المستضعفون في الأرض
قبل أيام قليلة أُقيم
اجتماع حاشد في سربينستا في البوسنة للتذكير بإبادة أكثر من سبعة آلاف مسلم على يد
الصرب أثناء حرب البوسنة وهم تحت حماية قوات الأمم المتحدة. والقصة باختصار أن
الصرب حاولوا اقتحام المدينة بقوات متفوقة، لكن المقاومة كانت شديدة، وتدخلت الأمم
المتحدة وأرسلت قوات هولندية لوضع المدينة تحت حماية الأمم المتحدة لمنع إبادة
السكان، وكان الشرط نزع سلاح المدافعين، وما أن تم تسليم السلاح حتى بدأ هجوم
الصرب، وبدلاً من حماية المدنيين العزَّل حرصت الأمم المتحدة على الحياد بدعوى
حماية القوات الأممية، وتم تتبع المسلمين في المدينة والأحراش المحيطة بها وقتلهم،
وما زالت القبور الجماعية تُكتشف حتى الآن، والذي لا أنساه خبر مقتضب في تلك
الفترة عن أن دورية أمريكية قبضت على سبعة مسلمين من أهل سربينستا الذين نجوا من
المذبحة في الغابات القريبة وسلمتهم للصرب الذين قتلوهم، وكان العذر خطأ في
التقدير، والذي يبدو أقرب للتصديق هو التخلص من الشهود. لقد حوكم رئيس الصرب أمام
محكمة لاهاي بسبب المذبحة، لكن لماذا لم يحاكم أحد من مسؤولي الأمم المتحدة أو
قائد القوات الهولندية؟ ولماذا لم يرسلوا قوات أخرى لديها دافع للقتال دونهم فهناك
قوات أردنية في المناطق الكرواتية؟ الشاهد هنا هو الحذر من تسليم السلاح مقابل
وعود ومواثيق لا تسمن ولا تغني من جوع.. إنها رسالة لكل المستضعفين الذين اضطروا
لحمل السلاح لحماية أنفسهم وأعراضهم والحصول على حريتهم، سيأتيكم من يعرض الحماية
شرط تسليم السلاح، فلا تصدقوه، فلا تصدقوه، فلا تصدقوه.
وللذكرى، فبُعيد حرب غزة
الهمجية التي شنتها إسرائيل، كانت التدخلات تتباكى على الضحايا وتَعِدُ بالعمل على
تخفيف الحصار، لكنها كانت تحرص على معرفة كيف حصلت المقاومة على السلاح واكتشاف
الثغرات التي لم تُسد، ولم يوجّه لوم للقاتل، ولم يُطلب نزع سلاحه، بل طرح وجوب
نزع سلاح المقاومة.. وأقرب من ذلك أنه بعد سقوط القذافي كان كلّ الهم تجميع السلاح
من المقاتلين حتى قبل أن تستقر الأمور، وبكلمة أخرى: يا أيتها الشعوب المتمردة
عودي إلى الحظائر منزوعة الأظافر حتى يُرسل لك سيد جديد من الطبيعي ألا يكون
إسلامياً ويفضل أن يكون ليبرالياً. في سورية الآن المهم هو السلاح السوري الذي كان
في يد أمينة سيقع بيد مَن؟ وهذا الشعب العظيم الذي انتفض وواجه لأكثر من سنة
بالكلمة والشعار ماذا سيفعل إذا امتلك الحرية؟ إنه سؤال مقلق لقاتلي الأنبياء
ولاعني الخلفاء سواء بسواء. أما في مصر، فما زال السلاح بأيدٍ أمينة! ولذا
فالأكثرية ما زالت مستضعفة حتى مع وجود الرئيس معها، وباختصار أهل السنة أكثريات
مستضعفة منتهكة الحقوق، بل يحصل لهم بعض المجازر ومحاولات التهجير من مناطق
سكناهم، فقد حصل هذا في إندونيسيا على يد قبائل مختلفة والحكومة تتفرج، ويحصل
دائماً في نيجيريا، ومما يخفف الأسى ويبعث الأمل أن الأمة في حالة يقظة ونهوض
نتوقع منها أن تغير الأحوال بحيث يكون للشعوب التي كانت مستضعفة القدرة على
التأثير في الحكومات بحيث توسع دائرة اهتمامها إلى مصالح الأمة، فحالياً نحن في
مرحلة الغياب أو التغييب للدول الإسلامية عن قضاياها، فهم غائبون عن الفعل
المستقل، فالحضور في القضايا الكبيرة مثل فلسطين ودول الربيع العربي هو حتى الآن
للأمم المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، أما القضايا الصغيرة مثل
هموم ومعاناة الأقليات المسلمة حول العالم فبالكاد تسمع منظمة العفو الدولية أو
المؤتمر الإسلامي أو تجمعات للعلماء هنا وهناك تتحدث عنها، إضافة إلى محاولة توصيل
القضية للإعلام الذي أصبح قوة ضاغطة كبيرة تؤدي إلى اهتمام عام قد يؤدي إلى مواقف
سياسية.
