البرد شديد هنا، ملابسي الخفيفة التي نمت بها بللها المطر، لم أمت من الردم، فهل سأموت من البرد؟ الموت؟ عند المفاجآت تقول عجائز قريتنا: (جاءك الموت يا تارك الصلاة)؛ وأنا تارك للصلاة
سريري يهتز بقوة، أشعر أنه يهوي بي من مكان شاهق، أصوات عنيفة، ضجيج مزعج يجتاح
مسمعي، أشياء كبيرة تتكسر، أسمعها برغم ضعف سمعي، وفي غياب السماعات الطبية التي
خلعتها قبل نومي، ما هذا؟! سريري يقفز بي للأعلى، ثم يحطّ كضفدع قميء، خزانة
الملابس المحاذية لسريري شاركت في الاحتفال، أتعبها الرقص فاستندت برأسها إلى
الجدار المقابل لترتاح، أحدثت مع السرير كهفًا ضيِّقًا أجد جسدي محشورًا فيه، ما
الذي يحدث؟ لا يمكنني استيعاب ما حصل.
أطرافي ترتجف، قلبي يخفق بشدة يريد مغادرة قفص أضلعي، أصرخ بأعلى صوتي، أستغيث،
مَن يسمعني؟ من يستجيب لندائي؟ لن يسمعني أحد، لا جيران حولي يعلمون بحالي،
الجيران؟ وما الجيران؟ مَن منهم يَرقى لمستوى التحدُّث إليَّ أو إلقاء السلام
عليَّ؟
أنا ظافر، الوزير السابق والمرشح لوزارة جديدة، وهم من أثرياء مجتمعهم، لست منهم،
ولن أتنازل لبناء علاقة مع أي منهم، ولا أسمح لأهل بيتي بشيء من هذا، لكني لست الآن
في بيتي، أنا في الفندق.
منذ وفاة أمي ما عاد أحد يُوقظني من كوابيسي الليلية، أمي هي الوحيدة التي أسمح لها
بالنوم على مقربة مني، زوجاتي أختار لهن دائمًا غُرَف نوم بعيدة عن غرفتي، لا أريد
لواحدة منهن الاطلاع على ما أتلفظ به أثناء نومي، هل سأموت الآن؟ لا، لن أموت، هو
كابوس مثل كل الكوابيس، سأصحو منه الآن، سأصحو.
إبهام قدمي يؤلمني بشدة، في كل الكوابيس يمسك شيء ما بجزء من جسدي، يضغط عليه
فيؤلمني، مرة قدمي، ومرة أنفي أو أذني، شعر رأسي، أتألم ثم أنسى، شيء واحد يتكرر
دائمًا ولا أنساه، أجدني في مكان ضيّق شديد الظلمة كمثل حالي الآن، أصرخ خائفًا،
أستنجد، أستغيث، ولا مغيث، أبكي كالأطفال، ثم أصحو متعبًا مرهقًا، أنام بعده نومًا
عميقًا، وأنسى حين أصحو مكان الألم، بل أنسى تفاصيل ما جرى.
نعم هذا كابوس، مثل كل الكوابيس التي تنتابني فور نومي، سأصحو منه بعد قليل، بل
سأنام، ثم أصحو وأنزل إلى المطعم لأشرب قهوتي وأتناول فطوري، ثم لأقابل تاجر
العقارات الذي ينزل معي هنا في الفندق ذاته، وسيكون معه المسؤول المالي لشركتي
الجديدة التي أسَّستها هنا، في هذا البلد.
