• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
يحدث في تونس.. محطات من الإثارة والاستفزاز ونظرية الثور الإسباني

يحدث في تونس..


 أمام تنامي التيار السلفي بين الأوساط الشبابية بشكل واسع وكبير في مختلف المدن والقرى التونسية، نشطت ظاهرة الاستفزاز العقدي ونصب الكمائن والاستدراج للخطأ والعنف ضمن آلة علمانية ماكرة تهدف إلى تبشيع صورة السلفيين وبث الكراهية والأحقاد بين مختلف الفئات الاجتماعية في تونس.

ولعل أبرز النظريات الاجتماعية في الاستدراج وإنهاك القوى وتصفية الخصوم التي مورست بدهاء على هؤلاء الشباب؛ هي نظرية الثور الإسباني الشهيرة، ومن خلال جملة الأعمال الاستفزازية المختارة بعناية التي تمت في تونس بعد الثورة، أردنا أن نورد لها أمثلة لنبيّن للقارئ مدى دقة اتباعهم لهذه النظرية وإيمانهم بجدواها، وسنورد شيئاً من مرتكزاتها، ونوضح أساسات فكرتها التي تتلخص في التالي:

إن مجرد استدراج القوي إلى حلبة الصراع المغلقة تمثل نصف عملية تصفيته، حيث ينحصر مكان حركته ويضيق، وتُجعل إمكانية استهدافه أكبر.

يصرّ الخصم المصارع على أن يكون ذلك أمام جمهور من الناس يعشق متعة الفرجة، فارغٍ لا مبدأ له ولا قضية، وببراعة المصارِع ورشاقته يتحول المستدرَج المعتدى عليه إلى مجرم في نظر المتفرجين، وأمام تسليط أضواء الإعلام تتحول كل سقطة للضحية وكل رمح يرشق به ظهره وكل قطرة دم تسيل منه؛ إلى نكاية وشماتة في غفلة عن كونه ضحية، وما نقموا منه إلا كونه يملك كل مقومات القوة والفتوة.

منهج الإثارة المتبع والاستفزاز غارق في دراسة نفسية وعقلية الخصم المستدرَج للصراع، فالتلويح بطرف أحمر يستفز المشاعر، وتعمل الألوان المثيرة على عملية التهييج، فتأتي ردة الفعل عظيمة وكبيرة، لكنها لا تصيب هدفاً، بل تسهم في إخارة القوى، وبتكرار الاستجابة لها يحصل الإنهاك.

يخاطِب المصارع اللبق عيون الخصم القوي ويستثير عاطفته لا عقله، إذ ليس ثمة وقت لإعمال عقل أو تدبر أو تفكير، وتكون الاستجابة السلبية سريعة وقوية، لكن إذا غاب العقل حضر العطب فتقع الهزيمة والإنهاك.

إدارة الصراع مفروضة ومرسومة من طرف واحد وفي إطار زماني ومكاني محدد، وبها يخرج الصغير الضعيف منتصراً وغالباً، والقوي المتين منهكاً منتهياً، وما أبشع صورة القوي المهزوم الذي يملك جسماً ولا يملك عقلاً.

التكرار والإصرار على الإثارة بفكرة واحدة وتنويع في الحركة ومع الاستجابة الغافلة، يُنهك القوى ويُبشّع الصورة.

تنشيط الجري والاندفاع نحو هدف وهمي مبني على مناطحة الهواء وما في ذلك من إفراغ للطاقة والجهد إلى حد لحظة الإنهاك والانهيار.

بجملة المفاهيم هذه عشق علمانيو تونس مصارعة الشباب، معتبرينهم ثيراناً هائجة لا تملك إلا المناطحة والمغالبة في مفاصلة كاملة للحكمة والتعقل، فقاموا بسلسلة من الأعمال المثيرة المختارة التي أضافوا إليها سياسة رصد الأخطاء مهما صغرت وتضخيمها وتهويلها ونشرها بأشكال واسعة في المواقع الاجتماعية والقنوات التلفزيونية وعلى أعمدة الجرائد والمجلات، حتى باتت صورة الشاب المتدين الملتزم بالهدي الظاهر مثارَ جدل واستهجان لدى قطاعات كثيرة من الناس.

ومن جملة الأعمال الموجَّهة المشينة التي قام بها العلمانيون والتي قاربوا أن يحققوا بها أهدافهم؛ هي الاعتداء على المقدسات والتفنن في ذلك بشكل متتالٍ ومتكرر، واستطاعوا على قبيح أفعالهم أن يصرفوا أنظار العامة على تلك البشاعة إلى ردود أفعال مستهجنة من الشباب من عنف وحرق وتظاهر وتهييج، ما حول القائمين على الاعتداء على المقدسات إلى دعاة لحرية تعبير منتهكة ومعرضة للخطر، وهو ما يدعو إلى التعاطف والتغافل عن الجريمة.

بدؤوا بالكلام عن أم المؤمنين عائشة ووصفوها بأبشع النعوت التي يخجل منها السامع لتلك الأوصاف حتى لو كانت في حق غيرها من الناس، في وسيلة إعلامية مرئية واسعة الانتشار.

وتلاها الاعتداء على الرسول #، ثم الاعتداء على القرآن، وجاء ذلك بصورة وأحداث مختلفة، حيث قاموا بنزع القدسية عنه والطعن في كون مصدره إلهياً؛ في برنامج حواري تلفزي مشهور، أو في صور أخرى عندما تم رمي المصحف في القمامة وفي مراحيض الجوامع، كما تم انتهاك حرمة المساجد بشكل منظم، حيث رسموا نجمة داود على اللوحة الرخامية لمسجد كبير في العاصمة، وتزامن ذلك مع موجة من اقتحام لبيوت الله ليلاً وما صاحبها من إتلاف لأثاثاتها ونهبها، كما تم عرض صور مجسمة للذات الإلهية، وآخر أعمالهم ما عُرف بمعرض العِبدِليَّة الذي علقت فيه رسوم ساخرة ومسيئة للمقدسات.