ما يُطلق عليه الأقليات
الإسلامية هو نتاج مرحلة تاريخية كانت فيها الأمة غالبة وظاهرة على الأمم، فقد
كانت التجمّعات الإسلامية ذات حيوية كبيرة، فقد ذكر الرحالة ابن بطوطة وجود أحياء
للمسلمين في المدن الصينية، وهم طبقة التجار وكبار العسكريين والمستشارين، لقد
اندثر هذا في الصين مع بقاء بعض الشواهد عليه مثل المساجد القديمة وأقلية الهوي
المسلمة، ومثل هذا في دول جنوب آسيا التي تكوَّنت فيها تجمعات إسلامية أصبحت
غالبية في كثير من المناطق، لكن تغيَّرت أحوالها مع قدوم الاستعمار الأوروبي
الصليبي، فتحولت من أكثرية حاكمة إلى أقلية مضطهدة في الفلبين، وفي تركستان
الشرقية التي تحتلها الصين هناك حملة صينية من أجل تحويل المسلمين إلى أقلية عن
طريق توطين الصينيين وتهميش المسلمين والقمع الوحشي لأي انتفاضة كما حصل العام
الماضي.. إنها دورات اضطهاد متوالية نسمعها في الهند والفلبين وتايلند وإيران من
أجل تحجيم المسلمين وتقليل فاعليتهم، وهناك مخططات تصل إلى محاولة التهجير وتفريغ
البلد منهم، وهذا حدث أوائل القرن الماضي على نطاق واسع في جزر البحر الأبيض
المتوسط واليونان، واذهب إن شئت مثلاً إلى جزيرة كريت حيث تلاحظ الكثير من المساجد
القديمة دون مسلمين، حيث تم تهجيرهم بالاتفاق مع حكومة أتاتورك إلى تركيا، إنه
اقتلاع حضاري من الجذور تقوم فيه دول غالبة متعصبة بإجبار دولة مهزومة على القبول
باستقبال من يتم طردهم ضمن مخطط يطلق عليه حالياً التطهير العرقي، وكان يسمى
التهجير القسري، وهو ما تحاوله حالياً دولة ضعيفة محاصرة منذ أن كان اسمها بورما
وبعد أن تحول اسمها إلى ماني مار، إنها نفس الفكرة؛ تجمع إسلامي قديم له ظروفه
التاريخية أصبح هدفاً لحملة اجتثاث، لكن المشكلة أن الدولة ليست قوية مثل الدول
الأوروبية لإجبار دول الجوار على استقبالهم دفعة واحدة، وبالتالي كانت السياسة
التضييق المستمر لإجبارهم على الرحيل ومنعهم من الخروج من مناطق سكناهم، وهي كانت
سياسة عامة مطبقة في الدول الشيوعية على الجميع لإنجاح مشاريع المجتمع الاشتراكي
المزعوم، لكنها استمرت بالنسبة للمسلمين لمنعهم من الانتشار الحر في البلد، وأيضاً
يطبق عليهم بصورة انتقائية قانون تحديد النسل بالاقتصار على ولدين وتأخير سن
الزواج من أجل تقليل أعدادهم تدريجياً، لكن هذه الأساليب بطيئة في التأثير ويصعب
متابعتها في مجتمعات ريفية، فتم إصدار قانون جنسية مفصل لحرمانهم من الجنسية،
وبالتالي الحقوق المدنية والتعليم.. نعم صدر القانون عام 1982م ويتم بموجبه سحب
الجنسية ممن لم يثبت وجود أجداده قبل 1842م، وبالتالي يصبح مقيماً بصورة غير
مشروعة.
تاريخياً، الروهينجا أو
سكان مقاطعة أراكان الحدودية مع بنجلادش من الطبيعي أن يكونوا أقرب ديناً ومظهراً
للبنغال المسلمين منهم للبورميين البوذيين، وما أعرفه أن المسلمين كانت أوضاعهم
أفضل كثيراً، وأثناء الحرب العالمية الثانية احتل اليابانيون بورما وطردوا
الإنجليز منها وخاف الإنجليز سقوط الهند، فحاولوا استمالة المسلمين لقتال
اليابانيين وطردهم من بورما، وصدَّق المسلمون وعود الإنجليز وكان لهم دور كبير في
طرد اليابانيين وفتح الطريق للصين، وكانت النتيجة الغدر والخيانة وضم أراكان
لبورما، ومنذ ذلك التاريخ (1948م) بدأت مأساتهم وتعرضوا لدورات متعاقبة من
الاضطهاد والتهجير، حيث ينتشرون في الحجاز (البرماوية) وماليزيا وبنجلادش، ومما
يؤسَف له أنه نتيجة التعامل معهم كلاجئين ساءت أحوالهم في المهجر وضعف تأثيرهم في
الدفاع عن قضيتهم العادلة، ولذا أرى تمكينهم من العيش الكريم وبعث الإحساس بقضيتهم
وتشجيعهم على العمل الجاد من أجل حماية البقية الباقية منهم، والذي يمكن حالياً
التبنّي الشعبي لقضيتهم والضغط على حكومات ماليزيا وبنجلادش كي تتبنّى القضية
سياسياً ولا تنظر إليها كمصدر إزعاج بسبب طوفان اللاجئين الذي لن يتوقف حتى يتم
تفريغ المنطقة منهم أو توقَف الحكومة البورمية عند حدها، فمن مصلحة هذه البلدان
رفع مستوى تعاملها مع القضية، فهم امتداد لهم، وليعي الحكام أن الشعوب تحب وتتعلق
بالحاكم الذي يتبنّى قضاياها ويحدب عليها، وهم الأقدر على رفع الأذى عنهم، بل
والعمل على استقلالهم إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة للشعور بالأمن، ولا يمكن أن
تكون هذه قضية الحكومات ما لم تكن قضية النخب والإعلام وبالتالي الشعوب.
وأخيراً أتساءل: أين ذهبت
حركة تحرير أراكان المسلحة، لقد كنت أسمع عنها قبل أكثر من 35 سنة، فهي أحد
الحلول.
:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.