قطرات ماء تسقط على وجهي، كأنها مطر، بل هي المطر، أنا أفكر بشكل عاقل، ليس هذا
بهذيان نائم، ما الذي حصل؟ ليت أحد يخبرني، أنا مُحاصَر بين الجدار وخزانة الملابس
النائمة فوق سريري، كأنني في تابوت، كأنني في قبر، لا.. أنا لم أمت بعدُ، نور ضعيف
يتسلل من شقوق في الجدار فوق رأسي، نور الفجر، هذه حقيقة وليست أحلام منام ولا
كوابيس، لا بد أن زلزالاً وقع هنا؛ فهدم الفندق الذي نزلت فيه، أنا الآن تحت
الأنقاض، حسرة عليك يا ظافر، ستموت هنا؟ لا.. لن أموت.. لا بد أن يتنبه موظفو
الفندق لوضعي فينتشلونني، فلأبحث تحت وسادتي، جميل، هذه إحدى سماعاتي، سأضعها في
أذني، لا أصوات من حولي، ولا ما يشير إلى وجود بشر أحياء، هل ماتوا كلهم؟
البرد شديد هنا، ملابسي الخفيفة التي نمت بها بللها المطر، لم أمت من الردم، فهل
سأموت من البرد؟ الموت؟ عند المفاجآت تقول عجائز قريتنا: (جاءك الموت يا تارك
الصلاة)؛ وأنا تارك للصلاة، أحاول أن أتذكر ما في جعبتي من صالح الأعمال فلا أجد
شيئًا، أواجه موتي هنا الآن وحيدًا، لن يتعرَّف على جثتي أحد، ولن يهتدي لمكان موتي
أحد، جئتُ متخفيًا بجواز سفري الأجنبي، في كل مكان سكنته كنت أحيط نفسي بسور من
الحراس، أما الآن فلم أفعل، ظننت أني سأكون آمنًا في هذه البلدة الصغيرة الضائعة في
جوف غابات من الزيتون، سكانها لا يلقون بالاً للغرباء الذين يعبرون فنادقها، خادمي
ليس هنا، ذهب إلى العاصمة لإتمام بعض الإجراءات المتعلقة بإقامته، ومراجعة سفارة
بلاده، أنا لا أحتاج شيئًا من هذا، حصلت سرًّا على جنسية بلد يُخوّلني جواز سفره
الدخول إلى هذا البلد متى شئت، جئت إلى هنا متخفيًا، لم أخبر أحدًا بأمري كيلا
يتأثر مركزي السياسي، خادمي شاب نشيط يتقن عدة لغات، لا يعرف عني سوى أنني...
أنني ماذا؟! لقد كذبت عليه، أخبرته فقط باسمي الأجنبي، وأني رجل أعمال جئت لإنشاء
شركة هنا، أخبرته أنني أخذت الجنسية الإيطالية عن أبي الذي كان يعمل بحارًا، وفي
الحقيقة إن أبي لم ير البحر في حياته، لقد تركته يرعى أغنامه وسافرت إلى العاصمة
لألتحق بالجامعة، ثم وجدت عملاً هناك، فما عادت تناسبني حياة الريف التي يعيشها
أبي، استقر بي العيش في العاصمة، واجتهدت حتى صرت وزيرًا، وصار لديَّ الكثير من
الأموال.
أمي في زياراتها لي في العاصمة، كانت توقظني من كوابيسي، زاجرة مُؤنِّبة، كأني طفل
بين يديها، تقول: ستظل هذه الكوابيس تلاحقك ما دمت مستمرًّا في إلحاق الأذى بالناس،
وما دمت مستمرًّا في جَنْي المال الحرام، وأنا أعاهدها أن أتوب عن الأذى بعدما أجمع
ثروة تكفيني وتكفي أبنائي. تقول: هذا مال حرام، لن تسعد به أنت ولا أبناؤك، أمي
ساذجة حمقاء لا تفهم لغة العصر، أَعِدُها بالطاعة، وأمضي لما بدأت به.
الحجارة تتساقط فوقي من السقف، ترتطم بحافة سريري وبخزانة الملابس، أين أموالي؟ أين
وزارتي؟ أين أمي توقظني... ضاع مني كل شيء، كل شيء ضاع.
يا أمي.. تعالي إليَّ، أقسم لك أني تبت الآن، سأبدأ الصلاة، سأُعيد الأموال إلى
أصحابها، سأتبرأ من المظالم كلها.. يا أمي... يا إلهي.. يا ربي.. كن معي.. أنقذني،
وأنا الآن أعلنها توبة.
هزة أرضية قوية أخرى، أسقطت ما تبقَّى من سقوف وجدران ذلك الفندق، بل هدمت مدينة
كاملة، عربات الإطفاء، عربات الإسعاف، الآليات الثقيلة المعدة لفتح الطرق أثناء
طغيان الثلوج، كلها غمرها الركام، وبين ذلك الركام، سُحقت جثة رجل أجنبي كان نزيلاً
لفندق لم يَنْجُ منه بشَر، وكان اسمه ظافر.