كل هذه كانت محطات لإثارة الشغب والتهييج وردود الأفعال الطائشة وغير المحسوبة تماماً كما يفعل ذلك الثور المسكين الذي يضرب الهواء ولا يجده فينهك وتنهار قواه ويظهر في صورة القوي المهزوم وما يصاحب تلك الصورة من سخرية وتهكم.

كما عمدوا إلى افتعال أخبار كاذبة وتشويه متعمد من خلال عناوين إخبارية متلفزة أو مقروءة تخاطب عاطفة الناس وتخوفهم وتفزع مشاعرهم ليكرهوا الملتزمين من الشباب ويَحُولوا من ثم بينهم وبين المجتمع والتأثير فيه وتقريبه إلى السنة والفضيلة، وإننا نريد أن ندرج شيئاً من تلك العناوين التي باتت خبزاً يومياً وسلوكاً مستهجناً تسلطوا به على أسماعنا وأبصارنا في كل آن وفي كل حين، ومن أمثلة ذلك التالي:

 السلفيون يهدمون تراث تونس ويعتدون على الذاكرة الوطنية.

 جماعات «سلفية وهابية» قامت بهدم أضرحة صوفية في عدد من مناطق البلاد وهددت المواطنين ودعتهم إلى الكف عن زيارتها لأن في ذلك «شرك بالله».

-  تجاوزات التيار السلفي تؤدي إلى اضطراب الأوضاع إلى حد كبير في تونس.

-  مواجهات بين السلفيين وبين الطلبة وتعطيل الدراسة في الجامعات للمطالبة بحق المنتقبات في دخول الامتحانات.

- تونس ترتج وتهتز بعد قيام بعض السلفيين بإنزال العلم التونسي في كلية منوبة واستبداله بعلم الخلافة الأسود.

-  تواصل اعتداءات السلفيين بمنع المسرحيين من تنظيم احتفالهم باليوم العالمي للمسرح والدعوة لمحاسبتهم.

-  مجموعات سلفية عمدت إلى تعطيل تظاهرة ثقافية نظمتها الجمعية التونسية لخريجي معاهد الفنون الدرامية.

- العلمانيون ينددون بالسلفيين لممارسة العنف الجسدي واللفظي وتكفير خصوهم.

- السلفيون يرددون خلال تظاهرة ضد قناة نسمة شعار «عار عار يا كفار».

- صحيفة المغرب المحلية تتلقى تهديدات بقتل صحفيين يعملون بها وحرق مقرها.

- تنامي التيار السلفي يسعى بوضوح إلى دفع البلاد للعنف.

- حياتنا وعاداتنا اليومية أصبحت مهددة من جراء تنامي التيار السلفي.

- السلفيون يجبروننا على التخلي عن أفكارنا ولباسنا واختلاط الذكور والإناث.

- السلفيون بعنفهم الديني يهدمون قطاع السياحة في تونس.

- الحكومة بقيادة حركة النهضة لا تقوم بدورها في التصدي للعنف السلفي.

- سلفيو تونس يهددون السلم الدولي بترديدهم لشعار «أبامة أبامة كلنا أسامة».

هذا غيض من فيض حتى يخيل إليك من جراء هذه العناوين اليومية وأمثالها التي تراها وتسمعها أنك في حرب مفتوحة مع جماعة هائجة ليس لها من هم إلا الإفساد والتكفير والضرب والتخريب، لكن إذا نظرت إلى الأمر بحيادية وموضوعية تجد الخبر في أغلب أحيانه يكذبه الواقع ولا شيء إلا الإثارة والكذب والمبالغة في الفجور في الخصومة، وليس لمن يعيش في تونس إلا أن يتسلح بالصبر وينصرف إلى عمل بناء مثمر طويل الأمد يعي فيه أبعاد الاستدراج ويرتفع فيه عن الخصومة مع المجتمع ويدرك غباء الثور وانسياقه بين يدي خصومه وجلاديه، وبذلك يتحول إلى صانع للأحداث راسم لمعالمها لا لمفعول به ساقط في المكائد والفخاخ وكاشف ظهر الدعوة لطعنة الخصوم.

وكما ينتظر هواة تلك المصارعة أن يسقط الثور ويخرج من الحلبة مضرخاً بدماه، يتمنى قِلة آخرون من الثور أن يخطئ الهواء ويصيب المصارِع في مقتل، وهو أمر على ندارته إلا أنه يقع دون أن يدرك الثور شيئاً أكثر من دفع غريزته له للمناطحة.

أما إذا اشتد الثور على خصومه واستعصى على المصارع، اجتمعوا عليه وركبوا الخيل لصرعه، فإن لم تنفع الخيل فربما ركبوا «دبّابة» ولوّحوا له برايات أجنبية.

وفي الأخير لا نملك إلا أن نقول: إن الأمل مفقود في ثورٍ يعقلُ فيُفشِل المهزلة القاتلة.. إلا أن الأمل معقود على شباب سيثور على التّــــثوّر ويفقه المآلات.

ثم إن التفاف الشباب حول أهل العلم وأهل الرأي مفوِّت للوقوع في المزالق، والعِبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، ولا شك أن تدارك النقص والجنوح إلى الكمال يقتضي كسر أركان الحلبة وإسقاط نظرية الاستدراج.. والله ولي التوفيق.

:: مجلة البيان العدد303 ذو القعدة 1433هـ، سبتمبر - أكتوبر 2012م.

أعلى