• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الولايات المتحدة الأمريكية وشبكة العنكبوت

اليوم ماكرون ذاته الذي كان يُبشِّر بموت حلف الناتو، صار هو مَن يدعم دخول دول جديدة للحلف، وصار الأوروبيون مُتعلِّقين جميعهم بأستار الحلف بزعامة الولايات المتحدة.


بعد أن وقعت الفلبين تحت الاحتلال الإسباني لمدة ثلاثة قرون، وتحديدًا في أبريل من عام 1898م نشبت الحرب الفليبينية الأولى بين الولايات المتحدة والفلبين، والتي جاءت بعدما ضجَّ الناس من الاستعباد والظلم الإسباني، وقرَّروا أن يتحرَّروا من مُحتلّيهم؛ وعندها وجدوا الولايات المتحدة تمدّ لهم يَد العون بالسلاح والخطط والتدريب، وتُحدِّثهم عن الحلم الأمريكي والحرية والعدالة.

ولما دانت للفلبينيين ثمرة جهودهم، وانهزم الإسبان، وقرروا سحب جنودهم، وشرع المناضلون في إعلان دولتهم للعالم، كان من المتوقع أن تكون الولايات المتحدة أول مَن يعترف بتلك الدولة الناشئة.. لكنَّ الذي حدث هو أن الولايات المتحدة -راعية الحريات-، تفاوضت مع الإسبان حتى يُسلِّموا لهم السلطة في الفلبين مقابل قَدْر من المال، وهو ما حدث في اتفاقية باريس؛ حيث قررت الولايات المتحدة دفع 20 مليون دولار لإسبانيا لضمّ الفلبين إلى سيطرتها؛ وتضمنت الاتفاقية أن تتنازل إسبانيا للولايات المتحدة عن الأرخبيل المعروف باسم جزر الفلبين، والجزر الواقعة حولها.

في الأخير نجحت الولايات المتحدة عبر مساعدة الفلبينيين وتضحياتهم في أن تجعلهم تابعين لها لا لغيرها؛ فسلبتهم حُرّيتهم بأيديهم ودمائهم!!

*   *  *

منذ فترة زمنية قصيرة، وقبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية؛ بدأت اتهامات الأوروبيين تجاه حلف الناتو تتعالى، وسط موجة من فقد الثقة بالحلف؛ فقد صرَّح الرئيس الفرنسي ماكرون لمجلة «ذي إيكونوميست» بأن حلف شمال الأطلسي في حالة «موت سريري»، وأن على أوروبا أن تتدبر أمرها العسكريّ بعيدًا عن الولايات المتحدة... كان هذا منذ أعوام قليلة.

واليوم ماكرون ذاته الذي كان يُبشِّر بموت حلف الناتو، صار هو مَن يدعم دخول دول جديدة للحلف، وصار الأوروبيون مُتعلِّقين جميعهم بأستار الحلف بزعامة الولايات المتحدة.

*   *  *

إنها خيوط العنكبوت الأمريكية التي تنسجها بهدوء شديد حتى تقع ضحيتها بين شبكتها مُستسلِمَة تمامًا، داخلة بأرجلها إلى المصيدة طائعةً مختارةً.

فمن خلال الحرب الروسية الأكرانية -التي حاكت فصولها المخابرات الأمريكية- نجحت الولايات المتحدة في إحياء حلف الناتو، بل وضمّ دول أوربية أخرى ما كان يُتوقع أن تكون عضوًا في الحلف، وهي التي كانت تنتهج الحياد منذ خروجها من حلف وارسو السوفييتي قديمًا.

وعبر آليات دعم أوكرانيا نجحت الولايات المتحدة أيضًا في سحب الأسلحة الروسية من جيوش تلك الدول الداخلة إلى الحلف عبر بيعها أو التبرع بها لأوكرانيا، لتُستبدل بالأسلحة الأمريكية، ما يعني ارتباطهم بها مستقبلاً بعد أن صارت عضوًا في الحلف الغربي.

