالدين في تنمية الفضيلة في نفوس أبنائهم.
ونجد أن روسو يمتدح مثل هؤلاء الفتيات، من اللاتي يَعرفن كتم رغباتهن، ولا يفاخرن
بالخطيئة، فهن ما زلن من ذوات الحياء، ويصفهن بأنهن أكثر النساء صدقًا وإخلاصًا
وحفاظًا على العهد، فقال:
«وعلى
العكس يكون اللاتي لا يزلن ذوات حياء، واللاتي لا يفاخرن بخطيئاتهن مطلقًا،
واللواتي يعرفن كتم رغباتهن، حتى عن الذي يوحون بها إليهن، ومن لا يُنزع منهن
الاعتراف إلا بأعظم عناء، أكثر النساء صدقًا وإخلاصًا وثباتًا في جميع عهودهن،
وأكثر من يمكن أن يركن إلى عهودهن على العموم»[28].
ثم يوضح روسو ثمرة اختيار المرأة الصالحة وأثره على مستقبل الحياة الزوجية، فيقول:
«وإذا
ما مضى عشرون عامًا على الزواج، راقت المرأة الصالحة زوجها بألطافها، كما راقته في
اليوم الأول من قرانهما»[29].
وهنا يسجّل لنا روسو الصفة التي يُفضّلها في فتاة أحلامه، وإذا به يختار الفتاة
البسيطة على تلك الفتاة العالمة النابغة، وهو مَن بلغ من الذكاء شأنًا كبيرًا؛ لأن
الأولى ستكون أكثر اهتمامًا به، وبأمور بيته من الأخرى، فتكون أنثى لا تنتحل طور
الرجل كما هي الأخرى، فقال:
«ولكني
أفضل مئة مرة، فتاة بسيطة ذات تنشئة خشنة، على فتاة عالمة أريبة، تأتي لتقيم في
منزلي محكمة آداب تحت رئاستها، فالمرأة الأريبة تكون آفة زوجها وأولادها وأصدقائها
وخدمها وجميع الناس؛ وذلك لأن ما تكون عليه من نبوغ رفيع، يؤدي إلى استهانتها
بواجبات المرأة، فتحاول أن تنتحل دائمًا طور الرجل على غرار الآنسة دولنكلو»[30].
وإذا ما تحدثنا عن أطوار الرجل والمرأة، فهنا يوصي روسو كلا الزوجين بالآخر، فيدعو
المرأة إلى إكرام زوجها، الذي يعمل من أجلها ويَكسب قوتهما، فهذا هو دور الرجل،
فقال:
«فيا
أيتها المرأة! أكرمي زوجك؛ فهو يعمل من أجلك، ويكسب خبزك ويُطعمك، وهذا هو الرجل»[31]،
وفي المقابل يوصي الرّجل بقرينته، التي وهبه الله له، لتفريج كروبه وكشف همومه،
وهذا دور المرأة، فقال:
«فيا
أيها الرجل أحب قرينتك، فقد أعطاك الله إياها، لتفريج كربك في آلامك، وكشف همّك في
أوصابك، وهذه هي المرأة»[32].
تقديره للإنجيل:
من يقرأ للفلاسفة لا يتصور منهم الاهتمام بالكتب المقدسة، أو أن تكون لهم عناية
بالدين وأهله، ولكن في حياة روسو، نجد التدين حاضرًا في أشكال متعددة، فمن ذلك أنه
معجب بجلال الكتب المقدسة، وأن الإنجيل يخاطب فؤاده، وتتصاغر كتب الفلاسفة بجانبه،
فقال:
«وأعترف
لكم أيضًا أنني أُعجب بجلال الكتب المقدسة، وبأن قداسة الإنجيل تخاطب فؤادي،
وانظروا إلى كتب الفلاسفة مع جميع فخامتها، تروا مقدار تصاغرها بجانب ذاك»[33].
