الواقع أن بناء المخازن والأهراء كان مزدهرًا بالأندلس، وذلك راجع إلى المميزات المناخية والتضاريسية.
شكَّلت الكوارث الطبيعية إحدى الثوابت البنيوية التي ميَّزت التاريخ الاجتماعي
لبلاد المغرب والأندلس طيلة العصر الوسيط. ونتيجة لما كانت تُخلّفه في النفسيات من
الخوف من المجاعات والغلاء والجفاف... إلخ، فقد كان لهذه الكوارث تأثير كبير على
عقليات والسلوكيات الغذائية لدى المغاربة والأندلسيين.
إن الخوف من المستقبل ومَكْر الطبيعة؛ دفَع الإنسان المغربي والأندلسي إلى تبنّي
سلوك احترازي يتمثل -تحديدًا- في سلوكيات الخزن والادخار؛ لمواجهة شَبح الجوع
والفاقة. ولذلك، فقد كان التفريط في هذا السلوك يعني الهلاك، كما أكد ذلك ابن خلدون
بقوله:
«إذا
فُقِدَ الاحتكار -أي الادخار- عظم توقع الناس للمجاعات”. من هنا، تجذرت سلوكيات
الحيطة والحذر من عوادي الزمان، في الثقافة الشعبية وفي ذهنيات الإنسان بالغرب
الإسلامي.
تخزين الطعام/ الغذاء
إبَّان المجاعة العظيمة التي ضربت مدينة سبتة المغربية عام 1239م، ونظرًا لما
خلَّفته من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية مهولة؛ اتَّجه أهالي المدينة إلى خَزْن
الطعام في المطامير كل عام؛ حذرًا من مثل هذه المجاعة التي لم يسبق مثلها[1].
وتجدر الإشارة إلى أن مواضع بناء المطامير والأهراء للتخزين، يتم وفقًا لمعايير
محددة، تضمن سلامة الأطعمة المُدَّخَرة؛ إذ كانت المطامير تُبْنَى في
«الأرض
الصلبة التي لا يُخاف عليها التغوُّر ولا التهدم»[2].
لكن على الرغم من هذه الاحتياطات والتدابير، لم تسلم الأقوات المخزَّنة من التلف
والفساد في كثيرٍ من الأحيان؛ نظرًا لطبيعة المناخ في بعض المناطق، مثل مالقة التي
وصفتها الكتابات التاريخية كالتالي:
«طينها
يشقى به قطينها، وأزبالها تحيي بها أسبالها (...) فسحنها متغيرة (...) وأزقتها لزجة
غير واسعة، وآبارها تُفسدها أزفارها، وطعامها لا يقبل الاختزان، وفقيرها لا يفارق
الأحزان، وجوعها ينفي به هجوعها»[3].
وأشار ابن الخطيب، بأن الطابع نفسه يسري على مدينة سلا المغربية. هذا على عكس مدينة
مكناسة التي توافرت فيها جميع شروط الادخار والسلامة.
الواقع أن بناء المخازن والأهراء كان مزدهرًا بالأندلس، وذلك راجع إلى المميزات
المناخية والتضاريسية. فمطامير
«طليطلة
لا تتغير حنطتها، ولا تتسوّس على طول السنين يتوارثها الخلف عن السلف»[4].
وبلغة الأرقام، كان قمحها
«يقيم
ثمانين سنة مخزونًا في صهاريج، فلا يزيدها مدة الخزن إلا صفاء ولا طول المكث إلا
جدة»[5].
إن الأندلسيين مشهود لهم بالخبرة والحنكة، في التخزين والادخار
«ففواكههم
اليابسة عامة العام متعددة، يدخرون العنب سليمًا من الفساد إلى ثلثي عام، إلى غيره
من التين والزبيب والتفاح والرمان والفسطل والبلوط والجوز واللوز، إلى غير ذلك مما
لا ينقطع مدده، إلا بفضل الزهد في استعماله»[6].