ثم تم حصار روسيا، خاصةً بعد ضم السويد للحلف، وهو ما يعني أن بحر البلطيق سيصبح كليًّا تحت إمرة حلف الناتو، ويعني كذلك حصار لينينغراد الروسية، والتي تعتبر شريانًا يُغذِّي روسيا على بحر البلطيق.

إن الولايات المتحدة تعلم أن الصين تُعدّ أكبر المنافسين المحتملين لها، لذا فقد سعت لتحييد روسيا، وأيًّا ما كانت النتائج؛ فإن الروس سيخرجون مُنهَكين من الحرب عسكريًّا واقتصاديًّا. ما يعني التفرغ مستقبلاً للمنافس المُقبِل «الصين» في هدوء، وتجريده من حلفاء محتلمين.

*   *  *

العبرة من ذلك أن الولايات المتحدة نجحت في مدّ شبكتها حول ضحيتها الأولى الفلبين، والثانية الأوروبيين، ومن خلفهم الروس، ما بين تابع ذليل وعدو حسير!!

هذه هي الولايات المتحدة!! إمبراطورية نشأت على خلاف الإمبراطوريات القديمة؛ حيث كانت الاحتلال العسكري المباشر هو الأداة لبسط السيطرة والهيمنة؛ فتمتد حدود الإمبراطوريات قديمًا إلى حيث يقف آخر جندي من جنودها.

لكنَّ الولايات المتحدة تبدو نوعًا آخر من الإمبراطوريات؛ فبدلاً من احتلال الدول مباشرةً، وهو ما قامت به أحيانًا، لكنَّه في الأخير لم يكن هو نَهْج السيطرة العالمية في استراتيجيتها التي خطَّتها للهيمنة على العالم.

لقد أقامت الولايات المتحدة إمبراطورية تعتمد في المقام الأول على السيطرة المؤسساتية بدل السيطرة الجغرافية؛ فهذه الإمبراطورية المؤسساتية التي أرست الولايات المتحدة دعائمها، تضمن -من خلال مؤسساتها وهياكلها- أن تحظى المصالح الأمريكية بالأولوية، وأن تُمنَح أهميةً أكبر قياسًا بمصالح الشركاء الآخرين.

فالولايات المتحدة التي أنشأت الأمم المتحدة، وسيطرت على تلك المؤسسة العالمية، والتي هي أحد أدواتها للسيطرة والهيمنة؛ حيث لا توجد حكومة في العالم تحظى بالاعتراف إلا بعد أن تعترف بها المؤسسات التي أنشأتها الولايات المتحدة. ولنا في أفغانستان مثال صارخ، فثمة حكومة مسيطرة على الأرض، ومن دون معارضة تُذْكَر، مع شعب وحدود، لكن لأن الولايات المتحدة لا تريد أن تعترف بها، فلا المؤسسات الدولية تجرؤ على ذلك، ولا أيّ من الدول أيضًا.

إنه لا شيء يخرج عن نطاق السيطرة الإمبراطورية الأمريكية؛ سواء عبر المؤسساتية أو عبر الهيمنة الاقتصادية، وما يتبعها بعد ذلك من الهيمنة الفكرية، فشركات التواصل الاجتماعي مقراتها كلها في الولايات المتحدة، والأفكار تنبع من ثنايا ما تبثّه تلك الآلات الإعلامية الجبّارة، فتمتطي عقول الناس من دون أن يشعروا بذلك.

والحقيقة أننا لن نستطيع الهروب من براثن عدوّنا إلا بعد أن نفهمه جيدًا، ونعلم سر قوّته ومواضع ضَعْفه، والعجب ممن يستهينون بقوة الولايات المتحدة، والحزن على من يستسلمون لها.

إنَّ عدوًّا مهما بلغ من قوَّة، حتى وإن كان مُدجَّجًا بالسلاح ومُدرَّعًا بالحديد من رأسه إلى أخمص قدمه؛ فإنه لن يخلو من ثغرة مقتله، لا يعلمها إلا مَن أخَذ الأمر على محمل الجد، غير مُستهين بخَصْمه، ولا مُستضعِف لنفسه؛ فدَرْس الوعي أول الطريق بعد الإيمان بالله، واليقين بأن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أعلى