ثم يثني روسو على الإنجيل، فهو متَّصف بصفات بالغة الحقيقة بحيث تنفي عنه الاختلاق،
ولكنه في المقابل يرى أن الإنجيل مملوء بأمور لا يُصدّقها العقل، فيوصي تلميذه أن
يكون معتدلًا ومحترزًا، فيحترم بصمت ما لا يمكنه فَهْمه أو رفضه، ويتواضع أمام
خالقه، فقال:
«ويتصف
الإنجيل بصفات بالغة من الحقيقة، ووقف النظر وتعذر التقليد، ما يكون معه مختلِقُه،
أدعى إلى العجب من بطله، ومع ذلك فإن هذا الإنجيل نفسه، مملوء بأمور لا تُصدّق،
بأمور يرفضها العقل، فيستحيل على كل ذي عقل أن يتصورها وأن يتقبّلها، وما يعمل بين
جميع هذه التناقضات؟، أن يكون الإنسان دائمًا معتدلًا محترزًا يا بني، فيحترم
صامتًا ما لا يستطيع رَفْضه ولا فَهْمه، وأن يتواضع أمام الموجود الأعظم الذي يعرف
الحقيقة وحده»[34].
التدين عند روسو:
لقد كان روسو نصرانيًّا من الطائفة البروتستانتية، ثم درس مبادئ الكاثوليكية، حتى
بلغ مرحلة التعميد، وكان يقوم بالقُدّاس، ولعل هذا كان له أثر في موقفه من التدين
والكنيسة؛ فيخبر عن نفسه أنه يشعر بتأنيب الضمير، إن قصَّر في شيء مما يُتعبَّد به
في الكنيسة، فقال:
«وإذا
ما دُعيت إلى تعبُّد الكنيسة وَفْق الدين الذي أُعلنُ، فإنني أُتمُّ فيها ما
أُمِرْتُ به من عناية، بكلّ ما يمكن من إتقان، ويؤنبني ضميري إذا ما قصَّرتُ في أيّ
شيء من ذلك قصدًا»[35].
ثم لا يُخفي تلك الرغبة التي لازمته زمنًا طويلًا؛ حيث كان يرغب في نيل منصب الخوري[36]،
الذي لا يرى منصبًا أجمل منه، فقال:
«وقد
رغبت زمنًا طويلًا في أن أنال شرف نصبي خوريًّا، ولا أزال راغبًا في ذلك، ولكنني
عدت لا آمل ذلك، ولا أجد، يا صديقي العزيز، ما هو أجمل من منصب الخوري»[37].
وتماهيًا مع هذا الشعور والرغبة الداخلية تجاه التدين؛ فإن روسو ينصح تلميذه
بالعودة إلى دين الأجداد، واتباعه وعدم الردة عنه، فهو أنقى أديان الأرض أدبًا،
وأكثرها قبولًا في العقل، فقال:
«وعُدْ
إلى دين آبائك، واتَّبعه بقلب مخلص، ولا تَرتدَّ عنه أبدًا، فهو بسيط جدًّا، وهو
مقدَّس جدًّا، ولا أرى بين أديان الأرض ما هو أنقى منه أدبًا، ولا ما هو لدى العقل
أكثر منه قبولًا»[38].
كتب القدماء:
أبدى روسو إعجابه بما سطَّره الأوائل، وبما تركه القدماء من مؤلفات، وقد تميز هؤلاء
الأوائل؛ لأنهم أقرب إلى الطبيعة، وعبقريتهم أكثر بروزًا، فقال:
«وعلى
العموم سيتذوق إميل كتب القدماء، أكثر من تذوقه كتبنا، وبما أن القدماء هم الأولون،
فإنهم أقرب إلى الطبيعة، وإن عبقريتهم أكثر بروزًا»[39].