وقد ساهم الصراع مع القوى المسيحية، في زيادة اهتمام الأندلسيين بسياسة التخزين؛ إذ
إن الحصون والثغور الموجودة على خط التماس مع العدو الكاثوليكي، تتطلب توفرها على
مستودعات لخزن الغذاء.
من جهة أخرى؛ عد التخزين بالنسبة للدولة بالغرب الإسلامي مسألة استراتيجية؛ إذ كان
تدبير المخازن، يُعْهَد إلى عمال المدن وولاة الأقاليم، أما الإشراف العام فيبقى
للخليفة. وفي مسعًى لحمل هؤلاء الولاة على التفاني في عملهم وحوكمة هذا القطاع؛ فقد
مارست الدولة سياسة تُزَاوِج بين السخاء والمنح، وبين الشدة والعقاب. ونقف هنا على
مثال الخليفة الموحدي بالمغرب (أبي يعقوب يوسف)، الذي قام بزيارة لتفقُّد المخازن
عام 1183م، وكان بالمناسبة عام شدَّة وضيق، تبيَّن له أن بعض المخازن تعرَّضت
للنَّهْب من لدن المشرفين عليها، فبالَغ الخليفة في محاسبتهم وأودعهم السجن، كما
صادر أموالهم وأملاكهم.
تخزين المياه
حتَّمت دورات الجفاف والقحط على الإنسان بالغرب الإسلامي، ضرورة تأمين الماء الصالح
للشرب. وفي هذا الصدد تم بناء صهاريج باطنية لخزن مياه التساقطات. ويحكي ابن الخطيب
عن مشاهداته بالمغرب، وبالضبط في منطقة دكالة، التي وجدها تزخر بمخازن المياه والتي
سماها بـ
«نطاف»،
فقال: إن سقي أهاليها من
«نطاف
عذبة تختزن بها بركات الأمطار فيقع بها أمنهم إلى زمن المطر».
كما كان أهل مراكش يقومون بجمع مياه الأمطار ومياه الأنهار الجارية، في صهاريج
أطلقوا عليها وسم
«برك».
ويذكر أن الصهريج في لغة المغاربة يعني
«البركة».
وقد أكَّد أحد المؤرخين القدامى، أهمية وقيمة هذه الصهاريج، التي بها يستمر الإنسان
والحيوان والنبات. علمًا بأن مراكش منطقة تندر فيها المياه ومناخها جافّ، إذا كان
«يطير
الطائر حولها فيسقط من العطش والرمضاء».
في الختام
على ضوء ما سبق؛ يتضح أن الجوائح الطبيعية كان لها تأثير جد بالغ في سلوك الإنسان
المغربي والأندلسي، ناهيك عن أضرارها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. وقد
كانت استراتيجية التخزين، سلوكًا وثقافة ترسَّخت في ذهنية هذا الإنسان، في إطار
الصراع مع الطبيعة وغريزة البقاء التي تميز البشر عمومًا.
ونود الإشارة هنا، إلى أن تاريخ الجوائح خلّف ترسبات في ذهنيات الإنسان المغربي؛ إذ
ما تزال إلى اليوم، ثقافة الخزن والتخزين مستمرة وحاضرة في المناطق الريفية، فيما
يسمى
«بيت
الخزين»،
وهي غرفة بالمنزل خاصة تحوي احتياطات من الحبوب والزيت والعسل والقطاني... إلخ،
لمواجهة تقلبات الزمان/ الطبيعة.
[1] البياض، عبد الهادي، الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك وذهنيات الإنسان في
المغرب والأندلس، دار الطليعة، بيروت، ص 196.
[2] نفسه، ص 198.
[3] المرجع والصفحة نفسهما.
[4] نفسه، ص 199.
[5] نفسه، ص 200.
[6] المرجع والصفحة نفسهما.