فارس الفجر
كم ساورتني رغبة جامحة في أن أُبحر في معاني ذاتي كلما نظرت إلى كتاب «تاريخ الحضارة الإسلامية» وقد علاه الغبار وهو في صدارة الرفوف؛ لذلك قررت أن آخذ إجازة من صوت المذياع الصاخب، وغوغائية التلفاز ومهاترات الأصدقاء الجوفاء. وأوليت ظهري لمظاهر المدَنية السطحية، ثم سرت صوب البحر؛ حيث يمتد أمامي فسيحاً بلا حدود، عميقاً بلا نهاية، وهديره المتواصل يتحدى كل البشر أن يوقفوا أمواجه المتلاحقة... معطاء كأمتي. جلستُ على صخرة قد اتخذت لها مكاناً حميماً في كنف الرمال... فتحت كتابي، وكما أن لكل شيء بداية، فقد بدأت بالفهرس، فالباب الأول: «العرب قبل الإسلام»... جاهلية وشتات، ثم الباب الثاني: «بعثة محمد #»... نور وضياء أشرق على كل الأرجاء، ثم الباب الثالث: «الخلافة الأموية»... عِزٌّ ومَنَعة، ثم الباب الرابع: «الخلافة العباسية واتساع رقعة الإسلام»... وها هو هارون الرشيد يقول : (سيري - يا سحابة - وأمطري فينا فأينما أمطرت فخراجك يأتينا)، ثم الباب الخامس: «الأندلـــس»... بذرة الحضارة الغربية. لقد أخذتني نشوة القراءة والاستمتاع؛ فأخذت أبني قصور بني أمية هنا وأشذب حدائق العباسيين هناك وبالقرب منها القصور الأندلسية بديعة الهندسة المعمارية، لكنني كنت - والبحر بين كرٍ وفرٍّ - ما إن أنتهي من تشييد قصوري حتى تأتي أمواجه المرعدة والمزبدة بعد حين فتهدم هذا وتطمس ذاك... مضى يومي بين قصور الأمجاد وقصور الرمال تصارعها الأمواج حتى ولج الليل في النهار فمحا آية الضياء، ومع ذلك صمَّمت على البقاء لبرهة من الزمن، عَلِّي اسمع صهيل خيل عقبة تأتي به الرياح، حين وقف بعزة المجاهد مقسماً: والله لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لخضته غازياً في سبيلك... نظرت للأفق ولا أكاد أتبينه في حلكة الظلام الدامس. ازداد هدير البحر اهتياجاً؛ كأن نيراناً عظيمة تصطلي وتتفاقم بداخله. خشيت على كتابي البلل، فضممته لصدري وأوليت ظهري للبحر معاتبة. يممت وجهي صوب منزلنا، ولكني كلما ظننت أن رحلتي الماتعة شارفت على الانتهاء تغوص أقدامي شيئاً فشيئاً في كثبان الرمال، تُرى كم مضى من الوقت؟ لا أعلم! تحسست معصمي لعلِِّي انظر لساعتي، لكن حالها كحال قصور الأمواج؛ لم أجدها! تابعت المسير وأنا أتحدى كثبان الرمال بسعادة وخطىً وئيدةٍ وكُلِّي عزيمةٌ وإصرارٌ أن أقرأ كتابي هذا لأمي وأبي، وأختي وأخي، بل سأجعله ندوة الأصدقاء، لكن ليس كما يقرؤه مدرسو التاريخ؛ بل سأقرؤه بنبض إحساسي، بفيض مشاعري، بهدي إيماني، بالنور يختلج سويداء قلبي... كنت أسير وخيالاتٌ مجيدةٌ قد تلألأتْ بين عينَي وتمازجت مع تلك الأنوار التي تشع أمامي وكأننا في يوم عيد. وبينما كنت أسير كانت مردفات الأمل تتفاعل داخلي، اصطدمت قدمي بشيء مَّا! ما هذا؟ موت ودمار... جثث وقبور؟ فهذه أشلاء طفلة قد تناثرت! وهنا فتاة قد نُزِع عنها الحجاب ومُزِّقَت الثياب، هُتِك العرض وديست الرقاب... تملَّكني الفزع... أين الطريق؟ أهذه بداية أم نهاية اللانهاية؟ حاولت أن أسيطر على ملكات عقلي وأربط حبل أفكاري لعلِّي أجد مخرجاً لما أنا فيه.. تذكرت كتابي والأمجاد التي بين دفتيه، فتحته بلهفة وسرعة لعلِّي أجد عمرَ على دابته قادماً ليأخذ مفتاح بيت المقدس؛ فمرآه يكفي لأن تفـر منه الشياطين وأعوان الشياطين من هـؤلاء الكفرة وأذنابهـم الذيـن ما نقمـوا منا إلا أن آمنَّـا باللـه رب العالمين! يا لحسرتي الـمُرَّة، لم أجد عمر ولا حتى دابته! وها هو ببيت المقدس يئن وحيداً بأيدي حفدة القردة والخنازير يعيثون فيه فساداً: دنسوه، أحرقوه، وها هو زيتونه قد تفجَّر كبده حُرقَة وأسىً... أخذت أقلِّب الصفحات من جديد لعل المعتصم يُقبِل ملبياً من بغداد الشماء؛ حيث أبرق سنا الحضارة العباسية الإسلامية للكون، وازدهت بأجمل الحُلَل، ولكن آهٍ، ثم آهٍ، على بغداد التي طُمِس نورها، وسلِّمت مفاتحها لأعدائها، فَعَلَت الصلبان في كبد سمائها... آهٍ يا بغداد! متى كان الذئب حارساً للغنم؟ لا، لن أتفوه بالمزيد وَلْندع التاريخ يسطر بحَنَق شديد أسماء الذين خذلوكِ وباعوكِ بلا ثمن؛ ليلعنهم اللاعنون صبحاً ومساءً؛ كلما غدوا أو راحوا... لا لن يشرئب لليأس عنق في فؤادي، فديار المسلمين تمتد من الصين شرقاً إلى المحيط غرباً، ولن يكون للمغضوب عليهم أو الضالين نجوم أو شُهُب في فضائنا. فكتابي يشهد بأنَّا خير الأمم: الدين واحد وإن اختلفت الألوان، القلب واحد وإن تنوعت الألسن، والمصير واحد وإن تباعدت الأمصار... لا، لن أمَلَّ سأبحث في كتابي؛ بين الصفحات والسطور لعلِّي أجد من سيشرق الأمل على يديه، لكن يا لأمِّ الفـاجعات؛ فقد كُتِبَت العناوين بمداد الدم القاني: الشيشان، أفغانستان، كشمير، الصومال، السودان... إنها أسماء لا تكاد تنتهي إلا بانتهاء ديار الإسلام... ذل ومهانة، ضغط وتهديد، جوع وتنصير، شتات وفرقة، والموت يحدق من كل مكان، يصوِّب سهامه في كلِّ اتجاه... ازداد قلبي خفقاناً كلما غاصت أقدامي أكثر فأكثر في بحار الدماء! رفعت بصري للسماء؛ لئلا يكتب الأسى قاموسَ إحساسي، ويا للعجب! ما إن خفضت عيني حتى وقعت على قافلة تسير في إباء وشمم! عندها سرى الأمل في نفسي سريعاً كتيار كهربائي، أخذت أركض إليهم سريعاً والسعادة تملأ تجاويف قلبي كلما تراءى لي لمعان السيوف اليمانية بأيديهم. و كلما ركضت انساب صليلها أكثر فأكثر كأعذب لحن وأجمل نغم، أخيراً وصلتُ وأمسكتُ بتلابيب آخرهم متوسلة: أرجوكم خذوني لا تتركوني، أعطوني سلاحاً؛ فقد صممت أن أسير معكم إلى نصر أو شهادة... تحسست يديه، أين السلاح؟ صرخت بحرقة حتى كادت روحي تنتفض من بين جنبَي: أين السلاح؟ كيف أمسى سلاسل وأغلالاً؟ كيف تحولت أنشودة العز إلى أنين القيود؟ كيف كُبِّل الجهاد في أمتي وحلَّ مكانه الخزي والضيم والعار؟ هويت على الأرض، تحجَّر الدمع في عيني، تلعثمتْ الكلمات على شفتي، ألتهب جسدي بالحمى... لا لم يعد للحياة معنى. سأبقى هنا (لأموت) وليستمر مدرسو التاريخ يقرؤونه بالطريقة نفسها الرتيبة البليدة، لن يشعر أحد بما يحدث في هذا العالم الحيران! سأضم كتابي وأموت، وليأتِ من يأخذُه من جدثي ليقرأه، لن أسير وأبحث عن الحياة؛ فها هي أضواء الموت تتمدد في كل تجاه. نعم! سأموت هنا! وإن كانت تلك الأضواء التي أمامي تشبه أنوار حينا! وتلك تبدو كأنها أضواء شارعنا، وتلك التي بالأعلى تناديني من حجرة أمي وأبي. فركت عينَي علَّ ما أرى يكون حقيقة. فجأة أخذ منسوب الأمل يتدفق إلى فؤادي، فأخذت أستجمع قواي المتهالكة؛ لأحث قدميَّ على الوقوف. وبعد عدة محاولات سرت مترنحة، ولا أعلم: أكانت الدموع المهراقة دموع الفرح أم الأسى؟ أخيراً وصلت مع انبلاج الفجر. نظرت حولي وهالني ما رأيت: الصمت يخدر شارعنا، والستائر تُسدَل دون ضوء الفجر، والأنوار تُطفَأ... هل دب المـوت أيضـاً في تيـار الكهـرباء؟ ما للشخير يتفـاقم مـدوياً إبان وقت الصـلاة؟ نظـرت كسـيفةً أسـيفةً إلـى كتابي: آهٍ يا كتابي! كيف لا تزداد جراحك، وتسيل دماؤك رخيصة بين الأمم وما من ملبٍّ للنداء؟ ها هو الموت يدب في أحشائي من جديد تحت نافذتي... آهٍ انظرْ هناك، إنه ملك الموت جاء ليقطع مني الوريد، وينزع الروح؛ ليأتِ مسرعاً، لم أعد أهابُه؛ فقد سئمت هذه الحياة، لكن أين جنده؟ ولماذا يبدو صغيراً ضئيلاً؟ هل أرسل أحدَ جنده بدلاً منه؟ تُرى لماذا يسير بتؤدة وسكون؟ هل يريد أن ينتزع روحي فزعاً مزعوراً منه؟ لا، لا: إنه طفل صغير، ولكن لماذا يمشي وحيداً، والكون ينعم بالدعة والسكون؛ فهل هو شقي مثلي؟ اسمع يا كتابي! إنه يتمتم ببعض الكلم، ماذا تُراه يقول؟ أرهِف السمعَ يا كتابي!... {إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: ٢٦١]، آهٍ، آهٍ يا كتابي! إنه فارس الفجر، إنه فارس الفجر قادم...