لقد كنت أتوقع من مثل روسو، أن ينتقد كتب القدماء، ويدعو إلى الأخذ بما هو جديد،
ولكنه على العكس، كان دائمًا مُفضِّلًا لأولئك القدماء؛ إذ إن كُتُبهم فيها من
البساطة في الذوق، ما يَجعلها تصل إلى القلب، لا نجد مثلها في غير كتبهم، فقال:
«ويوجد
فضلًا عن ذلك، بساطة في الذوق تذهب إلى القلب، ولا توجد في غير كتب القدماء»[40].
الخاتمة:
ما كتبته كان عرضًا سريعًا لبعض النصوص المنتقاة من كتاب (إميل أو التربية) لجان
جاك روسو، ولم أستوعب كل ما ذَكَرَ، ولم يكن ذلك هدفي من هذه المقالات، ولهذا آمل
أن ينبري أحد المتخصصين في التربية؛ فيقوم بدراسة الكتاب دراسة مطوّلة، أو أن يكون
ذلك ضمن الدراسات العلمية لرسائل الماجستير أو الدكتوراه.
فهرس المصادر والمراجع
1. إميل أو التربية.
جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الثانية،
2022م.
2. تاريخ الفلسفة اليونانية،
من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر. يوسف كرم، مكتبة الدار العربية للكتاب،
مصر، الطبعة الأولى، 2021م.
3. العقد الاجتماعي.
جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، دار الحياة للنشر والتوزيع، مصر، 2017م.
4. أصل التفاوت بين الناس.
جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، عصير الكتاب للنشر والتوزيع، 2018م.
5. الاعترافات.
جان جاك روسو، ترجمة حلمي مراد، دار البشير للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا.
6. جان جاك روسو.
نجيب المستكاوي، دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1409ه.
7. الأعلام.
خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشرة، 2002م.
[1] إميل أو التربية، روسو، (ص248).
[2] إميل أو التربية، روسو، (ص281).
[3] إميل أو التربية، روسو، (ص259).
[4] إميل أو التربية، روسو، (259-260).
[5] إميل أو التربية، روسو، (ص361).
[6] إميل أو التربية، روسو، (ص376).
[7] إميل أو التربية، روسو، (ص141).
[8] إميل أو التربية، روسو، (ص142).
[9] إميل أو التربية، روسو، (ص142).
[10] إميل أو التربية، روسو، (ص268).
[11] الصوى: جمع صوة، وهي الحجر الذي يكون دليلًا في الطريق.
[12] إميل أو التربية، روسو، (298-299).
[13] إميل أو التربية، روسو، (ص376).
[14] إميل أو التربية، روسو، (472-473).
[15] إميل أو التربية، روسو، (ص357).
[16] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[17] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[18] إميل أو التربية، روسو، (ص505).
[19] إميل أو التربية، روسو، (ص507).
[20] إميل أو التربية، روسو، (ص507).
[21] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[22] إميل أو التربية، روسو، (ص248).
[23] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[24] إميل أو التربية، روسو، (ص261).
[25] إميل أو التربية، روسو، (ص449).
[26] إميل أو التربية، روسو، (ص443).
[27] إميل أو التربية، روسو، (448-449).
[28] إميل أو التربية، روسو، (ص436).
[29] إميل أو التربية، روسو، (ص463).
[30] إميل أو التربية، روسو، (ص462).
[31] إميل أو التربية، روسو، (ص494).
[32] إميل أو التربية، روسو، (ص498).
[33] إميل أو التربية، روسو، (ص346).
[34] إميل أو التربية، روسو، (ص348).
[35] إميل أو التربية، روسو، (ص348).
[36] الخوري منصب ديني لدى النصارى يُطلَق على كاهن القرية، وكلمة (خوري) مُحرَّفة
من اللغة اليونانية، من (خورا) وتعني (القرية) أو (البلدة).
[37] إميل أو التربية، روسو، (ص349).
[38] إميل أو التربية، روسو، (ص351).
[39] إميل أو التربية، روسو، (ص387).
[40] إميل أو التربية، روسو، (ص386).